يبدو أن كل الأطراف المشاركة في صياغة "مفاوضات مدريد" الثنائية والمتعددة للتسوية السياسية في الشرق الأوسط حسمت موقفها، بعد فترة التردد والأزمات، وقررت مواصلة المسيرة، وتجاوز الأزمة الراهنة. والسؤال: هل استئناف المسيرة، سيجري وفق القواعد التي حكمت بداياتها في عام 1992؟ لا أظن انه يكفي، في الاجابة على هذا السؤال، اللجوء الى عموميات التغييرات التي طرأت على المسيرة، خصوصاً تلك التي حدثت بالنسبة الى عدد من الشخصيات التي تلعب أدواراً رئيسية، سواء على خشبة المسرح تحت الأضواء أو في الكواليس ذات الأضواء الخافتة. نعني هنا - تحديداً - حلول الرئيس كلينتون محل الرئيس بوش، ووارن كريستوفر بدلاً من جيمس بيكر، واسحق رابين بدلاً من اسحق شامير. صحيح ان هذا التغيير في الأشخاص يحمل معه أساليب وربما عوامل جديدة في التعامل مع صياغة مدريد، تختلف، وأحياناً تصطدم، مع الأساليب والعوامل التي كانت متبعة من قبل، خصوصاً في مراحل الانطلاق الأولى. وعلى سبيل المثال، فإن المواقف المعلنة - خصوصاً خلال الحملة الانتخابية الأميركية الرئاسية عام 1992 - تكشف عن ان كلينتون يبدأ ممارسة مهماته من وضع أكثر انحيازاً الى اسرائيل. وذلك بالقياس الى الوضع الذي انتهى اليه بوش، عندما غادر البيت الأبيض. ولا يستطيع أي محلل سياسي ان يغفل حقيقة ان جيمس بيكر هو المهندس الأول لصياغة مفاوضات مدريد، مما يجعلها في حركتها ومصيرها، سواء بالنجاح أو الفشل، ترتبط عضوياً بتاريخه ومستقبله السياسيين، وربما تؤثر النتيجة في مشروعه، الذي يتردد الحديث عنه، حول إمكانية ترشيحه للرئاسة واستعادة الجمهوريين للبيت الأبيض في الانتخابات المقبلة عام 1997. أما وارن كريستوفر، فهو وان كان الوريث لما أطلقه جيمس بيكر والذي أعلن التزامه بمواصلة الحركة على الطريق نفسها، إلا أن من الواضح ان أسلوبه، بحكم تربيته الديبلوماسية المتحفظة، يتسم بالتؤدة والحذر، وذلك على خلاف اسلوب بيكر الاقتحامي للمشاكل والصعوبات، واذا تعثرت صياغة مدريد في النهاية فإن ذلك لن يحسب عليه كثيراً. ويمكن القول ان رابين - على خلاف شامير - أكثر جدية، كما أعلن، في التعامل مع صياغة مدريد، ويرفض كما أعلن أيضاً، التعامل معها لكسب الوقت بأمل ان يحوله الى عامل إضعاف للطرف الفلسطيني، في الصراع، كما كان يخطط شامير، ذلك أن عامل الوقت، في تقدير وتجربة رابين - سلاح ذو حدين، قد يطعن الجسد الفلسطيني، ولكنه ايضاً يستنزف دماء وحيوية الجسد الاسرائيلي في الوقت نفسه. بيد أن كل هذه الاختلافات في الأساليب والتوجهات الناجمة عن تغيير بعض الشخصيات الرئيسية، في هذه اللعبة الخطرة، تظل محكومة بعدد من العوامل الموضوعية ذات الثقل المؤثر على مسار الحركة. سباق مع الزمان ويمكن رصد أهم هذه العوامل في النقاط الثلاث الآتية: النقطة الأولى، تكمن في أن الخلاف بين كلينتون وبوش حول انحياز واشنطن لاسرائيل، يظل خلافاً في الدرجة وحسب، كما ان الخلاف بين اسلوب بيكر الاقتحامي واسلوب كريستوفر الحذر، لا يحجب حقيقة ان كريستوفر هو من أبناء مدرسة كامب ديفيد، اذا صح التعبير، عندما كان يعمل في إدارة الرئيس جيمي كارتر تحت قيادة سايروس فانس وزير الخارجية، وقتذاك. وبالتالي فإنه أسبق من بيكر في التمرس بعملية التسوية السياسية السلمية لأزمة الشرق الأوسط وصعوبتها. ويبقى العامل الموضوعي في هذه النقطة، هو في تصاعد المصلحة الأميركية الوطنية، منذ عهد كارتر قبل اثني عشر عاماً حتى عهد كلينتون، حول