جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    مبارة كرة قدم تفجر أزمة بين هولندا وإسرائيل    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    984 ألف برميل تقليص السعودية إنتاجها النفطي يومياً    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    حديقة ثلجية    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الغرب والقرن الأفريقي    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    رحلة طموح    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميتران وجماعة أسوان وياسر عرفات
نشر في الحياة يوم 22 - 01 - 1996

كان آخر لقاء لي مع فرنسوا ميتران، خلال الندوة التي انعقدت في رحاب اليونسكو بباريس في ايار مايو 1994 تحت عنوان "... وماذا عن التنمية؟" ET LE DEVELOPPEMENT؟ كان هو الذي اقترح موضوع الندوة واختار عنوانها. وذلك من خلال المناقشة التي دارت بينه وبين كل من ارفيه بورغ مندوب فرنسا لدى اليونسكو والكاتب الفرنسي المعروف جان دانيال رئيس تحرير مجلة "لونوفيل اوبسارفتور"، ممثلاً ل "جماعة أسوان للحوار بين الحضارات والثقافات". وهي جماعة دولية للمثقفين تكونت عام 1989 بمبادرة من اتحاد كتاب آسيا وافريقيا. وعقدت الاجتماع الأول لها في باخرة نيلية في أسوان خصصها لها الدكتور ابراهيم كامل ابو العيون عضو الاتحاد، في تشرين الثاني نوفمبر 1990. وضمت في البداية عددا محدودا من المفكرين والكتاب والفنانين من القارات المختلفة. ومثل فرنسا فيها جان دانيال وفلورانس مارلو وريجيس دوبريه الفيلسوف الفرنسي الذي قبض عليه مع تشي غيفارا في بوليفيا أواخر الستينات. وتحرك وقتها ميتران بقوة لانقاذهما، غير انه لم ينجح الا في الافراج عن مواطنه دوبريه الذي أصبح مستشاراً له في قصر الاليزيه قبل ان ينفصل عنه ويعارضه، في حين أعدمت السلطات البوليفية غيفارا.
وشارك في الجماعة أيضاً الكاتبان الفرنسيان من أصل مصري بهجت النادي وعادل رفعت رئيسا مجلس الادارة والتحرير لمجلة اليونسكو المعروفة باسم "لوكورييه" وكاتب هذه السطور بوصفه اميناً عاماً لاتحاد كتاب آسيا وافريقيا، والدكتور رشدي سعيد والدكتور طارق علي حسن والدكتور مرسي سعد الدين والدكتورة منى مكرم عبيد ومحمد عودة ومحمد سيد احمد والدكتورة سهير فهمي والمرحوم فيليب جلاب.
وكان محور نشاط جماعة اسوان وحواراتها يدور حول حشد عقول عالمنا المعاصر وطاقات ابداعاته المختلفة في التعامل الجسور مع المتغيرات الدولية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ومحاولة نسج الرؤى الجديدة المحتملة لعالم الغد في القرن الواحد والعشرين واقامة ما يسمى السلطة المعنوية للمثقفين في هذا العالم الجديد تجاه السلطات السياسية والاقتصادية والعسكرية التقليدية.
تمكنت جماعة اسوان، بالاشتراك مع اتحاد كتاب اسيا وافريقيا واليونسكو "وورلد ميديا" وعدد من الهيئات الثقافية الدولية من ان تعقد مؤتمرها الأول في القاهرة عام 1991 باسم "المؤتمر الدولي للفكر والابداع". وندوة في نيودلهي في كانون الاول ديسمبر 1992، بالتعاون مع مؤسسة راجيف غاندي، حول الظاهرة الدينية والسياسية في عالم متغير. وكانت ندوة باريس عام 1994 عن مصير التنمية في العالم المتغير هي المحطة الثالثة في نشاط جماعة اسوان.
ظلت الجماعة بقدر او بآخر على اتصال لا ينقطع بثلاثة من الرؤساء الذين يمثلون مواقع الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي والعالم الثالث، وهم فرنسوا ميتران وميخائيل غورباتشوف وحسني مبارك. وكانوا قد أبدوا مادياً ومعنوياً اهتماماً وتشجيعاً كبيرين بنشاط الجماعة وأهدافها.
