كانت حكومة أربكان - تشيلر تسير في انسجام لم يسبق لأية حكومة ائتلافية سابقة في تركيا أن عرفته. ويزيد من اهمية هذا التناغم ودلالته كونه بين طرفين نقيضين، اسلامي وعلماني، ما اعتبر، طيّاً لمرحلة وفتحاً لمرحلة جديدة من تاريخ تركيا المعاصر. وما كان لهذا الائتلاف ان يبصر النور لو لم تكن التطورات الداخلية في تركيا، وعلاقاتها الاقليمية، في طريقها الى انفجار محتم، فكان تكليف اربكان، رئيس حزب الرفاه الاسلامي بتشكيل حكومة ائتلافية مع طانسو تشيلر زعيمة حزب الطريق المستقيم العلماني، الصيغة - المخرج من النفق الذي وجدت تركيا نفسها فيه في الاشهر الاولى من العام الحالي. ويبدو التذكير بالعوامل التي استدعت تشكيل الحكومة الحالية في أواخر حزيران يونيو الفائت، أساسياً لفهم اتجاهات السياسة الخارجية لأنقرة في ظل حكومة أربكان - تشيلر. وكان واضحاً أن المبدأ الذي رست عليه الخطوط العامة لهذه السياسة، هو الانفتاح على كل الاطراف الخارجية بدلاً من اعتماد سياسة المحاور والاحلاف. وكان الثمن "المدفوع" متبادلاً بين أربكان وتشيلر: استمرار العلاقات الوثيقة مع الغرب واسرائيل، وتوثيق الروابط مع العالمين العربي والاسلامي. وحظي هذا النهج الجديد بشبه اجماع داخلي، خصوصاً مع دعم المؤسسة العسكرية له. واذا كان تعزيز العلاقات مع العالم الاسلامي، ينعكس ايجاباً على الاقتصاد التركي، مع توسيع حجم التبادل التجاري معه، ولا يمسّ مباشرة الاتجاهات الاساسية للعلمانية والنزعة الغربية داخل تركيا، وهو ما مارسه بنجاح كبير تورغوت اوزال في الثمانينات، ودفع بتركيا الى القيام بدور اقليمي مؤثر، الاّ أن الكثير من الاحداث التي شهدتها المنطقة في الآونة الاخيرة، تطرح تساؤلات كبيرة حول الدور الذي يقوم به نجم الدين أربكان في رئاسة الحكومة، وهو الاسلامي الذي كانت له صولات وجولات مشهودة في عدائه للغرب، واسرائيل. لقد كان جميع معارضي أربكان في داخل تركيا "مطمئنين" الى العثرات التي سيقع فيها، لا سيما ازاء المواضيع الحساسة ذات الصلة بعلاقات انقرة الخارجية. لكن الزعيم الرفاهي فاجأ الجميع بمواقفه الجديدة، المؤيدة للتمديد ل "قوة المطرقة" الغربية المولجة "حماية" أكراد شمال العراق، و"الصامتة" عن التطورات هناك. ولعل أبرز مفاجآته هو اعتباره الاتفاق العسكري بين تركيا واسرائيل اشبه ب "صفقة تفاح" بين بائعين، لا أكثر ولا أقل! صراع الزعامة والاخوان ومع انسداد أفق التغيير في الداخل الدستور والقوانين وفي الاقتصاد التخلي عن الدعوة الى "النظام الاقتصادي العادل" الاسلامي وازاء المسألة الكردية اعتبار حزب العمال الكردستاني ارهابياً، كانت السياسة الخارجية التركية المجال الوحيد المتبقي امام أربكان لممارسة خطّه وتصوّراته وقناعاته الاسلامية. فكانت البداية مع ايران، وسعي أربكان، على رغم تحذيرات واشنطن، الى احاطة الزيارة بضجة كبيرة وبهالة الزعيم الذي يتحدّى القوة العظمى الوحيدة في العالم. وكان اتفاق الغاز الطبيعي الشهير الذي وضعت تفاصيله تشيلر، كما تقول، واتفق عليه منذ أكثر من سنتين عندما كانت رئيسة للحكومة. وبعد جولته الآسيوية كانت "رحلة افريقيا"، التي شملت كلاًّ من مصر وليبيا ونيجيريا. وهنا أيضاً، وكما في رحلته الآسيوية، سبقت الجولة انتقادات