ثلاث ليال أمضاها جورج حبش الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مستشفى باريسي كانت كافية لاثارة عاصفة سياسية كبرى في الساحة الفرنسية اصابت الحكم الاشتراكي بشكل خاص وتهدد بالاطاحة بالحكومة الفرنسية التي ترئسها اديث كريسون. وقد بدأت "قضية جورج حبش" مباشرة بعد وصول الامين العام للجبهة الشعبية الى باريس مساء الاربعاء 29 كانون الثاني يناير الماضي اثر اصابته، في تونس، بجلطة في الدماغ واصدار الفريق الطبي التونسي الذي عاينه بياناً جاء فيه: "أمام تعذر تحقيق اي تحسن في الحالة الصحية للسيد جورج حبش ودرءاً لحدوث انفجار دماغي بسبب اية عملية جراحية على مستوى الدماغ نظراً الى ان السيد حبش سبق ان أُجريت له عملية جراحية في الدماغ عام 1981، فان فحصاً خاصاً لحالته دفعنا للمطالبة بنقله بصفة عاجلة الى الخارج ليعالج في مركز طبي متخصص وان يتم نقله في طائرة طبية لتفادي اية مضاعفات او تطورات سيئة". وقد تم نقل حبش الى باريس اثر اتصالات متعددة اجراها مكتب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مباشرة مع عدد من المسؤولين في الدوائر الفرنسية ومع موظف في قصر الاليزيه، وكذلك اثر اتصالات جرت مع الصليب الاحمر الفرنسي الذي ترئسه السيدة جورجينا دوفوا وهي في الوقت نفسه مستشارة للرئيس ميتران. واطمأن الجانب الفلسطيني في تونس الى ان هذه الاتصالات كافية لتأمين اقامة طبيعية لحبش في باريس ولمعالجته. وتم التفاهم بين الاطراف المعنية بهذه القضية على احاطة وصول حبش بالسرية التامة. تسريب من تونس لكن المسألة كانت ابعد ما تكون عن السرية. فلدى وصول حبش الى مطار باريس وجد في استقباله عدداً من المصورين وكذلك بعثة من القناة الثانية من التلفزيون الفرنسي وهي قناة رسمية. ومساء الاربعاء بثت القناة الثانية نبأ وصول حبش الى باريس، وسبقتها الى اعلان النبأ ببضع ساعات اذاعة فرنسية. وتبين من خلال التحقيقات لاحقا ان شخصاً في تونس سرّب الى احدى الجهات الاعلامية الفرنسية - لهدف ما - نبأ وصول حبش الى باريس بصورة دقيقة. وهكذا تم التقاط صور لوصول حبش الى فرنسا في المطار وقبل نقله الى مستشفى هنري دونان في باريس. وامسكت المعارضة الفرنسية بهذه القضية وفتحت النار على الحكومة وعلى الحكم الاشتراكي وعلى الرئيس ميتران الذي كان يقوم آنذاك بزيارة لسلطنة عمان برفقة رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي. كان فرانسوا ليوتار، رئيس الشرف في الحزب الجمهوري، اول المبادرين الى "اطلاق النار على سيارة اسعاف جورج حبش" فهو بنظره "أخطر إرهابي أنجبه العصر" وليوتار يعتبر من اكثر الزعماء الفرنسيين تأييداً وحماساً لاسرائيل. لكن ليوتار لم يكن وحيداً في هذا المجال فقد انتظم زعماء اليمين كلهم في الهجوم على حبش وكلهم رددوا العبارة إياها بطريقة او بأخرى: "بيار ماينيري الوسط فاليري جيسكار ديستان الاتحاد الديموقراطي الفرنسي جان ماري لوبن الجبهة الوطنية العنصرية المتطرفة آلان جوبي وشارل باسكوا وروبير باندرو ديغوليون جيرار لونغيه الحزب الجمهوري... الخ. كلهم رددوا عبارة واحدة من شقين: الاول يقول: "جورج حبش ارهابي خطير يداه ملطختان بالدماء الغربية والاسرائيلية ومعاد للسلام ومسؤول عن خطف طائرات مدنية". والشق الثاني يقول: "الحكومة الفرنسية مسؤولة عن الحاق الاذى بسمعة فرنسا من خلال هذه القضية ويجب ان تستقيل". والاستنتاج الملازم: لن يتمكن ميتران من الاستمرار على هذه الوتيرة من الاخطاء حتى العام 1995 تاريخ الاستحقاق الانتخابي الرئاسي. يومذاك "لن يكون على جاك شيراك الا ان ينحني قليلاً ليلتقط سلطة بلغت مع فرانسوا ميتران مستوى الارض" على حد تعبير جان ماري كولومباني احد ابرز معلقي جريدة "لوموند" الرصينة وهو يشير بذلك الى سلسلة من القضايا والفضائح الكبيرة التي ارتبطت باسم الاشتراكيين خلال سنوات حكمهم وآخرها حسب رأيه قضية جورج حبش. هذه التصريحات رافقتها حملة صحافية واعلامية واسعة انهالت بثقلها كله على الحكومة الاشتراكية الى درجة حملت رئيس الوزراء الاسرائيلي شامير على "الاعتدال"، فهو قال معلقاً: "الرجل مريض جسدياً والقضية ليست مهمة" ولم يطالب شامير باسترداد حبش كما اعتقد ثلاثة ارباع الصحافيين الفرنسيين. أسباب انسانية... وسياسية! بمواجهة ذلك كان لا بد ان يتحرك الاشتراكيون بسرعة وان يفقدوا "دمهم البارد"، على حد تعبير انطوان فاشتير زعيم "حركة الخضر"... وقد اطاح التحرك الاشتراكي الفوري بخط الدفاع الاول من قرار استقبال حبش: "لقد وافقنا على استقباله لاسباب انسانية وهو ليس مطلوباً للعدالة ولا توجد بحقه مذكرات توقيف فرنسية او دولية، ناهيك عن انه يعاني من حالة صحية خطيرة... نحن لا نقيم اي اعتبار لماضيه السياسي ولا للانتماء السياسي او الاجتماعي للاشخاص الذين نعالجهم" هكذا بررت السيدة جورجينا دوفوا رئيسة الصليب الاحمر الفرنسي استقبال حبش قبل ان يطلب اليها بعد ساعات فقط تقديم استقالتها وبالتالي الطعن بحجتها "الانسانية" المذكورة. بعد الانهيار السريع ل "خط الدفاع الانساني" عن حبش، انتقل الاشتراكيون الى خطوط دفاع خلفية بعيدة للغاية. وانضموا على طريقتهم وحسب مقتضى الحال الى الحملة اليمينية: "قضية خطيرة، غلطة كبيرة، لا يجب ان يبقى هذا الرجل في فرنسا، يجب تقديمه الى العدالة!!" ومن ثم "يجب ان يتحمل المسؤولون عن هذا القرار عواقب عملهم" وهنا ايضاً اشترك زعماء الحزب الاشتراكي البارزون في اطلاق النار على المسؤولين عن هذه القضية. آخر من يعلم! وحتى قبل عودته من مسقط الى باريس، طلب ميتران اقالة "موظفين" اعتبر انهم مسؤولون عن "قضية حبش" خصوصاً ان الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته رولان دوما اكدا انهما لم يعلما مسبقاً بوصول حبش، وان قرار الموافقة على مجيئه الى فرنسا هو قرار اتخذه موظفون في وزارتي الخارجية والداخلية اضافة الى جورجينا دوفوا. وبناء على طلب ميتران قدم الموظفون استقالتهم وهم: "فرانسوا شير الامين العام لوزارة الخارجية وبرنار كيسيدجيان مدير مكتب دوما، وكريستيان فيغورو مدير مكتب وزير الداخلية فيليب مارشان، وبعد يوم واحد اقيل باتريس برغونيو احد مستشاري الوزير نفسه. كما استقالت دوفوا من منصبها كمستشارة في قصر الاليزيه، ثم بعد ذلك بأيام