قامت السلطات التركية في الاشهر الاخيرة بعمليات مطاردة مزدوجة استهدفت التمثيل العسكري والتمثيل السياسي لاكراد تركيا. واذ نجحت في عملية المطاردة العسكرية، عبر التهديد الشهير الى سورية فاتفاق أضنة، ومن ثم اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في كينيا وايداعه سجناً في جزيرة ايمرالي تمهيداً لمحاكمته، فان السلطات التركية ما فتئت في ارتباك واضح حيال ما يجب فعله بالنسبة لحزب الديموقراطية الشعبي HADEP المعبّر السياسي عن أكراد الداخل التركي وبعدما طلب مدعي عام الجمهورية فورال سافاش في وقت سابق حظر الحزب، جاء رفض المحكمة الدستورية لطلب المدعي العام اتخاذ "قرار احترازي"، في انتظار فضّ دعوى الحظر، التي تتطلب وقتاً، لمنع الحزب الكردي من المشاركة في الانتخابات النيابية، المقررة في تركيا في 18 نيسان ابريل المقبل، جاء هذا الرفض بمثابة "ضوء أخضر" للحزب الكردي لخوض الانتخابات. وما لم يُحظر قبل موعدها، وما لم تؤجل هذه الانتخابات، فان خوض حزب الديموقراطية الشعبي غمار الانتخابات سيترتب عليه نتائج في اكثر من اتجاه. وهذه هي المرة الثالثة على التوالي التي يشارك فيها حزب كردي في انتخابات نيابية عامة في تركيا. وكانت المرة الاولى في خريف 1991، عندما ترشح ممثلو حزب العمل الشعبي HEP تحت مظلة الحزب الاجتماعي الشعبي الديموقراطي SHP بزعامة اردال اينونو واستطاع 21 منهم دخول البرلمان. لكن الحزب حظر بعد ذلك وحكم على عدد من نوابه بالسجن ومن بينهم النائبة ليلى زانا. وفي الانتخابات الماضية في 24 كانون الاول / ديسمبر 1995، شارك، ولكن بصورة مستقلة هذه المرة، حزب الديموقراطية الشعبي الا انه لم يستطع تجاوز حاجز العشرة في المئة على صعيد كل تركيا ليتمكن من التمثيل في البرلمان. بل نال فقط 17،4 في المئة. لكن خوض الحزب الكردي الانتخابات منفرداً كان تجربة غنية مليئة بالعبر والدلالات. فقد اكتسح الحزب معظم مراكز المحافظات في جنوب شرق البلاد، ولا سيما في ديار بكر وحقاري وباتمان وفان وحقق نتائج مهمة في المحافظاتالشرقية. واستطاع استقطاب نحو نصف الاصوات التي توصف بانها كردية. ولذلك اكد أمرين: الاول تمثيله ل"الشعور الكردي" في تركيا، والثاني قدرته على ترجيح الخيارات الانتخابية في مناطق شرق وجنوب شرقي الاناضول، في حال دخوله حليفاً انتخابياً لحزب آخر، وهو ما ظهر بوضوح في انتخابات 1991 حين تحالف مع الحزب الاجتماعي الشعبي الديموقراطي. ولا يعتمد حزب الديموقراطية الشعبي فقط على اصوات اكراد جنوب شرقي البلاد. فانتخابات 1995 أظهرت ان قوة الحزب العددية تأتي اساساً من جموع المهاجرين الاكراد في مدن الغرب التركي، أي اسطنبولوأنقرة وأزمير وحتى أضنه. ويشير احد قادة الحزب، كمال تيكوز، الى هذه الحقيقة فيقول ان الحزب نال 550 الف صوت في الجنوب الشرقي مقابل 650 الفاً من خارجه ليبلغ مجموع ما ناله الحزب عام 1995 623،771،1 صوتاً. وفي اسطنبول وحدها حصل الحزب على حوالي 11 في