Fredj Maatouq. La Gauche Franچaise et la Question Palestinienne de 1948 ˆ 1982. اليسار الفرنسي والمسألة الفلسطينية من عام 1948 إلى 1982. Universitژ de Tunis I. 1998. 404 pages. الانطباع الشائع والعريض، لدى قطاعات واسعة في العالم العربي، والنازع الى الارتياب في السياسات والمواقف الفرنسية حيال القضية الفلسطينية والنزاع العربي - الاسرائيلي، منذ عام 1948 وصولاً الى الاجتياح الاسرائيلي للبنان وعاصمته بيروت عام 1982، الانطباع هذا لا يعدم حججاً وأسانيد تتغذى من سوابق تطاول تاريخ العلاقات الفرنسية مع العالم العربي والاسلامي. على أن الركون الى صورة جامعة مانعة والخلوص الى أحكام وتقويمات اجمالية جاهزة ومتوارثة، من شأنهما تقليل وتقليص حظوظ النظر الفاحص والمدقق في حوافز ومعايير هذه السياسات وتبدلاتها. وغني عن القول إن الركون هذا يقلل كذلك من حظوظ الفعل والتأثير في السياسات الفرنسية المذكورة. بعبارة أخرى، حيث تطغى النظرة الأخلاقية المبدأية والمؤدلجة في قوالب هويات ناجزة وشاملة ومتناحرة، تتقلص امكانيات التعقل والفعل التاريخيين للسلوكات الفرنسية تجاه المسألة المشار اليها بوصفها مداراً سياسياً بامتياز. كتاب الباحث التونسي فرج معتوق، وهو أستاذ يدرّس في الجامعة التونسية، يأتي في صورة مساهمة مطلوبة لعقلنة النظر الى المواقف والآراء المتعلقة بموضوع شائك، وهي عقلنة تستند الى الرصد والتدقيق والتمحيص والتحليل. ولئن كان موضوع البحث يدور على سياسات ومواقف اليسار الفرنسي حيال قضية فلسطين والنزاعات المتولدة عنها طوال أربعين عاماً، فإن الباحث فرج معتوق قام بعملية مسح وتجميع وتنظيم وترتيب لمواقف وتحليلات سائر أطراف اليسار. واقتضى الأمر منه، خصوصاً وأن البحث وضع في الأساس لنيل شهادة الدكتوراه الفرنسية في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية، اقتضى العودة الى صحافة الرأي، والمجلات السياسية، وتقارير المؤتمرات الحزبية، والبيانات السياسية، ناهيك عن عديد الكتب التي تناولت هذا الوجه أو ذاك من المسألة، بالفرنسية والعربية والانكليزية، وأرفق ذلك بعدد من التحقيقات والمقابلات أجراها المؤلف مع شخصيات يسارية فرنسية. قد لا يكون هذا الكتاب الصادر منذ أشهر بالفرنسية، عن منشورات كلية العلوم الانسانية في تونس، فتحاً أو تدشيناً لباب غير مطروق من قبل. ذلك ان مقاربات الموضوع، من زوايا مختلفة، وعلى يد باحثين عرب، لا تعدم وجودها. ويسعنا ان نشير هاهنا الى دراسة الكاتب المغربي بالفرنسية عبدالكبير الخطيبي عن التباسات النظرة اليسارية الفرنسية الى اسرائيل والصهيونية واليهود، ونعني بذلك محاولته الفكرية - السياسية التي صدرت في باريس بعنوان "فوميتو بلانكو". كما نشير الى الدراسة المستفيضة التي أعدّها سمير قصير وفاروق مردم بك والتي باتت مرجعاً لا غنى عنه لأي بحث في العلاقات الفرنسية - العربية، والدراسة هذه صدرت منذ بضع سنوات، في جزءين، بعنوان "مسارات من باريس الى القدس"، ورصدت في