في ندوة باريس التي خطط لها ميتران وساهم فيها بخطاب افتتاحي ركز فيه، ضمن ما ركز في نقاطه، على حقوق انسان اليوم والغد في التنمية بأبعادها الشاملة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وحذر من ان قوى عاتية ذات مصالح وسلطات كوكبية يتعاظم خطرها في اطار الفوضى التي تحدثها المتغيرات غير المتوقعة ضد الانسان وحقوقه. وشدد على دور المثقفين والمبدعين في العالم كي يواجهوا بجسارة فكرية ونضالية هذه الحالة الخطرة التي لا سابقة لها في التاريخ. ووجه النظر بشدة الى ان الضحية المستمرة التي يجب ان يؤرق أوضاعها ضمير المثقفين، وبخاصة في اوروبا والغرب عموماً، هي حقوق الانسان والشعوب في العالم الثالث، وإلى أن فوضى المتغيرات من دون تحقيق هذه الحقوق بالذات وضمانها، مرشحة لأن تنقلب الى جحيم يودي بالانسانية كلها.
حين تحلقنا حول ميتران بعد الانتهاء من خطابه، اشار اليّ ايرفيه بورغ او ألان تورين عالم الاجتماع الفذ - لا اذكر بالضبط - وقال لميتران انني اقترح ان نعقد ندوة رابعة في مصر عام 1995 أو 1996 عن الحضارات، وهل هي مرشحة مع أحداث القرن الواحد والعشرين الى التصادم او الى التفاعل ودور المثقفين والمبدعين في تغليب عامل التفاعل.
ابتسم ميتران ابتسامة هادئة في وجه بدا شمعياً نتيجة زحف المرض الشرس داخل جسده، وقال بصوت خفيض: "فكرة طيبة ويمكن ان تشكل ردا على اولئك الذين راحوا يزرعون في عقول البشر كابوس صراع الحضارات في المستقبل ان يهرطقوا بنهاية التاريخ".
سكت قليلاً ثم سألني: "أين تتصورون مكان عقدها؟ القاهرة أم الاسكندرية أم اسوان؟ اذا اخترتم اسوان فسوف أبذل كل جهدي لأن أقتنص الوقت والمشاركة فيها".
وعقد يديه على صدره وقد تداخلت اصابعهما نزولاً وصعوداً، وكانت هذه عادته عندما يتأمل فكرة ما فرضت نفسها فجأة عليه. وقال بتواضع: ما رأيكم؟ الا يكون مناسباً عنوان كهذا لمثل هذه الندوة "..وماذا عن الثقافة؟" ET LA CULTURE?. من المهم ان تصدر اجابة او اجابات قوية وشجاعة عن هذا السؤال من العالم الثالث، جنبا الى جنب مع العوالم الاخرى. والصوت المصري في هذا الاطار مطلوب ومسموع ومؤثر حضاريا.
كان العالم الثالث، خصوصاً مواطن الحضارات العريقة فيه، يشكل احدى القضايا التي لا تبرح عقل ميتران ووجدانه، ومن المواضيع التي يجب الحديث فيها وعنها، ويعتبر نفسه وبلاده فرنسا واوروبا والغرب عموماً يتحملون قدراً غير قليل من المسؤولية عما اصبح عليه العالم الثالث، والمسؤولية أيضاً عن مشاركة شعوبه وانسانه في الخروج من النفق المظلم الى الهواء والشمس والتكنولوجيا الحديثة، على حد تعبيره.
كثيرون من معارضيه ومنتقديه ظلوا يشككون في حقيقة مشاعره واهتماماته بالعالم الثالث، وأنه يفتعل هذا الاهتمام ليبدو مختلفاً وأكثر انسانية ومهابة من زعماء عصره في الغرب، أو ليسخره في بناء زعامة عالمية من نوع فريد لنفسه، أو على حد ما قال احد الكتاب من نُقاده: زعيم يبعث بالقبلات الى الفقراء في حين انه ليس اكثر من زعيم عصابة لمستغليهم من الاغنياء المتوحشين. وهناك من اعتبر اهتمام ميتران بالعالم الثالث ليس اكثر من مناورة سياسية يقوم بها بأسلوب ذكي ليضرب اكثر من عصفور في وقت واحد: الهيمنة الاميركية، خصومه من الاشتراكيين في فرنسا واوروبا الذين يشككون في اشتراكيته "هذا الامبراطور اليميني الذي يحلو له ان يرتدي لباس البروليتاري الاشتراكي".