أميركية للمحطة الليبية. لكن كان واضحاً، منذ اللحظة الاولى لوصوله الى مصر، أن أربكان، كان ضيفاً على مضض في بلد الكنانة لسببين، هما: دوره الذي تأكد اثناء زيارته في "التسويق" للاتفاق العسكري التركي - الاسرائيلي عبر التخفيف من اهميته واعتباره بمثابة شراء كيلو غرام من التفاح، في حين كان للقاهرة دورٌ بارزٌ في الاشارة الى خطورة مثل هذا الاتفاق على الامن القومي العربي. ويعني ذلك أن أربكان، بعد صمته على أحداث العراق الاخيرة، وتسويقه للاتفاق العسكري مع اسرائيل، يعزّز وجهة القائلين بأنه يحاول زيادة نفوذ تركيا في الشرق الاوسط على حساب الدور الريادي الذي تسعى اليه مصر منذ مدة. اما السبب الثاني فهو ان رئيس الحكومة التركية لم يتخلَّ او يخفف من علاقته الوثيقة جداً مع "الاخوان المسلمين". وانعكس الاستياء المصري من مواقف أربكان في عدم رفع العلم التركي في مطار القاهرة الى جانب العلم المصري، عند وصوله اليها. وكانت هذه "الغمزة" الاولى المتعمدة ضد أربكان وتركيا. أما "الغمزة" الاخرى، فكانت اثناء زيارة ليبيا، عندما انتقد العقيد معمر القذافي وبحضور أربكان، سياسة تركيا الاطلسية والاسرائيلية داعياً الى تقسيم تركيا بإقامة دولة كردية على أراضيها، رافضاً اعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة ارهابية، فضلاً عن اعتباره تركيا بلداً فاقداً للسيادة. أي ان القذافي وجّه رسالتين معاديتين لتركيا: دعم حزب العمال الكردستاني، وتحقير الجمهورية التركية. والمفاجأة التي أذهلت الاتراك هي ان اربكان "لم يردّ الصاع صاعين" واكتفى بكلام في اطار اللياقات الديبلوماسية، ما استدعى حملة قاسية عليه في وسائل الاعلام التركية ودعوته الى الاستقالة. لماذا زار ارباكان ليبيا؟ تمت الزيارة، بالتنسيق مع تشيلر، استمراراً لسياسة الانفتاح على العالم الاسلامي، وأملاً في تحصيل حوالي 300 مليون دولار مستحقات لتركيا على ليبيا هي اموال متعهدين اتراك لم يقبضوها. علماً أن حجم التعهدات التركية في ليبيا كان كبيراً جداً اذ بلغ بين عامي 1970 و1979 ما نسبته 71 في المئة من حجم تعهدات رجال الاعمال الاتراك خارج تركيا، وبين 1980 و1989 بلغت النسبة 60 في المئة قبل ان تتراجع بعد غزو العراقالكويت وتبلغ بين 1990 و1996 11 في المئة فقط، مع الاشارة كذلك الى ان تركيا كانت الثانية بعد الاتحاد السوفياتي مباشرة في حجم المقاولات داخل ليبيا. ومع أن جانباً من هذه المستحقات ستدفعه الحكومة الليبية، الاّ أن ارباكان لم يستطع ان يقفل هذا الملف نهائياً. والهدف الثاني للزيارة متصل بشخصية أربكان ورغبته بممارسة دور الزعامة في العالم الاسلامي، من خلال محاولة كسب عطف الرأي العام الاسلامي وتأييده بالقيام بزيارة "تحدٍّ" الى طرابلس على رغم معارضة واشنطن وتحذيرها له. ومع انه لا يمكن اهمال العلاقات السابقة بين حزب الرفاه والقذافي والاشاعات الدائمة حول تمويل الزعيم الليبي لبعض نشاطات الرفاه، الاّ أن "الحركة الاعلامية" للزعيم التركي تحوّلت الى هدف بحدّ ذاته، خارج تركيا، كما لدى الرأي العام التركي، خصوصاً بعد ادراكه أن وجوده في السلطة لا يقدّم ولا يؤخر كثيراً في مبادئ السياسات التركية، داخلياً وخارجياً، والامثلة على ذلك في المئة يوم الاول من عمر