المئة من الاصوات، حيث كان لحزب الرفاه المركز الاول. وفي ازمير بلغ مجموع اصوات الحزب الكردي 3،7 في المئة وفي انقرة 1،5 في المئة. ويدخل حزب الديموقراطية الشعبي انتخابات 18 نيسان في ظل ظروف ومناخات مختلفة عن انتخابات 1991 و1995. فلا احد، اليوم، يجرؤ على اقامة تحالف معه، كما حصل عام 1991، ويعاني الحزب اليوم من ضيق الوقت الكافي للاستعداد للانتخابات. فهو أمضى الفترة الاخيرة في ظل كابوس الاعتقالات والملاحقات القضائية التي تتهمه، حتى قبل اعتقال أوجلان، بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، وطورد عدد كبير من قيادييه وصل الى مئات، وفي مقدمهم زعيم الحزب مراد بوزلاق، القابع حالياً في السجن، والآلاف من انصاره. وتضاعفت حملة الاعتقالات بعد اعتقال أوجلان، وما رشح من "اعترافات" حول علاقة حزب الديموقراطية الشعبي بحزب العمال الكردستاني، ولم يتنفس حزب الديموقراطية الشعبي الصعداء الا بعد رفض المحكمة الدستورية طلب المدعي العام اتخاذ قرار احترازي بمنع الحزب من المشاركة في الانتخابات، في أواخر شباط فبراير الفائت، في حين لم يكن قد بقي امامه سوى شهر ونصف لاطلاق حملته الانتخابية. والى ضيق الوقت، يفتقد الحزب الكردي كوادره القيادية القادرة على الاعداد للانتخابات وصوغ التحالفات، وما الى ذلك من ضرورات الحملة الانتخابية. غير ان حزب الديموقراطية الشعبي يخوض الانتخابات المقبلة في ظل مشاعر الانفعال والغضب التي تغلي في اوساط المجتمع الكردي في تركيا، إثر اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني في 16 شباط فبراير الماضي. واذا ما ذكرنا ان أنقرة تتهم حزب الديموقراطية الشعبي بانه الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني داخل تركيا، جاز اعتبار النتائج التي سيحصل عليها حزب الديموقراطية في الانتخابات النيابية استفتاء على مدى تأييد الشارع الكردي في تركيا، في هذه اللحظة، لحزب العمال الكردستاني ولأوجلان. وفي ذلك اكثر من تحدّ للدولة وللنظام الكمالي في تركيا: 1- يخشى المتطرفون من الكماليين والمتطرفون غالبية في الدولة وفي المؤسسة العسكرية من مشاعر السخط الكردية على اعتقال أوجلان، وتحوّله الى رمز للهوية القومية الكردية، وتأثير ذلك في تكتيل الشارع الكردي اصواته لمصلحة حزب الديموقراطية الشعبي وحصوله على نسبة العشرة في المئة، وبالتالي تمثّله في البرلمان المقبل، وما قد يجرّ ذلك من احراجات مؤكدة للنظام الذي ينفي وجود أكراد في تركيا لهم خصوصية تميّزهم عن الاتراك. 2- ان تكتيل معظم الاصوات الكردية لحزب الديموقراطية الشعبي، سيؤدي، ولو لم يحصل الحزب على العشرة في المئة، الى تعميق حدة الاستقطاب العرقي في تركيا بين اكراد وأتراك، ويبقي المسألة الكردية في تركيا حيّة ومشتعلة بغض النظر عن مصير عبدالله أوجلان. 