واذا جاز لي من خلال القدر الذي اتيح لي معرفته عن ميتران فإن الرجل كان - في تقديري - يشعر عميقاً بأنه مدين للعالم الثالث بدين شخصي وفكري وسياسي وذلك بسبب مواقفه قبل مرحلته اليسارية وربما بعدها أيضاً حتى عتبة الستينات تقريباً ضد حركات التحرر الوطنية، وبخاصة حركة التحرير الجزائرية. كان في الاربعينات وزيراً للداخلية في حكومة ليون بلوم اليسارية ووافق على قيام السلطات الفرنسية في ما عرف وقتذاك بمذبحة سطيف ضد الانتفاضة الشعبية الجزائرية للاستقلال عن فرنسا. وظل بعد ذلك يصر على ان الجزائر يجب ان تبقى فرنسية. ووقف معارضاً ديغول عندما عاد إلى الحكم عام 1958. وشرع تدريجياً يتعامل سياسياً مع الثورة الجزائرية ويعترف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره.
ثار هذا كله خلال المناقشة التي اتيحت لي في اللقاء الأول معه في كوناكري عاصمة غينيا. وكان الرئيس احمد سيكوتوري دعاني ضمن وفد مصري ضم الدكتور عبدالملك عودة ومحمد حقي إلى المشاركة باسم الاتحاد الاشتراكي في اعمال مؤتمر الحزب الاشتراكي الغيني عام 1963 أو 1964. وكان ميتران يصاحب الزعيم الاشتراكي ورئيس الوزراء الفرنسي السابق منديس فرانس في الوفد الفرنسي إلى المؤتمر.
دعاني سيكوتوري الى قصر الرئاسة ضمن دعوته رؤساء الوفود وعدداً من أبرز الزعامات الاشتراكية في اوروبا وافريقيا التي شاركت في مؤتمر الحزب. وهناك قدمني إلى منديس فرانس وميتران قائلاً: تستطيعان ان تناقشا معه ما يحدث من تغيير الى اليسار في نظام ناصر. إنه خارج من السجن حديثا بعد المصالحة التي جرت بين ناصر والقوى التقدمية.
كان سيكوتوري الذي اتصلنا به من خلال قادة الثورة الجزائرية وكوادرها من امثال المفكر والمناضل محمد حربي الذي صار في ما بعد سفيراً للثورة في كوناكري، قد زار القاهرة والتقى عبدالناصر وعدداً من المفكرين والكتاب التقدميين الذين اطلقوا من السجن، وشارك بعضهم في انشاء صفحة الرأي في "الأهرام". وحضر اللقاء وشارك في الحوار الذي نشر بعد ذلك، محمد حسنين هيكل رئيس تحرير "الأهرام" الذي قام، على رغم صعوبات ومعارضات قوية من داخل النظام، بدور المصالحة ومد جسور الحوار بين التقدميين وجمال عبدالناصر.
ولا اريد ان استطرد في هذا الموضوع فقصته طويلة. المهم ان منديس فرانس وميتران كانا معنيين بما سمياه التطور الذي حدث للكولونيل ناصر قائد الانقلاب والنظام العسكري في مصر. وأبديا اهتماماً بما شرحته عن طبيعة حركة 23 تموز يوليو في مصر، وانها على رغم استخدامها اداة الانقلاب العسكري الا انها في مضمونها حركة وطنية نبعت من تنظيم سياسي في الاساس ضم ما يمكن اعتباره جبهة وطنية من اليسار حتى اليمين المعادي للاحتلال البريطاني وسلطة الملك وتحالفه مع كبار الملاك. وبعدما نجح تنظيم الضباط الاحرار في الاستيلاء على السلطة بدعم من التحركات الشعبية، تجاذبته تيارات سياسية واجتماعية متناقضة، ولدت في الضرورة جماعات داخل النظام وخارجه. وخلال هذه الصراعات دفع الثمن الفادح لمصلحة الوسط البورجوازي كل من اقصى اليسار وحلفائه وأقصى اليمين المدني والديني ممثلا في جماعة "الاخوان المسلمين". ومع مواجهة تحديات الاستقلال الوطني والتنمية اقترب النظام فكرياً وسياسياً من اليسار وأجرت قيادته المصالحة معه على رغم استمرار الخلافات على ديموقراطية النظام.