الحكومة أكثر من أن تحصى. أهداف القذافي ومع ذلك هناك من يرى في تهجمات القذافي محاولة مقصودة لاصابة بضعة عصافير بحجر واحد: الاول ان القذافي بانتقاده سياسة تركيا الاطلسية انما يوجه رسالة الى الغرب مفادها انه لا يزال قوياً ومستعداً للمواجهة. الثاني أن احراج اربكان، الزعيم الاسلامي، هو رسالة الى المعارضة الاسلامية داخل ليبيا من ألاّ تتشجع بوصول زعيم اسلامي الى سدة السلطة في تركيا. والثالث ان القذافي يريد الانتقام من دور الاتراك ضد العرب في الماضي بمحاولة تحريض الاكراد والاتراك على الاقتتال. اما الهدف الرابع من احراج أربكان، ولعله الاهم، فهو ان القذافي لا يريد لحزب الرفاه ان ينجح في تجربته في السلطة ويتحول بالتالي الى نموذج للحركات الاسلامية، كما للسلطات، في عدد من الدول العربية ومنها ليبيا. ولم تقف زيارة أربكان لكل من مصر وليبيا عند حدود مفاجآتها السلبية، بل تحوّلت الى مادة خصبة للنيل من رأس الحكومة ومحاولة اسقاطها. ويعترف قادة الرفاه وحزب الطريق المستقيم ان ما حصل خلال زيارة أربكان لمصر و ليبيا عكس "عدم الاعداد" الكافي لهذه الجولة، وبالتالي "قصور" الديبلوماسية التركية عن التحضير الجيد لها من خلال استباقها بلقاءات على مستوى ادنى ومتنوع بين مسؤولي البلدين، وعدم اختيار التوقيت المناسب، وعدم اجراء التنسيق الكامل بين طرفي الائتلاف، وظهر ذلك من خلال تهديد وزير الداخلية محمد آغار بالاستقالة. كل ذلك جعل أربكان يجد نفسه في "ورطة" فعلية، كما في مطار القاهرة، كذلك ازاء مواقف القذافي العلنية التي لا تعير اعتباراً للياقات الضيافة. وهذه الازمة حصدت كثيراً من رصيد أربكان - تشيلر داخل تركيا، وأظهرت أن السياسة الخارجية هي نقطة ضعف الائتلاف الحاكم التي قد تودي به. ولم تتأخر المعارضة في اغتنام الفرصة فوصفت الزيارة الى ليبيا بأنها "فاجعة" و"مخجلة"، واعتبرها مسعود يلماز زعيم حزب الوطن الام بأنها الازمة الاكبر في تاريخ تركيا. فيما توعد دينيز بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري بمحاسبة الحكومة الحالية امام البرلمان. اما بولنت اجاويد، زعيم حزب اليسار الديموقراطي، والذي كانت له علاقات جيدة مع القذافي، فاكتفى بالدعوة الى عدم توقيع محاضر المحادثات مع ليبيا. غير ان اللافت هو ان ما جرى لأربكان في ليبيا، حسب بعض المفكّرين الاتراك وفي مقدمتهم عبدالرحمن ديليباق، قد تمّ تضخيمه في وسائل الاعلام بصورة لم يسبق لها مثيل. ويرى ديليباق ان الهدف من وراء هذا التضخيم هو الحؤول دون استمرار تركيا في القيام بدور ايجابي في العالم الاسلامي، من جهة، وبالتالي اخراج حزب الرفاه من السلطة ومعه تصفية تشيلر، من جهة ثانية. وبرأي ديليباق ان هذه الحملة تتم بالتنسيق بين لوبي داخلي ولوبي اسرائيلي، وخرجت عن حدود المعقول وتعكس ازمة فساد اخلاقي لدى الطبقة السياسية في تركيا. وتعتبر زيارة أربكان لكل من مصر وليبيا "درساً بليغاً" للنهج الجديد في السلطة في تركيا، وغنية كذلك بالعبر والدلالات. وما لم يكن متوقعاً، هو ألا تقتصر محاولات ضرب النموذج التركي الجديد على الداخل التركي بل انضمام قوى خارجية الى هذه المحاولات، والجميع في انتظار ما سيكون عليه النهج المستقبلي لأربكان بعدما "ضُرب من بيت أبيه".