تردد عن اكثر من مصدر مطلع مقولة منسوبة الى اسحق رابين يؤكد فيها انه وجد في انتظاره بعد توليه رئاسة الحكومة الاسرائيلية الكثير من المفاجآت، غير ان اكثر المفاجآت التي اذهلته بعد ان اطلع على الملفات السرية للمفاوضات الثنائية واستمع الى تقرير عن سير المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية من رئيس الوفد الاسرائيلي الياكيم روبنشتاين، ان ما كان معروفاً بأنه اصعب وأعقد قضية في الصراع، وهي قضية الحكم الذاتي الانتقالي للشعب الفلسطيني، اصبحت القضية المرشحة للتسوية قبل غيرها من قضايا التسوية الاخرى في زمن قياسي قد لا يتجاوز آخر عام 1992. تضيف هذه المصادر في روايتها انه عندما طرح رابين هذه المقولة على الرئيس حسني مبارك خلال لقائه به في القاهرة عقّب الرئيس المصري بأن هذه مفاجأة سارة بالفعل، ولكن هل يتصور رئيس الوزراء الاسرائيلي انه يمكن عملياً تسوية مسألة الحكم الذاتي الفلسطيني الانتقالي في معزل عن تسوية كل من مسألتي الجلاء عن الجولان السورية ومنطقة جنوب لبنان؟ ثم ماذا عن القدس؟ ولا تقول المصادر ما هو رد اسحق رابين على سؤال حسني مبارك، غير ان المصادر نفسها تعود وتنسب مقولة اخرى الى جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي في جولته الاخيرة للمنطقة ومؤداها ان ثمة مصلحة مشتركة لأميركا وإسرائيل والعرب - بمن في ذلك الفلسطينيون - تبلورت من خلال ممارسة آليات التفاوض الثنائية والمتعددة الاطراف، وخاصة بعد الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة التي اسقطت الليكود واسحق شامير، تدور حول ضرورة تسريع خطوات التسوية السياسية بحيث تصبح ملامحها الرئيسية متفقاً عليها بين كل الاطراف قبيل نهاية هذا العام. إذا صحت هذه المقولات وحاولنا قراءة ما بين سطورها في ضوء حركة الاحداث الراهنة اسرائيلياً وعربياً وأميركياً فانه يمكن للمراقب ان يستخلص ثلاثة مؤشرات: المؤشر الاول، هو ذلك الموعد المتكرر والمضروب لتحقيق شيء ملموس من التسوية قبل نهاية 1992. وليس مصادفة ان هذا الموعد يواكب توقيت الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة في تشرين الثاني نوفمبر 1992. والذين شاركوا في اعمال مؤتمر مدريد في تشرين الاول اكتوبر 1991 استوقفتهم تلميحات جيمس بيكر في خطاباته ومباحثاته العلنية وكلماته التي تقرب درجة التصريح في لقاءات الكواليس الى انه يأمل في الوصول الى شيء ايجابي في التسوية قبل نهاية عام 1992، في حين كان شامير يحرص على السخرية المقنعة من تلميحات بيكر. وأذكر انه عندما سئل شامير خلال اجتماعه بالوفد المصري حول تقديرات بيكر قال: "انا ايضا آمل في ان نصل الى التسوية ليس بعد عام وإنما هذا المساء لو امكن". وعندما نقل تعليق شامير هذا الى بيكر اكتفى برسم ابتسامة على وجهه الذي لا تظهر عليه غير تعبيرات غامضة، وهو في اي حال صاحب ذلك التعبير الشهير الذي يقول: "ان التقدم في عملية السلام في الشرق الاوسط يحتاج في الحركة الى انتهاج اسلوب "الغموض البناء"! المؤشر الثاني: هو ما تشيعه الدوائر الاسرائيلية عن امكان التوصل بسرعة نسبية الى الحكم الانتقالي الفلسطيني قبل قضايا التسوية الاخرى. والدوائر الاسرائيلية هذه وصلت الى السلطة بعد الانتخابات الاخيرة بتركيبة جديدة لا سابق لها في الحياة السياسية الاسرائيلية بمعنى انه تتمثل فيها - لأول مرة - مجموعة اليسار بقيادة شولاميت ألوني، والذي يتضمن برنامج حزبها "ميرتيز" المعلن الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة الى جانب اسرائيل والتفاوض المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية. وإذا كانت المقولة عن أن إمكان التسوية الفلسطينية في الحكم الذاتي تتحقق بسرعة اكبر من نقاط التسوية الاخرى منسوبة الى ألوني، فانها تبدو طبيعية ومنسجمة مع مواقفها السياسية. لكن المقولة منسوبة الى رابين، وهو الذي لقب عندما كان وزيراً للدفاع في الحكومة الائتلافية مع الليكود "بجزار الانتفاضة". لكن لا بد من القول ان الرجل بعدما ترك الحكم الى المعارضة صرح بأن تجربته مع الانتفاضة تجعله يؤمن بعدم جدوى الحل العسكري وأن الحل السياسي هو وحده الممكن. فهل ان مقولته الراهنة وقد تولى السلطة ترجمة لهذا الخط الذي انتهجه في المعارضة؟ ثم انه في مقولته يشير الى الملفات وتقرير روبنشتاين رئيس الوفد الاسرائيلي في المفاوضات الثنائية مع الوفد الفلسطيني فهل يعني ذلك ان هذه المفاوضات تبلورت في الكواليس عن شيء ملموس لم يجر كشفه للعلن؟ وهل هذا ما يفسر استبقاء رابين لروبنشتاين وحده للاستمرار في رئاسة الوفد الاسرائيلي من دون بقية اعضاء ورؤساء الوفود الاسرائيلية في المفاوضات الثنائية والمتعددة؟ "المصلحة المشتركة" لكل الاطراف ومع ذلك فان تراكم الشكوك والحذر من الحيل الاسرائيلية الخادعة لا يسقط بسهولة الاحتمال القوي ان مقولة رابين تندرج في اطار "دق اسفين" في الجبهة العربية وإغراقها من جديد في دوامة الحلول المنفردة التقليدية يحققها طرف على حساب الاطراف الاخرى، وخاصة الطرف السوري الاكثر حساسية تجاه هذه القضايا نتيجة المواقف الاسرائيلية المعلنة المتشددة من موضوع الجلاء عن مرتفعات الجولان. غير انه أياً تكن الاحتمالات ولو افترضنا صحة مقولة رابين، فهل يمكن اعتبار الوصول الى تسوية بشأن الحكم الانتقالي للشعب الفلسطيني - وهي بطبيعتها مؤقتة ومرحلة اولى من مراحل التسوية - نوعاً من الحل المنفرد، ام خطوة دافعة وربما ضاغطة في عملية انجاز التسوية الشاملة حول الجولان ولبنان وكذلك الوضع النهائي للدولة الفلسطينية والقدس؟ ثم ما هو بالدقة مضمون هذا الحل الانتقالي الذي ترسمه التسوية الموقتة في هذا الشأن؟ إن الأمر برمته يحتاج الى وقفة متأنية رشيدة وعاقلة من جانب كل الاطراف العربية مجتمعة بهدف اتخاذ قرار جماعي، لكن واقعي وصحيح، اذا صحت وتحققت مقولة رابين. المؤشر الثالث: هو ما تعنيه مقولة جيمس بيكر الاخيرة اذا صحت ايضاً بشأن ما سماه "المصلحة المشتركة للاسرائيليين والعرب والاميركيين" التي تبلورت بعد مؤتمر مدريد ومفاوضاته الثنائية والمتعددة الاطراف وكذلك الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، للوصول الى "الملامح الرئيسية للتسوية قبل نهاية عام 1992". الكلام واضح لكل الاطراف وان كان بيكر استخدم في طرحه اسلوبه المعروف "بالغموض البناء". وإذا حاولنا ترجمته الى الواقع فان بيكر يقول ان ادارة بوش هي التي تحملت العبء الاكبر في فتح الطريق امام انعقاد مؤتمر السلام وآلياته التفاوضية بين كل الاطراف المعنية بلا استثناء. وضغط بوش هو الذي دفع بسورية "المتطرفة" الى طاولة المفاوضات وهو الذي ذلل ما كانت تثيره اسرائيل من عقبات حول التمثيل الفلسطيني. وضغط بوش - ايضاً - وخاصة من خلال تجميد مسألة ضمانات القروض التي تطلبها الحكومة الاسرائيلية برغم معارضة اغلبية اعضاء الكونغرس الاميركي هو الذي وضع حكومة شامير في مأزق اقتصادي - سياسي انتهى بخسارتها الانتخابات ووصول رابين وحزب العمل الى الحكم. وبوش - اليوم - يواجه معركة رئاسية شرسة مع منافسه بيل كلينتون مرشح الحزب الديموقراطي الذي يركز، ضمن ما يركز، هجومه على موقف بوش من ازمة الشرق الاوسط الذي يصفه بأنه غير متوازن ويصب في مصلحة العرب. ومن هنا فبوش في حاجة ماسة الى دعم اسرائيل والعرب معاً له لكسب معركته الانتخابية ضد كلينتون في تشرين الثاني نوفمبر 1992 وهذا يعني اولاً انجاح سياسته في الشرق الاوسط في الوصول الى الاتفاق على الاطار العام للتسوية في هذا التاريخ، ويعني ثانياً ضمان رابين لتوجيه اصوات الناخبين الاميركيين اليهود لصالحه ويعني ثالثاً تمويل العرب المادي والسياسي لمعركته الانتخابية. وفي هذا تلتقي المصلحة الاميركية، كما يعبر عنها بوش، بالمصلحة الاسرائيلية، كما يعبر عنها رابين، بالمصلحة العربية كما يعبر عنها الرئيسان مبارك والاسد والملك حسين وياسر عرفات والرئيس الياس الهراوي. ذلك ان البديل وهو كلينتون - في مفهوم بيكر - يعني تعثر مؤتمر مدريد ومفاوضاته ومحاصرة حركة رابين بمعارضة قوية من جانب الليكود بهدف اسقاطه، وعودة التوتر وأعمال العنف من جديد الى كل منطقة الشرق الاوسط عامة والساحة العربية بصفة خاصة. * كاتب ومفكر مصري.