في أيار مايو 1995، سلَّم جاك بيرك مخطوطته "موسيقى على النهر" أو "أجمل صفحات من كتاب الأغاني" إلى "دار ألبان ميشال للنشر" في باريس. وبعدها بشهر، أودت السكتة القلبية بحياة المستشرق الكبير. كان بيرك تحدث عن هذا المشروع إلى "الوسط"، قبل ثلاث سنوات، في فندقه الباريسي المفضل، وإلى جانبه رفيقة دربه جوليا التي يشير في مقدّمة الترجمة إلى دورها الأساسي في مساعدته على دخول هذه المغامرة وهو على عتبة الثمانين. وتمنّى جاك بيرك خلال ذلك اللقاء ألا يموت قبل إنهاء مشروعه. فكان له ما أراد، هو الذي كرّس حياته لاكتشاف الحضارة العربية ودراستها والتعريف بها. وفي هذا السياق تندرج ترجمته مختارات من "الأغاني" إلى لغة موليير، إذ كان يرغب في اعطاء فكرة واضحة عن هذا الكتاب المرجعي، إلى القارئ الفرنسي والغربي بصورة عامة. أما اختياره للنصوص فكيفي، كما يقول، لكنه يؤدي فكرة أمينة عن الأصفهاني، إذ تعبّر عن وجهة نظر عصره ووجهة نظره الخاصة في النقد. قسم جاك بيرك مختاراته إلى محاور عدّة، الأساسي بينها هو "الموسيقى". لكن لا بدّ للقارئ أن يكون موسيقياً تقنياً كي يحيط بكل ما ورد في "كتاب الأغاني". والمحور الثاني الذي تركز عليه الترجمة هو محور الشاعر والشعر، ومحور السلطة من خلال الشعر. ومن الأسباب التي دفعت بيرك إلى تنفيذ هذا المشروع، أن "الأغاني" كتاب "دنيوي"، أدبي محض، يضم باقة من النصوص النقديّة التي لا مثيل لها في آثار تلك الحقبة القرن العاشر للميلاد. قال لنا المستشرق الراحل يومها: "أذكر مقطعاً عن الشاعر ابن المعتز بالغ الأهمية على مستوى التحليل، كشف لي عن نقد متقدم جداً وعن ذهن عصري لتقديم الشعر العربي في البنية والنغم. واللغة العربية في كتاب "الأغاني" وصلت إلى بساطة مدهشة وتعبيرية خارقة حقاً. وانا أُترجم نصوص الأغاني لهذا السبب أيضاً ولأبيِّن الجمالية اللغوية العربية حتى بعد نقلها إلى الفرنسية. الشعر العربي موسيقي بحد ذاته. والموسيقى العربية ولدت مع الشعر نوعاً خاصاً بها، يختلف عن سواه. ونحن نقف في كتاب الأغاني على تفاصيل هذا التوالد".