وأذكر ان محمد حربي شرح في مجال التدليل على الوجه التحرري والتقدمي لنظام عبدالناصر مدى الدعم الذي تقدمه مصر إلى حركة تحرير الجزائر. وفاجأنا ميتران بالاعتذار عن مواقفه السابقة ضد تحرير الجزائر، وقال إن ذلك من رواسب تربيته اليمينية السابقة على انخراطه في حركة المقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا وانفتاحه على اليسار. كان يبدو صادقاً في اعتذاره، وإن كنا ذكرناه بأنه استمر بعد المقاومة وتحوله الى اليسار ينادي بالجزائر فرنسية. فما كان منه الا ان أشاح بيده وقال بصوت يثقله الالم: هذا تاريخ مضى وانقضى وقطعت علاقتي معه نهائياً، فكرياً وسياسياً ونفسياً. وسكت برهة قبل ان يقول "كان خطأ رهيباً لن اسمح لنفسي بتكراره على أي وضع. واظن ان عليّ وعلينا جميعا في اوروبا ان نكفّر عن هذا الخطأ تجاه شعوب العالم الثالث الناهضة".
تواصلت علاقتنا مع ميتران سواء بطريق مباشر او غير مباشر، من خلال بعض من ساهموا تحت قيادته في اعادة بناء الحزب الاشتراكي عام 1971، والجبهة اليسارية العريضة التي ضمت في مرحلتها الاولى الحزب الشيوعي حول البرنامج اليساري للتغيير والحكم. واذكر من هؤلاء الكاتب كلود استييه الذي اصدر كتابا عن عبدالناصر وموتشان الذي كان يصف ميتران بأنه "ضميره الاشتراكي المقلق".
وحين بدأنا مع هيكل، في صفحة الرأي في "الأهرام" ثم في مجلة "الطليعة"، التخطيط لدعوة ابرز العقول والطاقات الفكرية والسياسية التقدمية في العالم إلى الحوار في القاهرة كان ميتران في مقدم اللائحة التي وضعناها، جنباً إلى جنب مع جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وتشي غيفارا ومكسيم رودنسون وروجيه غارودي واوليانفوسكي وبرتراند راسل وبيتلهايم وغيرهم.
تم معظم هذه الحوارات في عهد عبدالناصر. لكن الحوار تأجل مع ميتران الى عام 1974 في عهد السادات. وذلك انشغاله بتأسيس الحزب الاشتراكي الجديد.
في حوار ميتران في "الأهرام" في القاهرة طرحت اكثر من قضية منها: دور الاشتراكية في بناء مجتمعاتهم ودولهم سواء في البلاد المتقدمة او بلدان العالم الثالث، ومفهوم اليسار بين الماركسية والاشتراكية الديموقراطية. لكن القضية التي سيطرت على الحوار كانت تلك التي تتعلق بالقضية الفلسطينية ومستقبل اسرائيل في المنطقة بعد حرب 1973 التي أحرز العرب فيها للمرة الاولى انتصارات تكتيكية مهمة على اسرائيل.
وكان ماثلاً أمامنا في الحوار ان الحزب الاشتراكي وميتران شخصياً أبديا تعاطفاً ملحوظاً مع اسرائيل إلى حد تبني وجهة نظرها في ارهاب منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات. ومن هنا كانت طروحاتنا تقوم على اساس ان منظمة التحرير هي قيادة الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه من الاحتلال الاسرائيلي. وعرفات قائد ثوري لا ارهابي. وان القضية الفلسطينية هي مفتاح الحرب او السلام في المنطقة. واستمع ميتران جيداً بصدر رحب. جادل وحاور واستفسر وقدم تساؤلات عدة. وبدا كما لو كان تعرف للمرة الاولى إلى معلومات جديدة عن القضية الفلسطينية، أبدى تفهمه لها. ولكن ظل السؤال المحوري لديه: وماذا عن مستقبل اسرائيل في تقدير مصر وبقية العرب وبخاصة الفلسطينيين ومنظمة التحرير وعرفات؟ وهنا اقترحنا عليه ان يلتقي الزعيم الفلسطيني. سأل كيف ومتى؟ أجابه هيكل: اليوم على الغداء اذا شئت. سكت ميتران برهة راح فيها يتفرس في وجوه زملائه ثم قال: نحن ضيوفكم ولا نرى لائقاً ان نمانع في الجلوس إلى مائدتكم مع من ترون دعوته.
