عادت غيوم الأزمات تلبد سماء تركيا من جديد. فخلافاتها مع أثينا والقبارصة اليونانيين على خلفية نشر صواريخ روسية من طراز إس 300 في جزيرة قبرص، أصبحت تنذر بمواجهات عسكرية. وتعاونها العسكري مع اسرائيل، والذي يلح مسؤولوها على القول انه لا يستهدف أحداً، أصبح يثير مخاوف عربية كبيرة، خصوصاً بعد تزايد وتائره وتردد الأنباء عن نية اسرائيل اقامة قاعدة جوية في شرق تركيا. وعلى رغم ان أنقرة بادرت الى النفي، إلا أن الدول العربية التي تعاني من مشكلات عويصة مع اسرائيل، وتتلقى بكثير من القلق تقارير اسرائيلية تشير الى امكانية اندلاع حرب أخرى قبل نهاية القرن الحالي، لم تعد في وضع يساعدها على تصديق النفي أو الاطمئنان الى أهداف ذلك التعاون. وعلى صعيد آخر، عادت توتراتها مع أرمينيا الى التفاقم بعد وصول الرئيس قوتشاريان الى الحكم في آذار مارس الماضي والغائه حظر حزب الطاشناق المعادي لأنقرة. كما أن خلافاتها مع سورية مرشحة لطور جديد من التعقيدات بعد فشل محادثات مسؤوليها التي جرت أخيراً في أنقرة مع معاون وزير الخارجية السوري. أما حربها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني فلا تزال بعيدة عن تحقيق أغراضها. والدليل ان قواتها لا تزال تواصل توغلاتها في كردستان العراق وآخرها قبل اسبوع. كذلك صراعاتها مع المنظمات الدينية والأصولية التي لم يعد بعضها بعيداً عن نشاطات ارهابية مسلحة. وما يضيف بعداً دراماتيكياً على الوضعية ان انقرة تعيش أزمة حكومية نتيجة تعارض مواقف الأحزاب في الحكومة والبرلمان حيال الانتخابات المبكرة وزيادة رواتب موظفي الدولة. في خضم الوضع السيئ، تبدو أنقرة وكأنها غير عازمة على الالتفات الى مشاكلها، أو الاهتمام بالحد من تأثيراتها السلبية على الاستقرار الداخلي والأمن الاقليمي في عموم المنطقة. لكن الواقع ان ذلك ليس بالصورة الدقيقة. ففي تركيا، خصوصاً في دائرتها السياسية والثقافية، قوى وقطاعات وأحزاب وشخصيات سياسية كثيرة راغبة فعلاً في الهدوء والتروي والالتفات الى مكامن الخطأ والسلبيات في علاقات بلادها الداخلية والخارجية. لكن العائق الرئيسي الذي يحد من قدرة تلك القوى والقطاعات هو الطغيان الهائل للجيش على الحياة السياسية، ما يصل في بعض الحالات الى منع الحكومة من انتهاج سياسات لا يعتقد الجيش بسلامتها. وتحجيم دور الحكومة في إدارة الصراعات الداخلية والاقلميية. بل إقصاء من يختلف رأيه عن رأي الجيش، كما حدث مع حكومة أربكان وتشيلر قبل أقل من عامين. فداخلياً، هناك رغبة في بعض الأوساط التركية بتفضيل الانفتاح في اطار القانون على الأكراد، وتقليل الضغط على الاسلاميين والغاء قوانين تحظر المظاهر الدينية في المجتمع التركي. والتركيز بدل كل ذلك على تنفيذ اصلاحات اقتصادية وسياسية واسعة يمكن أن تعيد لتركيا دورها الغابر كقوة كبيرة في الشرق الأوسط والعالم. وكانت فترة الرئيس الراحل أوزال مثالاً جيداً في ذلك الصدد، كذلك تحالف تشيلر مع حزب الرفاه، وتوجهات رئيس الوزراء مسعود يلماز لتخفيف قوانين حظر المظاهر الاسلامية. وخارجياً، هناك محاولات سياسية سابقة وراهنة لايجاد توازن في سياسة أنقرة الخارجية خصوصاً على صعيد العلاقة مع العالم العربي واسرائيل، والدول الأوروبية وأميركا. وإذا تجاوزنا محاولات أوزال وأربكان، فيمكننا ملاحظة دعوات بعض القوى التركية الى عدم إيذاء العلاقات مع أوروبا استناداً الى رفض الأخيرة قبول انضمام تركيا الى المجموعة