منظار تاريخ سياسي تحليلي يرقى الى العهد العثماني وصولاً الى عهد فرنسوا ميتران حتى أوائل التسعينات هذه، منطق هذه العلاقات. غير أن التذكير هذا لا يقلل من أهمية كتاب فرج معتوق، ولا يقلل من شرعية الترحيب به. ذلك أن المنحى الأكاديمي للبحث، وحرص المؤلف على تنظيم وتبويب فصول كتابه، مستمسكاً بمبدأ التسلسل الزمني، وناقلاً تعليلاته الموثقة بين المستويات المتعددة لموقف هذا الحزب اليساري الفرنسي أو ذاك، ملماً بالعوامل والمعايير الداخلية والخارجية التي تسمح بتحديد خلفيات وحسابات وأواليات المواقف في فترة زمنية معينة وحيال حدث معين، كل ذلك يسمح باعتبار الكتاب مصدراً لمعلومات موثقة ومنظمة منهجياً باتت في متناول الراغبين في معرفة مواقف اليسار الفرنسي حيال الشرق الأوسط ما بين عام 1948 وعام 1982. الى ذلك يشدد المؤلف على أن مواقف اليسار الفرنسي شهدت تبدلات وتقلبات تتصل بتاريخ الحزب اليساري وتحولاته وبتحالفاته الدولية. وإذا كان اليسار الفرنسي يتشكل أساساً من الاشتراكيين والشيوعيين، فإن فرج معتوق لا يغفل الأحزاب الصغيرة، مثل "الحزب الاشتراكي الموحد" و"راديكاليي اليسار"، والتروتسكيين الموزعين بين العصبة الشيوعية الثورية أنصار الان كريفين وبين النضال العمالي أنصار آرليت لاغييه، والماويين وأنصار البيئة، كما لا يغفل المنظمات النقابية الكبيرة. التعهد المنهجي لمادة البحث قاد فرج معتوق الى إفراد فصول القسم الأول للتعريف بالقوى والأطراف المطروحة مواقفها على بساط التوثيق والرصد والتعليل، بما في ذلك المنظمات والحركات الفلسطينية التي صارت تشكل ما يعرف بمنظمة التحرير الفلسطينية. والتعريف بالقوى المذكورة يتضمن رصد تطوراتها وتبدلات مواقفها تبعاً لاعتبارات تتعلق بالسياسة الفرنسية الداخلية وبعلاقات أحزاب اليسار ببعضها البعض، وبعلاقاتها مع دولة اسرائيل من جهة، ومع منظمة التحرير وأحزاب اليسار العربي من جهة أخرى. ويشدد معتوق على أهمية الربط بين مواقف اليسار وبين وجوده في السلطة أو في المعارضة، معتبراً ان وجود اليسار في السلطة يشكل لحظة مناسبة بامتياز لمعرفة إذا ما كانت السياسة ستظل ملتحمة بالايديولوجيا الحزبية أم ستبتعد عنها لاعتبارات تدور على مصالح الدولة الفرنسية. كذلك الأمر بالنسبة الى درجة التوافق أو الاختلاف بين الاشتراكيين والشيوعيين. فقد حصل نوع من الاجماع عام 1948 حيث رحب الطرفان بولادة الدولة العبرية، فيما حصل خلاف وتعارض إبان "الحملة الثلاثية" على مصر عام 1956، وكان التعارض أشدّ إبان حرب حزيران يونيو عام 1967 وبلغ حد تبادل الاتهامات والتأثيمات. الراجح لدينا أن الباحث التونسي يمتلك بدوره نظرة وموقفاً عامين حيال المسألة التي يدرسها، وهذا أمر مشروع، غير أنه يسعى الى معرفة أكثر تدقيقاً وأقل أدلجة لمنطق التوالد الداخلي لمواقف اليسار الفرنسي. فهو يشدد على أن الحزب الاشتراكي الحالي انما هو حصيلة نقلة حصلت عام 1971 إثر المؤتمر المنعقد في أبيناي. وكان الاشتراكيون الفرنسيون