استقالت من منصبها كرئيسة للصليب الاحمر في فرنسا بناء على طلب الهيئة التنفيذية للصليب الاحمر. "انهم مجانين"!! قال ميتران واصفاً بدوره قرار هؤلاء باستقبال حبش للمعالجة في فرنسا، قبل ان يضيف معلقاً "انهم يفتقدون الى الحس السياسي ولا يأبهون الا بالنواحي الانسانية". لكن ميتران لم يلاحظ "هذا الجنون" قبل يوم واحد فقط، وخلال رد فعله الاول على القضية في المؤتمر الصحافي الذي ختم به زيارته الرسمية الى سلطنة عمان، واستعاد فيه الحجج الانسانية التي ذكرتها دوفوا حول استقبال حبش. تدخلات عربية حادة ولم يكشف الاشتراكيون بالتفصيل عن القضية برمتها وانما انتقلوا الى الهجوم بوصفه افضل طريقة للدفاع فلجأوا الى الورقة القضائية. هكذا أحال القاضي الشهير جان لوي بروغيير المكلف بملفات ارهابية، جورج حبش على "التوقيف الاحترازي" وكلف اربعة من الاطباء بتقدير حجم خطورة حالته وما اذا كان بالامكان اخضاعه للتحقيق. وكان الجواب الفلسطيني حاسماً: لا يمكن استجوابه. فلم يبق اذن امام حبش سوى الرحيل. وهكذا غادر حبش فرنسا الى تونس يوم السبت الماضي. بعد تدخلات فلسطينية ومصرية وجزائرية لم تخل من الحدة وتركزت حول المخاطر التي يمكن ان تنجم عن محاكمته في فرنسا. بعد رحيله اعلن الناطق باسم الحكومة جاك لانغ ان قضية حبش قد اقفلت برحيله وبمعاقبة المسؤولين عن "القرار الاداري الخاطئ" الذي ادى الى مجيئه الى فرنسا والذي اتخذه المسؤولون الاداريون الواردة اسماؤهم من قبل. لكن "قضية جورج حبش" لن تنته بسهولة فمضاعفاتها الداخلية الفرنسية مرشحة للتفاعل مجدداً والحاق المزيد من الاضرار بالسلطة الاشتراكية في فرنسا. "لماذا تستقبل فرنسا دوفالييه ديكتاتور هايتي السابق ولا تستقبل جورج حبش؟" تساءل انطوان فاشتير زعيم الخضر الذي كان الاكثر اعتدالاً في موقفه من هذه القضية. المسؤولون الفرنسيون وكذلك زعماء المعارضة ليسوا مستعجلين للاجابة عن اسئلة من هذا القبيل ولا يعيرون انتباهاً خاصاً لمنطق من هذا النوع خصوصاً في هذه الايام. ذلك ان "قضية حبش" تخضع لمنطق آخر ولاعتبارات اخرى، فرنسية - فرنسية بالدرجة الاولى، وفرنسية - عربية بالدرجة الثانية، وفرنسية - اسرائيلية تالياً، وبالتالي لا بد من القاء الاضواء عليها من خلال مؤشرات اخرى. نزاع على السلطة المؤشر الاول يتصل بالطابع الداخلي لهذه القضية. وهنا تستوقفنا ظاهرة بارزة في السياسة الخارجية الفرنسية مستمرة منذ العام 1986، وهو العام الذي شهد ما عرف بإسم "حكومة التعايش" بين اليمين واليسار في فرنسا. حيث اخذت السياسة الخارجية الفرنسية تتحول الى ورقة مهمة في الصراعات الداخلية على السلطة بين اليمين واليسار. وبهذا المعنى يمكن القول ان "قضية جورج حبش" تحوّلت الى قضية بين قضايا اخرى خارجية هي محل نزاع فرنسي- فرنسي على السلطة ولأسباب داخلية اكثر منها خارجية. المؤشر الثاني يتعلق بالضعف القياسي الذي تسجله باضطراد حكومة اديث كريسون التي وصلت اسهمها في استطلاعات الرأي العام الى درجات متدنية جداً، يغري التيارات اليمينية بتشديد الهجوم عليها، خصوصاً في قضايا ذات طابع انساني. ذلك ان "الميدان