سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
صاحب "الياطر" بين القلق والندم و"واقعية البعد الثالث". الروائي السوري حنا مينه ل "الوسط": لا أستطيع الكتابة عن الحب الرومانسي ولا أزال أنتظر المرأة التي تروضني وتبكيني
بعد النجاح الذي عرفه مسلسل "نهاية رجل شجاع" المقتبس عن احدى رواياته، يعود الروائي السوري حنا مينه الى دائرة الضوء مع انتهاء محمد شاهين من تحقيق فيلم "آه يا بحر" المقتبس عن روايته "الدقل" بطولة منى واصف. كما صدرت أخيراً ترجمتان جديدتان، أميركية وإلمانية، لرواية "بقايا صور" التي يعرف صاحبها انتشاراً واسعاً في العالم العربي، بلغته الواقعية، وشخصياته المستقاة من الواقع الشعبي، وحكاياته التي تسكن الذاكرة الجماعية... للمناسبة قصدت "الوسط" صاحب "الياطر" الذي طالما اعتبر من أبرز دعاة الادب الملتزم، فكان هذا الحوار عن الحب والحزن والصمت، عن الواقعية، والحق في الخطأ، و... المراهنة على المستقبل. حين فكرت بلقاء حنا مينه، قلت في نفسي سألتقي الكاتب البحري الشعبي، ولا بد أنه يزيّن جدرانه ببعض الصخور وشباك الصيادين. لا بد أن نافذة مكتبه في وزارة الثقافة في دمشق، لا تطل على شارع مزدحم بالسيارت، بل على البحر في اللاذقية حيث تعوم الزوارق في "بقايا صور" الذاكرة. وإذا بي أمام رجل أنيق وقور ولطيف في مكتب حيادي، يمكن أن يكون لأي موظف آخر. تأملت الكاتب السوري الكبير، صاحب "الياطر"، "الشراع والعاصفة"، "المصابيح الزرق"، "المستنقع"، "بقايا صور" وروايات كثيرة أخرى عرفت انتشاراً واسعاً وجابت أرجاء الوطن العربي بصفحاتها المتلاطمة مع أمواج البحر المتوسط الأبيض والأزرق والرمادي، الأخضر والأسود... البحر في كل حالاته وانفعالاته. وبصوت لا يُبذل جهداً في اخفاء نبرته الحزينة، كأن التجارب "عتّقته" فسكنته الأسرار، قال لي: "تفضلي يا ابنتي". جلست بأمان، لكن اللطف الابوي لم ينجح في اخماد ما يعتمل فيّ من فضول وتساؤلات. قلت له: أين البحّار؟ وأين عدة البحّار و"السيجارة اللّف" التي لا بد أنها كانت من "تنباك" الريجي في اللاذقية؟! ومن هو هذا "الجنتلمان" الذي أمامي؟ فقال: "عدّة البحر تركتها أمانة عند البحر. واستأذنته بأن أحتفظ في مكتبي في البيت ببعض من هذه العدة، فأذن لي مشكوراً، كريماً كعادته. وإذا كان العمر سهاداً بين إغفاءتين، فإن هذا "الجنتلمان" الذي ترينه هو "مدني" بين حالتين غير مدينيتين بالمعنى الذي يرمز الى المدنية والى المجتمع المدني على السواء...". أنا من محبي الصمت! ويتابع حنا مينه: "هناك دائماً من يدهش لرؤيتي في هذا المكتب الوظيفي وأنا على شيء من أناقة. وإزاء هذه الدهشة أقول: ما ألبسه في المكتب هو من عدة المكتب، كما أن ما كنت ألبسه وأنا في البحر من عدة البحر. من المؤسف أنني هجرت البحر حين فارقته، ومن المؤسف أيضاً انني هجرت الأحياء الشعبية التي نبتُّ كالزرع الأصيل فيها. أحسب انني في الحالتين فعلت ذلك مضطراً: ففي المرة الأولى ودعت البحر لأنني استبدلت المجذاف بالقلم. وفي المرة الثانية استبدلت السيجارة اللف بهذا الغليون ذات التبغ المصرور ب "السيلوفان". أقول لنفسي دائماً: أنت أيها الشقي تعيش على رجاء القيامة، فمتى تأتي قيامتك، فتغادر هذا المكتب وتعود الى أجوائك القديمة، والى بحرك الذي شخت ولن يشيخ؟ إنني أسألكِ أنتِ. متى؟". أرى في هذا الجواب بعضاً من الحزن فهل أنا على حق؟ - أنتِ على حق تماماً. فدائماً هناك الصمت. أنا من محبي الصمت، ولكنني حين أصمت أنظر الى داخلي، وليس في داخلي سوى التفكير يوشح تقاطيع وجهي وحروف كلماتي بحزن يراه من يكون في مجلسي ولا أراه أنا. ومع الأيام بدأت أصدّق الآخرين حين يلاحظون أنني حزين. هذا جائز، ولكنني لقلبك الكريم أقول إنه حزن خلاّق. فمن طبعي ألا أتعامل مع الأشياء المجانية في كل حالاتي وكل مشاعري. لأن الدنيا أعطتني أكثر مما أستحق نسبة الى زملائي في الوطن العربي، وهي نسبة محدودة. وكان من الضروري تبعاً لذلك أن أكون فرحاً، ما دام الفرح هو الوجه الآخر للحزن. وأستطيع التأكيد أنني أعرف الوجهين. لكن السؤال الذي ينبثق من داخلي دائماً، ويرتسم في فضاء حياتي هو: ماذا يريد حنا مينه؟ وماذا يريد حنا مينه؟ - عندما كنت شاباً رغبت في أن أكون شاعراً أو ناظماً للشعر على الأقل، ففشلت في الاثنين. عندئذ اتجهت الى كتابة القصة القصيرة، ونشرت عدداً كبيراً من القصص في الخمسينات ضاعت كلها. ثم تحولتُ الى الرواية ويقال إنني ناجح كروائي. غير أن الشك "الديكارتي" ما زال يلازمني في أمر هذا النجاح. إن القلق الذي نعته بودلير ب "الوحش المفترس" هو زادي اليومي، وما أحسب أن هناك شيئاً يستطيع أن يبعد هذا القلق المبارك عن نفسي سوى نفسي في رحلة الوداع. ذلك أنه ماذا يتبقى من الفنان إذا انتفى القلق لديه؟ الفن والحب كلاهما يعيش بالقلق ويموت دونه. وليس لي رغبة أن أموت لا في الفن ولا في الحب، على الرغم من هذه الرحلة الطويلة التي أخاف أن أنظر الى الخلف كي لا أرى آثار خطواتي فوق طريقها المتعرجة. بقي أن نتكلم عن الحب إذاً، ما دام عندك ملازماً للفن والقلق... - الكلام على الحب يحتاج الى وقت أطول، والى حديث أشمل. الحب هو الحياة، كما أن القاهر الوحيد للموت هو الرغبة. وفي حياتي عرفت الحب وعرفت الرغبة، وعاملت الاثنين بكثير من الحفاوة. الحب هو مرض لذيذ، والشقي الذي لا يعرف هذا المرض، وكذلك الذي يشفى منه سريعاً. أتمنى للقراء جميعاً أن يصابوا بهذا المرض اللذيذ الى درجة الخدر. إلا أنني أوصيهم ألا يكونوا الأكثر حباً بالنسبة الى الآخر، حتى لا يكونوا الأضعف تجاه هذا الآخر. البكاء أمام الحبيب أنا شقيّ في الحب، صدقيني، اذا صح أنني عرفته حقاً. فبشيء من النرجسية أقول إنني لم أعرف بعد الحب في كل حالاته. وربما فات الأوان الآن... من حالات الحب التي أفتقدها البكاء أمام الحبيب، وتعاستي أنني لم أبلغ أن أبكي يوماً نتيجة حب ما، ولم يروضني أي حب. هكذا لم أعرف الحب الرومانسي ولا أستطيع الكتابة عنه، ولا أزال أنتظر المرأة التي تروضني وتبكيني. فهل يتحقق هذا الطموح يوماً؟ لا بد أنك تتكلم هنا بلغة الادب والمجاز؟ - عندما أكون مع القارئ أكون عارياً من كل أقنعتي في حال وجودها. طبعاً هناك دائماً تواشج بين المجاز والواقع، ولكني في النقطة التي أتكلم عنها واقعي جداً. يقودنا الحديث الى صميم تجربتك الادبية. فاذا تأملنا شخصياتك جيداً، نلاحظ أن المرأة "ساقطة" غالباً، بينما الرجل حامي الحمى و"قبضاي"! أليست هناك منزلة وسطى بين الابيض والاسود؟ - لست أنا من زعم انني أتعامل مع البطل الايجابي. ففي رواياتي بطل شعبي بكل صفات هذه الشخصية، من أريحية وشجاعة ونداوة، وليس من انسان يمتلك القوة بغير ضعف أو الخير بغير شر. لنأخذ مثلاً "الطروسي" بطل "الشراع والعاصفة"، فهذا الشجاع الذي طارد العاصفة كان ضعيفاً أمام المرأة، ولكنه الضعف الذي يليق بالرجولة. وإني لأتعلم من الطروسي بعضاً من خصاله الكفاحية ومن خصاله السلبية أيضاً. وهكذا ترين أن هناك بين الأبيض والأسود منطقة رمادية. وليس ذنبي إذا كان النقاد لم يبذلوا الجهد الكافي لرؤية هذه المنطقة. هناك في الحياة قانون أساسي دائم، يقوم على جدلية الايجاب والسلب. وبين هذين الحدين المتناقضين، هناك قوس كبير من المراوحات والطفائف والفروق الصغيرة التي تتراوح بين الأبيض والأسود. ومن غير المعقول أن يقوم الفن لولا تلك الجدلية. المرآة والنسيان وهل يتسع فضاء الالتزام لكل طيور الولع وفراشاته وجنونه؟ هل بوسع الكاتب أن يعبّر، من خلال منظار الادب الهادف، عن المناطق الذاتية الأكثر حميمية وعمقاً من تجربته الانسانية؟ - بحماسة: نعم. صمت لنطرح السؤال بصيغة أخرى، أكثر ذاتية. هل ثمة احساس بخسارة ما، هل ثمة شعور بالندم، حين يتأمل حنا مينه في المرآة، حنا مينه السياسي، العاشق، الكاتب الملتزم والانسان؟ - الانسان يرغب، بقصد أو غير قصد، ويحنّ الى أن يعيش حالات مرّ بها سابقاً. وليس مثل الندم شيء يجعل الانسان يعيش تجربته مرتين. أندم! طبعاً. أنا كثير الندم لأنني كثير الخطايا. ولكنني قليل النظر الى المرآة، لأنني لا أحب الوجه الذي يطالعني فيها، ليذكرني بالحقيقة التي أريد أن أنساها وأن أمحوها إذا استطعت. لن أسألك عن تلك الحقيقة التي تود محوها! لكنني أسأل عن حقيقة تم محوها. في هذا العالم الذي يشهد انهيار امبراطوريات وسقوط أسوار، واعادات نظر جذرية بقناعات الامس الراسخة... ذاكرة جيل كامل تحولت على ما يبدو الى غبار. في قلب هذه المعمعة التي ترتفع منها أصوات تبشر بقيام عالم جديد على أنقاض العالم السابق، كيف يُمتحن الصواب برأيك؟ - لا بد أن نأخذ من الماضي عبرته، ومن الحاضر رؤيته المستقبلية. هنا يلعب الحس التاريخي دوره، ويلعب الحلم دوره أيضاً. فأن يحيا الانسان يعني أن يحلم، وأن يؤمن بأن حلمه ممكن التحقيق، وفي تلك المسيرة بين الرغبة وتحققها تكمن التجربة التي منها نتعلم، وعلى ضوئها نستطيع أن نختبر الصواب والخطأ. ليست ثمة حقيقة مطلقة، وبالتالي ليس هناك صواب كامل أو خطأ نهائي، فالانسان ما دام انساناً وما دام حياً فهو ابن الخطأ والصواب. لا ينبغي أن نخاف من الخطأ، أو أن نخجل منه. فالخطأ ابن التجربة: كيف تكون هناك حياة بلا تجارب؟ وكيف تكون هناك متعة من غير عذاب؟ إن المتعة ذاتها هي الوقوف على حافة الخطر، وما من انسان عرف العلاقة بالرغبة إلا ووصل الى حافة هذا الخطر، بل الى ما أبعد منه، أي الموت، لدى الاقتراب من اللذة. إذاً لنجرّب. فالتجربة كفاح وما قيمة الحياة بغير كفاح؟ وما قيمة الكفاح بغير مغامرة؟ إن الأشياء العادية هي أشياء رتيبة مملة قاتلة، لا ينقذنا منها الا القاء النفس في بحر الحياة الهائج. وفي مثل هذا البحر فقط، يمكن للبحار أن يمتحن شجاعته، وصواب موقفه... واقعية، ولكن... لنتكلم بلغة مباشرة. لا بد أن الانهيار الكبير للفكر الاشتراكي سينعكس على الثقافة والابداع في العالم، وعلى مذهب "الواقعية الاشتراكية" تحديداً، وأنت من أبرز ممثليها في الرواية العربية. فهل انتهت حظوظ الواقعية في الأدب؟ وأية واقعية؟ والى أي حد يجب أن نتسلح ب "الشجاعة" النقدية التي تحدثت عنها أعلاه، فنرتمي في أحضان المجهول بحثاً عن رؤى وأشكال جديدة؟ - أن الواقعية النقدية مضى وقتها من زمن طويل، كما مضى وقت الواقعية الطبيعية والواقعية الرومانسية. وإذا تركنا التعريفات الكبيرة جانباً، مثل تعريف الواقعية الاشتراكية، فاننا نجد أن ما كان ينقص الواقعيات السابقة هو خلوّها من البعد الثالث، البعد المستقبلي، ففي الفن استناد لا بد منه الى الواقع، ولا مفر من أن يستمد الادب مادته الاولى من هذا الواقع. وما دام الامر كذلك، فإن الواقعية هي رديفة الحياة بيولوجياً واجتماعياً وفنياً، وجدت مع الانسان مذ وجد. وستبقى معه الى أن ينقرض، لكن السؤال هو التالي: أية واقعية؟ إنني من أنصار واقعية تتعدى البعدين المتعارف عليهما، أي الماضي والحاضر، لتتعامل مع البعد الثالث الذي هو البعد المستقبلي. لماذا تكون العالمية على مقاس ما يكتب في أوروبا، ولا تكون على مقاس ما يكتب في الوطن العربي؟ قال العرب: ليس في الاعادة إفادة. وليس في قولي إن العالمية تنبع من المحلية إلا الاعادة التي اتفقنا أنه لا فائدة منها. ولو أردنا أن نأخذ الأدب العالمي لرأينا أنه الأدب الذي كان نبتَ في بيئته باخلاص كبير، متحلياً بقدرة على التجاوز والابتكار عن طريق التخييل. وهذا ما نراه في "الحرب والسلم" و"الاخوة كارامازوف" و"العجوز والبحر" وكل الروائع الأخرى. لهذا علينا أن نعرف البيئة التي نعيش فيها جيداً لكي تتمثل في أدبنا وفننا العربيين بصورة جيدة. وهذا ما يحدث، بصرف النظر عن الهم العالمي، أو هم العالمية التي نسعى اليها. أضنانا الركض وراء العالمية حتى بدأنا نتمهّل قليلاً في سعينا اللاهث لننظر الى الأشياء برؤية نقدية، نتبين من خلالها أن الأدب العربي لا يقل في ابداعيته عن الأدب العالمي. أتحدث عن الرواية تحديداً، لكن كلامي يشمل القصيدة والقصة والمسرحية وكل ألوان الابداع. هذه العطاءات التي كانت محاصرة بفعل سيطرة الصهيونية على أجهزة الثقافة والاعلام في أوروبا وأميركا... واستطعنا الآن بالسوية الفنية الملائمة أن نخترق هذا الحصار ونحن الى مزيد من مثل هذه الاختراقات، وفي كل ألوان وأجناس الأدب والفن العربيين. لا أقول ذلك فقط لأن أستاذنا الكبير نجيب محفوظ نال جائزة نوبل بجدارة كبيرة، فهو يستحقها كما كان يستحقها غيره من الأدباء العرب. بل أقول ذلك لأنني مطّلع على الأدب العالمي، وأنا أوجه اليه نظرة منصفة لا تتصف بالغرور ولا بالدونية.