ضرورة الوصول الى تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط بين اسرائيل والعرب. وذلك ضماناً للمصالح الأميركية البترولية والسوقية والأمنية، في المنطقة. وهذا يعني - أميركياً - قسمة كعكة المنطقة بين اسرائيل والعرب. الأمر الذي يعني التحول الأميركي عن دعم مشروع اسرائيل الكبرى، الذي يقود - بدوره - الى كينونة فلسطينية تقع بالمعايير الأميركية في نقطة وسط بين مجرد الحكم الذاتي المشروع الاسرائيلي وبين الدولة الفلسطينية المستقلة المشروع الفلسطيني. النقطة الثانية تتحدد في ان الولاياتالمتحدة في محاولتها تجاوز أزمتها الاقتصادية الداخلية الحادة، أصبحت في سباق مع الزمن، أمام التدهور المستمر ومنافسات الأسواق الكبيرة في العالم، من أجل تخفيض جذري في نفقاتها الداخلية والخارجية. ومن بين البنود المهمة في قائمة التخفيضات لنفقات الخارج هو ذلك الحجم المهول المرئي وغير المرئي للمعونات الأميركية لاسرائيل، وايضاً الحجم المرئي الكبير نسبياً للمعونة المقدمة الى مصر، دعماً لها في مشاكلها إزاء مبادرتها للسلام المبكر مع اسرائيل. والمفتاح الى ذلك هو الوصول الى تسوية سياسية لأزمة الشرق الأوسط. من هنا يتبلور الجهد الأميركي المعاصر حول ضرورة تسريع الخطى لمسيرة صياغة مدريد نحو التسوية السياسية في أقرب وقت ممكن، باعتباره عاملاً موضوعياً حاكماً للحركة، خصوصاً أنه مع انهيار الاتحاد السوفياتي من ناحية، وتدني نفوذ ما كان يسمى بالنظم العربية الراديكالية المعادية للمصالح الأميركية من ناحية أخرى، فقدت اسرائيل جدواها كمشروع استثماري أمني للولايات المتحدة. النقطة الثالثة تدور حول ما تصطدم به مسيرة التسوية السياسية من وقت لآخر، من عمليات لوي الأذرع بين الأطراف المباشرة، سواء بهدف الضغط المتبادل أو تحسين شروط التسوية لهذا الطرف أو ذاك، من خلال اضعاف مركزه وحصاره بمشاكل غير متوقعة. في إطار هذه النقطة يتراءى تزايد عنف كل من حملات قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني والانتفاضة الجماهيرية ضد الاحتلال. غير أن هذه العمليات المتبادلة للوي الأذرع، بلغت حافة الخطر التي هددت بنسف مسيرة التسوية عندما أقدم رابين على طرد ما يزيد على 400 فلسطيني من وطنهم دفعة واحدة، الأمر الذي ألقى بقفاز تحد سياسي، لا سابقة له، أمام منظمة التحرير الفلسطينية، حيث ان غالبية المطرودين ينتمون الى "حماس" المنافسة لمنظمة التحرير في توجهاتها وقيادتها الوطنية المركزية للعمل الفلسطيني، شعبياً وسياسياً في الداخل والخارج على السواء، وبالتالي دفع منظمة التحرير التي تقود التفاوض الى مواجهة مباشرة مع "حماس" التي تعارض في خطابها السياسي المفاوضات وصياغة مدريد. وذلك وسط اجواء شعبية متأججة ألهبتها عملية الطرد الجماعي للمواطنين الفلسطينيين من أرضهم، بغض النظر عن انتمائهم الى "حماس" أو غير "حماس". من هو عدو حماس؟ وتكشّف للجميع، بمن في ذلك رابين نفسه، بعد فترة من تفاعل عملية الطرد مع حركة الأحداث بمستوياتها المختلفة في أوساط الفلسطينيين وأوساط حكومة رابين الائتلافية أيضاً والأطراف العربية والدولية، ان الاقدام على لوي الأذرع الى هذه الدرجة، من شأنه أن يعصف بالعملية التفاوضية ككل. ويضعف مراكز كل الأطراف، لا الطرف الفلسطيني المتمثل في منظمة التحرير وحسب. وذلك يشمل حكومة رابين والولاياتالمتحدة الأميركية ذاتها تحت قيادة الرئيس الجديد كلينتون. من هنا بدأت تتواتر الجهود، من كل