الانساني" هو ميدان اشتراكي بامتياز في فرنسا. وهكذا لم يساهم ضعف الحكومة في الدفاع عن استقبال "حبش" لاسباب انسانية، بينما ساهمت قوة حكومات سابقة في تغطية استقبال شخصيات فلسطينية لا تقل اثارة للجدل عن حبش. المؤشر الثالث يطال السياسة الفلسطينية التي تنتهجها فرنسا بصورة خاصة والسياسة العربية بصورة عامة. فمن المعروف ان باريس تعاني، منذ بعض الوقت، من صعوبات كبيرة في علاقاتها العربية. وهي حريصة على اقامة علاقات جيدة مع القيادة الفلسطينية. لذلك رأى الذين اتخذوا قرار السماح لحبش بالمجيء الى باريس ان هذه الخطوة ستعزز العلاقات الفرنسية - الفلسطينية وربما علاقات فرنسا مع دول عربية اخرى، مثل سورية والجزائر التي يحمل حبش جواز سفر ديبلوماسي صادر عنها. بهذا المعنى ليس في قرار استقبال حبش "جنون" او "سوء تقدير كبير" او "خطأ فادح" ينم عن سلوك ديبلوماسيين هواة جرياً على الوصف الذي تردد للمناسبة، وانما هو تعبير عن سياسة مدروسة وتستند الى تقدير سياسي دقيق. المؤشر الرابع يتصل بالسياسة الفرنسية التقليدية تجاه منظمة التحرير الفلسطينية. وليس خافياً على احد ان باريس قد وفرت حماية لياسر عرفات في ظروف مصيرية، في العام 1982 على اثر الاجتياح الاسرائيلي وحصار بيروت، وفي العام 1983 على اثر معارك طرابلس في شمال لبنان، ناهيك عن استقباله في باريس استقبالاً رسمياً في العام 1989 ورفع درجة التمثيل الفلسطيني في العاصمة الفرنسية والاستعداد المبدئي للاعتراف بدولة فلسطين... لوبي عربي - فرنسي المؤشر الخامس يتصل بفرضية "اللوبي العربي او الفلسطيني" في وزارة الخارجية الفرنسية، وهي فرضية تقول ان مجموعة اساسية في "الكي دورسيه" ما فتئت تعبر عن دعمها غير المحدود للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية، وان هذه المجموعة بادرت الى اجتياز عتبة جديدة من خلال ترتيب مجيء "حبش" الى فرنسا. ويذهب المدافعون عن هذه الفرضية، وهم ينتمون الى اتجاهات سياسية متناقضة، الى حد القول ان "اللوبي العربي" قد ارتكب هذه المرة "غلطة الشاطر" وبالتالي عرض نفسه لمخاطر كبيرة بتبنّيه قضية جورج حبش، والدليل على ذلك اقالة رأسي اللوبي: شير وكيسيدجيان. لكن اغلب الظن ان الحديث عن "لوبي عربي" لا يتعدى الاشارة الى موظفين مخلصين لسياسة فرنسا الخارجية. واذا كان "اللوبي" العربي حلماً ما زال يراود بعض العرب في الغرب فانه حجة اسرائيلية اكيدة للضغط على سياسة فرنسا الخارجية المتعاطفة مع العرب. لقد غادر جورج حبش فرنسا مخلفاً وراءه اسئلة ستظل بدون اجابات صريحة لبعض الوقت، لكنه خلف وراءه ايضاً قضية ستساهم بين قضايا اخرى، بالتأثير جدياً على مستقبل الاشتراكيين في السلطة. واذا كانت التيارات اليمينية تأمل بان يطيح حبش بحكومة اديث كريسون، فان فرانسوا ميتران الذي استعاد "دمه البارد"، على ما يظهر، لا يبدو مستعجلاً للاستجابة لرغبة التيارات المعارضة، خصوصاً في هذه المرحلة التي تستعد فيها البلاد لخوض الانتخابات الاقليمية في شهر آذار مارس المقبل. وسيسجل التاريخ ان حبش جاء الى باريس فأثار عاصفة سياسية لكنه لم يتلق العلاج المناسب.