مات أم لم يمت، ليس مهمًا... منذ 2015 ووفاته ترد في الصحافة العربية ويضطر أبناؤه إلى تكذيبها.. وكأن هناك قوى خفية تريد تصفية حسابها مع قامة أدبية عربية وعالمية كبيرة.. بعيدًا عن هذه الممارسات المؤذية التي تصل حد الجريمة التي يفترض أن يعاقب عليها القانون، إذ وجب احترام الحي كليًا ولو بقيت في حياته ثانية واحدة.. نعم وضع حنا مينه الصحي هش جدًا، ويعيش شيخوخة صعبة بارتباك ذاكرته، الأمر الذي دفع به إلى نشر وصيته علنًا وكأنه يسابق الزمن في عالم لا يرحم.. خارج هذا المعطى الصعب، يظل حنا مينه قامة عربية كبيرة أثبتت وجودها العظيم بأعمالها الخالدة، فينيكسًا قويًا يقوم من لغته في كل مرة معلنًا عن تجربة روائية جديدة يسعد بها قراءه الذين ينتظرونه.. عندما نتأمل مسار هذا الروائي الاستثنائي، نكتشف كم أن التجربة التي صنعته كانت قوية وعظيمة ولكن أيضًا قاسية.. وهي التي جعلت من أعماله رديفًا لحياة تتجدد باستمرار. يقول في وصيته التي نشرها قبل سنوات، إنه شبع من الحياة وأصبح يخاف أن لا يموت.. لم يكن مخطئًا.. فهو غير قابل للموت بعد أن ترك لنا ما يظن استمراره لأجيال كثيرة. فقد منح بسخاء كبير للذاكرة السورية والعربية والإنسانية ميراثًا حيًا قائمًا وشامخًا، يضعه في المراتب العليا لجائزة نوبل، وكل الجوائز العربية الكبرى . لكن للأسف كل شيء اليوم محسوب بمقامات نفعية سياسية، لا علاقة لها بالأدب.. العمل الروائي الضخم المكون من ثلاثين رواية يستحق هذا التتويج المستعصي على العرب ظلمًا منذ نجيب محفوظ. كل ما عالجه حنا مينه يصب في القيمة المثلى: الإنسان الذي يجب الحفاظ عليه واحترام عقله.. قد يلوم البعض على حنا مينه بقاءه بعيدًا عن الثورة.. له الحق في أن تكون له وجهة نظر تسير وفق إنسانيته.. ماذا كان سيبقى من فيروز لو اتخذت موقفًا طائفيًا لمصلحة جهة دون أخرى؟ وجهة نظر تستحق النقاش بدل الأحكام الجاهزة. حتى عندما جيء بحنا مينه الى وزارة الثقافة كان ذلك بناء على صداقة وطيدة بينه وبين نجاح العطار.. وبناء على قيمة حنا الإبداعية، ناهيك عن كون الرجل في آخر العمر.. حنا قيمة إنسانية تتجاوز المعطى السوري.. إضافة إلى كونه ميراثًا وطنيًا وليس ملكًا لجهة مسيحية أو إسلامية إو يسارية أو يمينية.. فقد دافع عن الإنسان البسيط ورفعه إلى الأعالي من روايته الأولى «المصابيح الزرق» التي أظهر فيها حياة الناس في عز الحرب العالمية الثانية.. لم يكن زكي المرسليني في الياطر إلا صورة لهذه المقاومة الحية.. كل الذين مروا على طاحونة الظلم يحلمون بأن يكونوا في صورة الطروسي في الشراع والعاصفة، الذي غرقت سفينته لكنه ظل يحلم بعودته إلى البحر.. سلاحه الأوحد كرمه واستماتته من أجل الحق.. مفيد الوحش في نهاية رجل شجاع، الرجل العنيف الذي خرج عن نظام العائلة بعد فلقة والده الذي أهانه أمام الجميع، سيخلق قيمه ويسير وفقها وليس وفق ما يفرض عليه من نفاق مجتمعي.. كلنا نحسد أبطال الشمس في يوم غائم وعلى رأسهم معلم الرقص الغجري الذي يعلم البطل رقصة الخنجر الخطيرة.. الأبطال بلا أسماء في هذه الرواية، لكنهم يشبهوننا في رفضهم وتمردهم على نظام الأرستوقراطية البائس.. نندهش من مقاومة البحار سعيد حزوم ابن صلاح حزوم، في حكاية بحار، أو مثقف الثلج يأتي من النافذة، لكن في النهاية لن نجد شيئًا فوق القيمة المثلى التي يدافع عنها حنا مينه: الرجولة في معناها الأنبل.. القبضاي، سيد الحق حتى ولو على حياته.. عبر مساره الروائي الكبير، خلق لنا حنا مينه شخصيات حية وكبيرة، تذكرنا في كل ثانية بما علينا فعله تجاه الأضعف اجتماعيًا.. عالم البحر جعل من حنا مينه كاتبه وكاشف أسراره.. لم يكن ثيمة ثانوية في جهده الروائي ولكنه ثيمة جوهرية لدرجة أنه لا يمكن رؤية أعمال حنا مينه خارج منطق البحر وجبروته.. أليس هو من قال: «إن البحر كان دائمًا مصدر إلهامي حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشمًا على جلدي، لا أدعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحارة هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، وكنت كذلك بحارًا ورأيت الموت في اللجة الزرقاء ولم أهبه لأن الموت جبان فأنا ولدت وفي فمي هذا الماء المالح، لكنه هذه المرة كان ملح الشقاء وملح التجارب وملح العذاب جسديًا وروحيًا في سبيل الحرية المقدسة صبوة البشرية إلى الخلاص ولذلك كان بديهيًا أن أطرح منذ وعيي الوجود أسئلتي على هذا الوجود وأن أتعمد في البحر بماء العاصفة وأن أعاني الموت كفاحًا في البر والبحر معًا وما الحياة قولة الطروسي بطل الشراع والعاصفة إلا كفاح في البحر والبر وبغير انقطاع لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة أمنا جميعا». هذا هو حنا مينه، مات أم لم يمت، فهو ذاكرة الألم والمقاومة الخالدة، التي اختارت أصعب الطرق: الانتصار للإنسان دائمًا وأبدًا.