حدب وصوب، لمحاصرة هذا الفعل الخطير الذي نجم عن عملية الطرد الجماعي والذي وضع منظمة التحرير في موقف حرج، قدرته موضوعياً جميع الأطراف الاقليمية والدولية، ولم يكن له من مخرج إلا الاعلان عن موقف عدم استئناف المشاركة في التفاوض إلا بعد عدول حكومة رابين عن قرار الابعاد، وتنفيذها الكامل والفوري لقرار مجلس الأمن الاجماعي بعودة جميع المبعدين. اكتسبت هذه الجهود نشاطاً متميزاً من خلال زيارة كريستوفر للمنطقة، والحركة المصرية بين جميع الأطراف العربية والدولية واسرائيل، والتجاوب النسبي لرابين مع الضغوط بإعادة مئة مبعد فوراً وتوقيت عودة الآخرين على مراحل لا تتجاوز نهاية عام 1993، غير أن هذا لم يرفع الحرج السياسي تماماً عن منظمة التحرير، التي انتقلت من المطالبة بعودة جميع المبعدين، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن، الى ضمان عدم لجوء اسرائيل الى سياسة الابعاد مرة أخرى في المستقبل، واتخاذ عدد من اجراءات بناء الثقة ببدء الافراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وتخفيف الوجود العسكري الاسرائيلي في المناطق المحتلة، والتعهد الاسرائيلي الحاسم بتطبيق القرار الرقم 242 على مفاوضات المرحلة الانتقالية والمرحلة النهائية في ترابط موحد. ولما كانت حدود التراجع لأي طرف محدودة أمام معارضيه وتتطلب وقتاً، من الخطر استمراره فارغاً من دون مفاوضات، هذا مع استمرار حالة الحرج المعقدة لحركة منظمة التحرير الفلسطينية، فقد أقدمت الولاياتالمتحدة واسرائيل، مضطرتين، على كشف أوراق خفية على درجة كبيرة من الأهمية في مسألة التكتيكات التي تمارس لإضعاف مركز منظمة التحرير والضغط عليها بتقوية مركز "حماس". وتمثلت الورقة الأميركية في الاعلان عن توقف واشنطن عن حوارها غير العلني مع "حماس"، منذ فترة، للتوصل الى تحديد دورها ونصيبها من التسوية السياسية عند التوصل اليها، من دون أن تتعفر يدها بترابها. أما الورقة الاسرائيلية، فهي ما أعلنته تل أبيب عن فحوى الاتصالات الجارية بين المنسق الاسرائيلي لادارات المناطق المحلية، روتشيلد، وبين قيادة "حماس" التي مثلها - حسب الاعلان الاسرائيلي - عبدالعزيز الرنتيسي أحد المبعدين والمتحدث باسمهم، من أن "حماس" لا تعتبر اسرائيل في الظروف الراهنة العدو العاجل، وان العدو الذي يتصدر قائمة أولويات حماس يكمن في "النظم العربية المعادية للحركة الاسلامية" والتي تقف حجر عثرة دون وصولها الى السلطة، وان مسألة العلاقات مع اسرائيل سيجري بحثها في ضوء ما تسفر عنه المعركة بين "النظم العربية والحركات الاسلامية". ويبدو أن هاتين الورقتين جرى تداولهما خلال الاجتماعات التي عقدها وارن كريستوفر مع الأطراف العربية عامة والطرف الفلسطيني خاصة، وان الطرف الفلسطيني اشترط لاثبات مصداقية هاتين الورقتين، اعلانهما للكل، وانه مع الاعلان ستعيد منظمة التحرير الفلسطينية تقييم الموقف حول استئناف المفاوضات ونوعية ارتباط ذلك بقضية عودة المبعدين. ويبدو ان الفلسطينيين مستعدون للمشاركة في المفاوضات من دون الاشتراط المسبق عودة جميع المبعدين، والقبول بعودتهم التدريجية في آجال لا تتجاوز شهر حزيران يونيو وتشرين الأول اكتوبر المقبلين. من هنا انفتحت الثغرة في الأزمة، وقام راعيا مؤتمر مدريد، أميركا وروسيا، بتوجيه الدعوة لاستئناف المفاوضات الثنائية في واشنطن في 20 نيسان ابريل المقبل بقوة دفع جديدة تختزل الوقت الى أقصر حد ممكن. * كاتب ومفكر سياسي مصري.