وهكذا جلس ميتران بجانب عرفات إلى مائدة الغداء في مطعم "الأهرام" بالدور الثاني عشر. ودار النقاش برحابة وصراحة. طرح ميتران تساؤلاته وظل عرفات يجيب. وعندما انتهى من تساؤلاته قدم عرفات منهاج منظمة التحرير الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني حول اقامة السلطة الوطنية على الارض التي تنسحب منها قوات الاحتلال الاسرائيلي وعلق ميتران: "هذا تطور بالغ الاهمية ومثير للتفكير"... ومنذ ذلك الوقت لم تنقطع الصلات بين ميتران وعرفات.
حين دعيتُ في 1980 مع زميلي محمد سيد احمد الى مؤتمر حوارات حوض البحر الابيض الذي نظمه جاك لانغ الذي اصبح لاحقاً وزيراً للثقافة في حكومة ميتران بعد فوزه برئاسة الجمهورية في 1981، فوجئت بأن المؤتمر الذي انعقد في بلدة سان ماكسيمان بضواحي مرسيليا كان فاتحة الحملة الانتخابية لميتران الذي شارك في اعمال المؤتمر وكواليسه. وأقول كواليسه، لأن منظمي المؤتمر كانوا خططوا لعقد لقاء على هامشه بين المشاركين العرب والاسرائيليين، يرأسه ليوبولد سنغور الشاعر الكبير، رئيس السنغال والصديق المقرب لميتران، وذلك بهدف اصدار بيان عربي - إسرائيلي مشترك يدعو الى دعم سياسة وروح كامب ديفيد والتعايش العربي - الاسرائيلي وإنهاء حال الصراع.
واتفق العرب يؤيدهم عدد من الافارقة وبعض المشاركين من الفرنسيين كان من ابرزهم المفكر الراحل جاك بيرك على رفض اللقاء، وذلك لأسباب عدة من بينها ان مثل هذا اللقاء ليس مدرجاً في جدول اعمال المؤتمر. وان الفلسطينيين ليسوا ممثلين في المؤتمر وأن ثمة تجاهلاً تاماً لقضية فلسطين وحق شعب فلسطين بقيادة منظمة التحرير الممثل الشرعي له في تقرير مصيره. واتفق العرب على تكليف الكاتب المغربي المعروف الطاهر بن جلون ابلاغ ذلك الى سكرتير المؤتمر جاك لانغ. واجتمع بنا، سنغور في محاولة لاقناعنا بجدوى اللقاء، وبأن ذلك سيصب في النهاية في خدمة القضية الفلسطينية، إذ ان ما يصدر عن هذا اللقاء سيجد له صدى ملحوظاً في الخطاب الختامي للمؤتمر الذي ينوي ميتران القاءه في اجتماع شعبي في مرسيليا ويفتتح به حملته الانتخابية للرئاسة.