الأوروبية. وكذلك الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية اسماعيل جم الى اسرائيل حيث حرص خلالها على اللقاء بمسؤولين فلسطينيين على رغم استياء حكومة نتانياهو. أما على صعيد الأزمة القبرصية التي تشهد الآن أحد أكثر فصولها حدة وخطورة، فيمكن القول إن قسماً من السياسيين الأتراك يبدو أقل تشدداً من الجيش. فالحلول السلمية للأزمة كانت اقتربت عامي 1995 و1996 بعد زيارة رئيسة الوزارة، آنذاك، تشيلر الى واشنطن. وترحيبها باستئناف الوساطة الدولية، وتفاؤلها بمهمة المبعوث الأميركي ريتشارد هولبروك. وكانت تشيلر تبدو عازمة على تسجيل اختراق ملحوظ في مسار حل المشكلة القبرصية، خلال ائتلافها الحكومي اللاحق مع أربكان، لو قُدر لها أن تصمد في وجه الجيش. لكنها لم تصمد. كذلك حليفها أربكان وقبلهما أوزال. وليس في الأفق ما يشير الى قدرة يلماز على الصمود أكثر من نهاية العام الحالي. فالمشكلة التي تقيد المؤسسة السياسية في أنقرة وتحد من قدرتها على تهدئة أحوال بلادها، تتمثل في تدخلات الجيش في أمور الحكم وفرض ارادته على السياسيين وتهديده بتكرار سيناريوهات الانقلاب العسكري. فالجيش يعتبر نفسه حامي النظام العلماني للدولة. والمدافع في الوقت عينه، عن وحدة تركيا وأراضيها وايديولوجيتها الكمالية المترعة بالتعصب والاستعلاء القومي والمنتصر دائماً على "مؤامرات" الأطراف و"نواياها الشريرة!". لكل ذلك، يعتقد كبار الضباط الأتراك، ان التاريخ يخولهم سلطات تضييق، بل وتغييب، دور السياسيين في ادارة الأزمات الاستراتيجية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بعلاقات تركيا وصراعاتها مع التكوينات الداخلية كالأكراد، أو الأطراف الخارجية كاليونان وقبرص وسورية. في ظل الأحوال هذه حيث سلطة الجيش التركي تعصر الحكومة والبرلمان، لا يمكن القول إلا بهشاشة أي توقع في اتجاه انقشاع غيوم الحرب عن سماء بحر إيجة وجزيرة قبرص في القريب العاجل، أو تخفيف أنقرة تعاونها العسكري مع اسرائيل، أو انفراج علاقاتها مع أوروبا، أو حل مشكلاتها مع الأكراد والاسلاميين بطرق سلمية. ففي تركيا رغبة للتغيير والسلم الداخلي والاقليمي. لكن مؤسسة الجيش غير راغبة في ذلك. ولا تني تلوح بالعصيّ في وجه أية جهة أو زعيم سياسي يحاول الخروج عن ارادتها. فتلك العصيّ هي التي مهدت لاستدعاء أربكان ورئيس بلدية اسطنبول الى المحاكمة. وعرّضت تشيلر الى اتهامات بسوء استخدام أموال حكومية. وأخيراً أخذت تهدد يلماز بمخالفات مالية وتجارية. وبأخذ كل ذلك في الاعتبار، يصح طرح تساؤلات مفادها: هل يعاني السياسيون في تركيا على يد مؤسسة الجيش، ما يعاني منه الاصلاحيون في ايران على يد المؤسسة الدينية المتشددة؟ وهل يمكن لابتعاد الجيش في تركيا عن السياسة ان يساعد على بناء دولة متناغمة مع ذاتها وأطرافها، كما هو الأمل في حال انزياح سلطة المؤسسة المحافظة عن كاهل خاتمي؟ وهل يشير كل ذلك الى حاجة السياسة في أنقرة الى "دعم معنوي" من الجميع يعينها على مقاومة نفوذ العسكر، كما هي حال الاصلاحيين في طهران؟ أنقرة تحاصرها مشكلات من نوع مختلف. والعلاقة بين جيشها وساستها هي غير العلاقة بين خاتمي والمتشددين. لكن الأرجح أن الجواب عن التساؤلات هو "نعم". فتخفيف قبضة الجيش عن الحكومة هو ضمانة رئيسية لتوجه تركيا نحو تهدئة مشكلاتها الداخلية والاقليمية، وفي مقدمها المشكلة مع أثينا والقبارصة اليونانيين التي أصبحت تهدد بإشعال فتيل حرب في المنطقة.