قبل ذلك منضوين في صفوف "الشعبة الفرنسية للأممية العمالية"، وتعرض هؤلاء لخضة أولى حين انخرط قسم منهم في الأممية الشيوعية الثالثة مندفعين الى النضال ضد سائر أشكال الظلم الطبقي والكولونيالي وذلك في المؤتمر المنعقد عام 1920 في مدينة تور الفرنسية. هذا فيما قرر الاشتراكيون الآخرون الاقامة في "البيت العتيق" بدون اتخاذ مواقف واضحة من السياسات الكولونيالية الفرنسية. في كل الأحوال، ثمة قاسم مشترك ونوع من المبدأ الثابت لدى قطاعات عريضة من الرأي العام الفرنسي، يقومان على التعاطف المبدأي مع دولة اسرائيل. وثمة سببان رئيسيان لهذا التعاطف: الهولوكوست وشعور الأوروبيين بالذنب حيال محرقة اليهود في الحرب الثانية، وشبكة الصداقات ورفاقيات الدرب والسلاح الناشئة في صفوف المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني. وكان الزعيم الاشتراكي الفرنسي بيار مانديس فرانس يردد القول بأن "أصدقاء اسرائيل الحقيقيين هم في الواقع اليساريون". ولم يغب عن بال فرج معتوق الاشارة الى دينامية ونشاط المنظمات اليهودية في فرنسا ودورها الإعلامي في ترجيح كفة اسرائيل على حساب العرب لدى الرأي العام الفرنسي. ويكفي هنا أن نشير، بحسب "دليل اليهودية الفرنسية" لعام 1987، الى وجود ما لا يقل عن ثلاثة آلاف منظمة يهودية توزع نشاطها ما بين دعم اسرائيل ومكافحة اللاسامية في فرنسا. بالرغم من وجود خطوط عامة لمواقف اليسار الفرنسي، فإن الباحث معتوق يلحظ وجود أجنحة وتيارات داخل الأحزاب ذات التركيبة المرنة والأقل مركزية والتحاماً، مثل الحزب الاشتراكي تحديداً، حيث يخيل للمرء أن هذه التيارات تبدو كما لو أنها أحزاب داخل الحزب الواحد. ويمكننا أن نخلص من العرض التوثيقي الى القول بأن الحزب الشيوعي الفرنسي الذي أيّد قرار التقسيم ورحب بولادة الدولة العبرية موجهاً "التحية الى الذين قاتلوا معنا" سوف يميل منذ العدوان الثلاثي عام 1956 الى اتخاذ موقف نقدي من السياسة الاسرائيلية، رافضاً الذريعة الدعاوية التي تضع على المحك وجود اسرائيل بالذات لدى اندلاع كل أزمة ومواجهة. أما الحزب الاشتراكي، وبسبب تعاطف مبدأي مع اليهود ومع اسرائيل، وانعقاد تحالفات وصداقات مع حزب العمل، كما كانت الحال بين غي مولّيه وبن غوريون، ومن ثم بين فرنسوا ميتران وشمعون بيريز، فإنه راح يميل، منذ وصول ميتران الى الحكم عام 1981 وزيارته الرسمية الى اسرائيل قبل ثلاثة أشهر من غزو لبنان، الى اعتماد سياسة تزعم التوازن بحيث لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، وهي سياسة تعج بالالتباسات والالتواءات وان كانت تصبو بالفعل الى وضع الموقف الفرنسي على مسافة "متساوية" من أطراف النزاع. يبقى أن نشير الى أن الفصل المتعلق بحرب السويس عام 1956، ربما يحتاج من المؤلف الى شيء من التدقيق الاضافي، اذ صدرت منذ سنوات كتابات ومقالات من شأنها تعديل الصورة الشائعة عن توزيع الأدوار بين الأطراف الثلاثة المندفعين للاطاحة بحكم الرئيس جمال عبدالناصر.