لم تنجح المحاولة وجاء ميتران للحوار معنا وحرص على ان يوضح في البداية ان فكرة عقد لقاء عربي - إسرائيلي على هامش المؤتمر ليست فكرته وانما هي اقتراح مشترك قدمه الرئيس سنغور وجاك لانغ عندما علمنا منه أانه سيتناول في خطابه الختامي في الاجتماع الشعبي بمرسيليا موقفه من قضية الصراع العربي- الاسرائيلي. وان مثل هذا اللقاء والبيان المشترك الذي يصدر عنه يشكلان تمهيداً وأرضية مناسبة لخطابه. ولكن ما دام أن هناك معارضة لذلك فلا داعي له. غير ان هذا أثار في داخله هواجس في شأن موقف العرب التقدميين من مسألة امكان التوصل الى تسوية سياسية سلمية عادلة للصراع العربي - الاسرائيلي تندرج في اطارها في الضرورة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وفاجأنا بسؤال: هل اليساريون العرب ضد التسوية السياسية السلمية للصراع؟
وعندما أجبناه أن اليسار العربي مع التسوية السلمية العادلة للصراع. عاجلنا بسؤال آخر: ولماذا انتم اذن ضد اتفاقات كامب ديفيد والاختيار الشجاع الذي اتخذه الرئيس السادات؟ قلنا لأنها تمثل تسوية غير شاملة للصراع وتُسقط منظمة التحرير وحق شعبها في تقرير مصيره.
وجادل ميتران في ان اختيار السادات من ناحية المبدأ صحيح. وانه وإن كان يتفهم تحفظاتنا عن اتفاقات كامب ديفيد والاسلوب الانفرادي الذي تمت به، الا ان اليسار العربي - في تقديره - يخطئ اذا ظل يعارض كامب ديفيد من دون ان يقدم هو مشروعه البديل للتسوية السياسية السلمية للصراع. وان غياب مثل هذا المشروع يضعه في خندق واحد مع دعاة الحرب والدمار. واستطرد: انكم تتهمون اليسار الفرنسي بأنه منحاز إلى إسرائيل ضد العرب. هذا ليس صحيحاً على الاقل بالنسبة إلى حزبنا. نحن منحازون إلى السلام ضد الحرب. للعرب والفلسطينيين حقوق وطنية يجب ان تُحترم في كل تسوية سلمية، ولكن للإسرائيليين أيضاً الحقوق نفسها.
وأشار الى ناحيتي وقال: انت شاركت في ندوتنا في "الأهرام" وحواري مع السيد ياسر عرفات واظنك سمعت مني هذا الموقف بوضوح خصوصاً عندما لخصت موقفنا في ختام الندوة. هل حدث ذلك ام لا؟
قلت: صحيح حدث. لكن ذلك حدث عام 1974 داخل الجدران الاربعة للندوة فحسب. ولم يتبلور لك او للحزب الاشتراكي موقف علني محدد بعد، ونحن اليوم في عام 1980.
صمت لحظة قبل ان يقول: حسنا جاء وقت اعلان موقفنا. الليلة في الاجتماع الشعبي تتعرفون إلى موقفنا. كنا نحتاج إلى وقت للدراسة.
في الاجتماع الشعبي عندما تطرق ميتران إلى قضية الصراع العربي - الاسرائىلي ظل فترة طويلة نسبيا يتحدث ببلاغته المعهودة عن حق اسرائىل في الحياة السلمية داخل الحدود الآمنة من عدوان الى ان وصل إلى نقطة بلورة موقفه من التسوية السياسية السلمية فراح يتمهل في القاء عباراته وهو يركز على ان الاعتراف بالحق الاسرائيلي المشروع يقابله حق مشروع آخر للشعب الفلسطيني في ان تكون له دولة على ارضه جنبا الى جنب مع دولة اسرائىل.
وكانت مفاجأة للجميع. لكن المفاجأة الكبرى كانت في استجابة الجموع الفرنسية في المؤتمر بعاصفة من التصفيق الحار لأكثر من دقيقتين.
وكان هذا الموقف الاول من نوعه في العالم الغربي هو الذي ظل ميتران ثابتا عليه حتى صرعه السرطان.
* * *
ليست هذه كل ذكرياتي مع ميتران. هناك الكثير، غير ان المجال اضيق من ان يتسع له. انا اعلم أن ليست هناك شخصية في التاريخ الانساني كاملة الاوصاف او بلا اخطاء، خصوصاً اذا خاضت غمار الفكر والعمل في بحر السياسة المتلاطم الامواج. ولكن بالقدر الذي اتيح لانسان مثلي ينتمي الى العالم الثالث، ان يعرفه عن ميتران ،فاني اقول إن الرجل كان شجاعا ومقاتلا في سبيل قناعاته، في المعارضة وفي السلطة وفي الاعتراف النبيل بأخطائه أيضاً.
* كاتب وسياسي مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.