بعد غياب عن تونس لمدة ست سنوات قام الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بزيارة رسمية لتونس اعتمد فيها الطريق البري "لربط الصلة" مجدداً مع تونس الأعماق، ووصفت الزيارة من قبل الأوساط الرسمية التونسية بأنها "زيارة اخوة وعمل". وكانت آخر زيارة رسمية للقذافي الى تونس حصلت لمناسبة انعقاد القمة المغاربية الأولى في كانون الثاني يناير 1990 بعد انشاء الاتحاد المغاربي في مدينة مراكش في شباط فبراير 1989. وزار القذافي تونس في مطلع العام الحالي حيث التقى الرئيس زين العابدين بن علي على الحدود. وأمام استحالة قدومه بالطائرة تنفيذاً للحظر الجوي المفروض على الجماهيرية من قبل المجموعة الدولية فإن العقيد القذافي تمنى على السلطات التونسية خلال لقاءات ترتيب زيارته أن تتوافر له الفرصة لتحقيق أكبر قدر من الالتقاء بأفراد الشعب التونسي مباشرة. وعند وصوله الى الحدود في الصباح المبكر ليوم 28 تشرين الأول اكتوبر الماضي لم يتجه كما هو الأمر عادة الى جزيرة جربة القريبة من الحدود التونسية - الليبية لركوب الطائرة، بل استقل السيارة بصحبة وزير الداخلية التونسي محمد جغام الذي استقبله في النقطة الحدودية رأس جدير متجهاً الى داخل البلاد مروراً بمختلف مناطق الجنوب في اتجاه مدينة القيروان التاريخية التي تعتبر العاصمة الدينية لتونس حيث كان في استقباله الوزير الأول. وقد نظمت للقذافي مراسم استقبالات شعبية على طول الطريق الطويلة بين الحدود الواقعة في أقصى جنوب البلاد والعاصمة في الشمال، فيما كان طابور طويل من السيارات التي رافقت العقيد من ليبيا تضم عدداً مهماً من الشخصيات الرسمية والمرافقين والحراس الشخصيين. وفي العاصمة وشوارعها سار القذافي بصحبة الرئيس بن علي جنباً الى جنب بين صفوف متراصة من المواطنين، وفقاً لرغبة العقيد ذاته الذي تمنى بإلحاح أن تتوافر له الفرصة للقاء شعبي مباشر، نظراً الى اعتقاد بأن شعبيته تبقى كبيرة في الشارع العربي أينما كان. وفيما كان القذافي يشير بيديه في حركات عناق موجهة الى المستقبلين كانت الهتافات تتجه الى الرئيس بن علي والصور المحمولة غالباً صوره، وهو ما لم يمنع العقيد من رسم ابتسامة عريضة تعبيراً عن سعادته بهذا اللقاء الشعبي الذي اعتبره على ما يبدو ناجحاً ومحققاً رغبة دفينة لديه في لقاء مع "الجماهير"، إذ أنه لم يقتنع بما حصل في زيارة رسمية سابقة في سنة 1988 بالاكتفاء بالقاء خطاب في مجلس النواب على أساس ما يؤمن ويبشر به بأن ما يسميه بالديموقراطية المباشرة هي الأساس وأن التمثيل والنيابة أمر غير مقبول وأن العلاقة المباشرة مع الشعب هي الديموقراطية على شاكلة ما كان يحصل في اليونان قبل أكثر من 2500 سنة، وان لم يرفض العقيد التوجه الى الشعب عن طريق نوابه أي عن طريق البرلمان في خطاب ركز فيه على العلاقات الاخوية بين البلدين وشكر فيه المسؤولين التونسيين على ما يبذلونه من جهد "لرفع الحصار الظالم المفروض على الشعب الليبي" وان كانت لهجة هذا الخطاب اعتبرت هادئة مقارنة بالخطب العادية الملتهبة التي يلقيها هذه الأيام الزعيم الليبي. وفي غياب معلومات رسمية أو شبه رسمية عن أهمية الوفد المرافق للعقيد القذافي فإن عدداً من الجهات التي كانت لها فرصة الاقتراب من الوفد بصورة أو بأخرى أكدت الأهمية العددية للمرافقين للقذافي. وإذ تم اسكان العقيد القذافي في قصر السعادة في المرسى، وهو قصر يعود أصلاً الى فترة العائلة المالكة السابقة البايات. فقد تمت الاستجابة لرغبته في القيروان حيث تناول الغداء بصحبة الوزير الأول التونسي الدكتور حامد القروي تحت خيمة كبيرة نصبت خصيصاً لذلك. واللافت ان أي برنامج رسمي لم ينشر وإن تم التعرف تقريباً على برنامج نشاط القذافي بالعودة الى ما عرف من لقاءات كان مقرراً عقدها، من ذلك لقاء "مهم" مبرمج مع بضع عشرات من "المثقفين" الذين تم اختيارهم للتحاور معه في القضايا السياسية والوحدة العربية ومختلف القضايا الأثيرة لديه عادة. وكان مبدأ زيارة القذافي الى تونس قد تقرر خلال زيارة الوزير الأول التونسيلطرابلس لمناسبة اجتماعات اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، ولم