3- ان النظام الكمالي في تركيا يواجه في جميع الحالات مأزقاً من نتائج الانتخابات في جنوب شرقي تركيا، سواء فاز حزب الديموقراطية الشعبي، كما ذكرنا، أو خسر. اذ في الحال الاخيرة ستجيّر اصوات الحزب الاول، في حال خسارته، الى الحزب الذي يليه مباشرة في المحافظة. واستناداً الى نتائج انتخابات 1995 فان حزب الفضيلة الاسلامي خليفة حزب الرفاه، سيحل إما اولاً في بعض المحافظات مثل شانلي أورفه وآدي - يمان، وموش، وإما ثانياً، بعد حزب الديموقراطية الشعبي، في المحافظات الاخرى من الجنوب الشرقي وبالتالي سيحصد هو، لا غيره، أصوات الحزب الكردي وتتضاعف غلّة نوابه، وسيكون النظام الكمالي امام تحدّ آخر، لا يقل حدة وشراسة عن التحدي الكردي، وهو التحدي الاسلامي. وعلى هذا، يحاول أركان الكمالية في تركيا احداث نوع من الاختراق لهذه المعادلة، من خلال تقوية الاحزاب العلمانية الاخرى، مستفيدة من الشعور بالزهو التركي الذي عمّ بعد اعتقال أوجلان، وتجيير ذلك لأبطال الاعتقال، مثل بولنت أجاويد وشريكه السابق مسعود يلماظ، أو شريكته الضمنية الحالية تانسو تشيلر، في سياسة تهدف الى اضعاف الاسلاميين وتجيير اصوات الاكراد، اذا فشل حزبهم، الى اي حزب آخر ما عدا حزب الفضيلة. وذهبت خطة النظام في اتجاهين: اظهار التعاطف الاقتصادي مع المناطق الكردية من خلال خطط استثمار اعلنها أجاويد بنفسه. اما الاتجاه الثاني فهو السعي لاضعاف حزب الفضيلة وتأليب الرأي العام التركي ضده، مستفيداً من اعتقال أوجلان، واتهام سلفه، حزب الرفاه، وقادته، نجم الدين اربكان وشوكت قازان واحمد تكدال وحسن حسين جيلان، وغيرهم، باقامة علاقات واتصالات مع أوجلان وحزبه، ولا سيما خلال انتخابات 1995 واثناء رئاسة اربكان للحكومة التركية. وذهب مدعي عام انقرة، نوح ميتيه يوكسيل، ابعد من ذلك حين رفع دعوى تطالب بمحاكمة اربكان ورفاقه بتهمة العمل لهدم النظام وتطلب له ولرفاقه الاعدام، ولخمسة وعشرين آخرين السجن 5،22 سنة. كل ذلك من اجل اظهار الاسلاميين خونة، ويعملون لتقسيم البلاد، فيصيب النظام بذلك عصفورين بحجر الانتخابات: التخلص من حرج الاكراد وخطر الاسلاميين. في غمرة هذه الاجواء، يبدو السباق محموماً بين الاحزاب التركية لاحتلال المركز الثاني، بعد حزب الديموقراطية الشعبي، في المناطق الكردية. حتى اذا فشل في الحصول على عشرة في المئة، نالت الاحزاب هذه على طبق من ذهب، الاصوات الكردية. فالصراع الآن يتركز على اضعاف حزب الفضيلة لمصلحة الاحزاب العلمانية. وتتوالى تصريحات مسؤولي هذه الاحزاب التي تؤكد ان حزب الفضيلة لم يعد في قوته السابقة. ورغم مضايقات السلطة لحزب الديموقراطية الشعبي، فانه ماضٍ في حملة الانتخابات تحت شعار "صوت للسلام"، "نريد صوتاً من اجل السلام"، ومركزاً على مسائل الديموقراطية وحقوق الانسان والحريات. ويؤكد مسؤولوه انهم سيحرزون 60 - 75 في المئة من اصوات الجنوب الشرقي، وثلاثة ملايين صوت في كل تركيا. فهل ينال حزب الديموقراطية الشعبي العشرة في المئة المطلوبة لدخول البرلمان، وتحصل مفاجأة تنفجر في اكثر من اتجاه؟. * باحث لبناني في الشؤون التركية