يبق الا وضع ترتيبات عملية للقيام بها. وتقول جهات ديبلوماسية في العاصمة التونسية "ان مناسبة عقد اللجنة العليا في شهر تموز يوليو أبرزت لهجة جديدة لدى القادة الليبيين ورغبة أكيدة في تجاوز الخلافات وبدء بناء علاقات "أخوية" جديدة قائمة على التعاون بعد أشهر طويلة من التوتر في علاقات البلدين". وجاء التمني الليبي بأن يقوم العقيد القذافي بزيارة الى تونس مندرجاً في هذا الاطار ودافعاً لتقوية علاقات البلدين، وهو ما تقول الجهات نفسها ان العقيد أكده للوزير الأول التونسي عندما التقاه في ليبيا. ويبدو أن الجانب الليبي "تناسى" المطالب القديمة بأن تتم زيارة قائد الثورة الليبية الى تونس عبر الجو وأن يصل بطائرته من طرابلس الى مطار قرطاج الدولي. وتؤكد مصادر تونسية مطلعة أن موقف تونس كان دائم الوضوح من هذه الناحية، فهي تسعى جاهدة سواء بصورة منفردة أو في الأطر المتعددة الأطراف التي تتحرك من خلالها لرفع الحصار المفروض على ليبيا، لكنها في الوقت نفسه تتقيد بالقرارات الدولية بكل دقة. ومن هنا فإن القذافي الذي لم يكن ليتسنى له أن ينتقل جواً من بلاده وجدها فرصة لتحقيق أمنيته في أن يخترق تونس بالطول ويلتقي "الجماهير" في الأعماق، وهو ما لم تر الجهات التونسية مانعاً منه فوفرت له هذه الفرصة. وإذ كانت اجتماعات اللجنة العليا في طرابلس في بداية الصيف قد مهدت الطريق واتخذت قرارات عدة لتعميق فرص التعاون، خصوصاً رفع المبادلات التجارية التي تمر عبر الطريق الرسمية الى 300 مليون دولار سنوياً ومن الجهتين، فإن الجانبين أكدا ان لقاءات تونس خلال فترة الزيارة التي استمرت حوالي الأسبوع يمكن ان تكون مناسبة لحل كل المشاكل العالقة بين البلدين وايجاد الأرضية المناسبة لعودة التعاون بكل قوة في مختلف المجالات التي سبق ان عرفت عقد اتفاقات لم تجد طريقها الى التنفيذ اذ بقيت حبراً على ورق. ومع انه لم يتسرب شيء عن طبيعة المحادثات بين الجانبين في مختلف المستويات فالمؤكد ان الجانب الاقتصادي فاز بقصب السبق في هذا المجال وان كان المراقبون لم يستبعدوا طرح قضايا سياسية أكثر أهمية للعلاقات بين تونس وليبيا والتشاور حول القضايا الأمنية باعتبار ما تواجهه الجماهيرية من صعوبات في مواجهة ظاهرة التطرف، وكذلك الطريقة التي يمكن اعتمادها لمساعدة ليبيا على ايجاد حل لقضية الحظر الدولي المفروض عليها. وسمحت لقاءات تونس بالبحث في القضايا الاقليمية المغاربية والعربية والاحتمالات القائمة في شأن امكانية عقد قمة الاتحاد المغاربي في الجزائر في وقت قد يكون قريباً جداً بعدما رفع المغرب تحفظه وقرار المقاطعة الذي اتخذه أواخر العام 1995. وفيما عدا القضايا الاقليمية فإن المنتظر هو ان تؤدي هذه الزيارة الى تعميق التعاون بإحياء الاتفاقات السابقة وفتح الحدود بين البلدين لمرور الأشخاص والبضائع بسيولة أكبر وعودة تدفق السياح الليبيين الى تونس وكذلك تشجيع تداوي الليبيين في المستشفيات الخاصة التونسية وهو امر يدر على تونس سنوياً مقداراً مهماً من العملات الاجنبية، باعتبار ان تلك المستشفيات التابعة للقطاع الخاص تعتبر أول ملجأ لعلاج المرضى الليبيين، الى حد ان عدداً من تلك المستشفيات يعمل بأكثر من نصف طاقته للمواطنين الليبيين والجزائريين الذين أصبحوا يفضلون العلاج في تونس على العلاج في اوروبا. ويلاحظ المراقبون ان قنوات تعميق التعاون موجودة ولا تنتظر الا القرار السياسي للانطلاق خصوصاً ان البنك التونسي الليبي قائم وىشتغل ويمكنه ان يمول عمليات التبادل التجاري وقيام المشاريع المشتركة ويكون سنداً للاستثمار الليبي المحتمل في تونس. ومنذ ان بدا ان اتحاد المغرب العربي أخذ بالتعثر فإن السياسة الخارجية التونسية اعتمدت كمدخل لبناء الوحدة المغاربية على تشجيع التعاون الثنائي بينهما وبين مختلف العواصم المغاربية، وهذا ما يفسر قيام الوزير الأول التونسي بزيارات عمل الى العواصم الثلاث طرابلسوالجزائر والرباط. وتحتل مجالات التعاون مع ليبيا مكانة خاصة باعتبار الجوار والقرب جغرافياً وعلى أساس وجود تقاليد قديمة للتبادل التجاري بين البلدين