} أجرى الكاتب في الحلقة الماضية، مقارنة بين حاكم القدس هيرودوس في عهد الامبراطورية الرومانية، وحاكم اسرائيل الآن ايهود باراك في خدمة الامبراطورية الأميركية، مؤكداً ان ما يجري من مفاوضات الآن هو تسوية سياسية وليس سلاماً، مع فارق كبير بين المسألتين. وهنا الحلقة الثانية والأخيرة. ان ما يسمى "مسار السلام" المصطلح الاميركي الاصل جاء في سياق مبادرة اميركية للتسوية طرحت في مؤتمر مدريد ولم تكن الاطراف المحلية، كما هو واضح مهيأة لها، ولو كان الامر كذلك لبادرت بذاتها الى عقد المؤتمر وكفت واشنطن عناء المكابدة. لكن المبادرة كانت اميركية واستجابت لها الاطراف المحلية بشكل او بآخر، فمنها من تجاوب بحماس ومنها من فعل ذلك مرغماً، ومنها من ذهب الى مدريد على مضض. وكان واضحاً في حينه انه عند الجمع بين مواقف هذه الاطراف في وحدة تفاوضية لا تتشكل ارضية صلبة للتقدم في عملية التسوية. وكانت الولاياتالمتحدة هي الاكثر تهيئة لهذه العملية، وذلك بعد حرب الخليج الثانية وما ترتب عليها من نتائج، والتي رأت فيها واشنطن ارضية مناسبة لطرح مبادرتها، التي تخدم مصالحها قبل كل شيء آخر، علماً بأنها كانت تعرقلها على مدى عقود طويلة. في الواقع، فهذا الموقف الاميركي المناهض لتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي لا يعود الى سنة 1948 فحسب، وانما يرجع الى الحرب العالمية الاولى حيث تبدَّى في موقف الرئيس ودرو ولسن في "مؤتمر السلام" العام 1919، ومن بعثة "كنغ كرين" التي كان هو نفسه صاحب المبادرة اليها. وظل الموقف الاميركي من هذا الموضوع ثابتاً، وبالتالي معرقلاً لجميع مشاريع التسوية التي طرحت خلال القرن، ما دامت واشنطن تعتقد ان مصالحها لم تؤمن بعد، وان اسرائيل كركيزة في أمن تلك المصالح ليست مهيأة ذاتياً للتسوية بعد. ولعل عداءها للتسوية تعاظم بعد حرب 1967، حيث لم يتمخض النصر العسكري الاسرائيلي الذي عملت له واشنطن بكل قواها عن نتائج سياسية موازية، الامر الذي يتجلى في مواقف الادارات الاميركية المتعاقبة منذئذ باستثناء ادارة كارتر 1976 - 1980. لكن حرب الخليج الثانية احدثت تغييرات هامة في مواقف الاطراف المعنية جميعاً ومنها مواقف منظمة التحرير الفلسطينية، ما حمل واشنطن على التعامل معها كطرف في مفاوضات التسوية، على الرغم من معارضة حكومة اسرائيل في حينه لذلك. ومعلوم ان حكومة رابين الاولى 1974 - 1976 كانت تلقت من ادارة فورد 1975، وبفعل هنري كيسنجر، وعداً بعدم التعامل مع م.ت.ف. كطرف في المعادلة السياسية الاقليمية، الامر الذي تشبثت به حكومة شامير اثناء الاعداد لعقد مؤتمر مدريد، وكذلك حكومة خلفه رابين، الى ان تم التوصل الى اتفاق اوسلو العام 1993. واذ واجهت اطراف مؤتمر مدريد جميعاً اشكاليات في المفاوضات، وترددت في الاقدام على انجاز اتفاق بالشروط المتاحة، فإن العقبة الاساسية في طريق التسوية كانت اسرائىل. والمسألة هنا ليست ذاتية تتعلق بهذه الحكومة او تلك فحسب وانما لها اسبابها الموضوعية ايضاً فاسرائيل ليست مهيأة للتسوية التي تتصورها الاطراف الاخرى بما فيها الولاياتالمتحدة، ذلك لأن وضعها الذاتي لم ينضج بعد لاتخاذ القرار اللازم في هذا السياق، وبالتالي فهو يشكل عقبة موضوعية في طريق التسوية. في فترة حكومة رابين - بيرس 1992 - 1996، انجز "اتفاق اوسلو" ومن ثم "المعاهدة الاسرائيلية - الاردنية" في1994، ولكن تلك الحكومة لم تجرؤ لفترة طويلة على الاقتراب من تسوية على المسار السوري - اللبناني المشترك. لم تكن تلك الحكومة تملك التفويض السياسي ولا تحظى بالدعم الكافي في الكنيست، للاستجابة للشروط السورية - اللبنانية في مفاوضات التسوية. وفي نهاية المطاف كان الحد الاقصى الذي وصل اليه رابين على هذا المسار تحت ضغط اميركي يقضي بالانسحاب الكامل من الجنوباللبناني، وبمعادلة "عمق الانسحاب كعمق السلام" في الجولان. وهذا يعني ضمناً انه في حال سلام شامل مع سورية، ستنسحب اسرائيل بالكامل من الجولان ضمن ترتيبات امنية لم يتم الاتفاق عليها، وبالتوازي مع تطبيع العلاقات السورية - الاسرائيلية، الامر الذي ظل يكتنفه الغموض، وقتل رابين في 1995 على خلفية تنفيذ اتفاق اوسلو، على يد متطرف صهيوني ينتمي الى جماعة دينية يمينية، انطلاقاً من التشبث بمفهوم "ارض اسرائىل الكاملة"، اي مقاومة الانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967، على قاعدة المبدأ القائل بوحدة الارض الواقعة غربي نهر الاردن، وانسجاماً مع القانون الاسرائيلي بضم الجولان العام 1981. وفي ولايته القصيرة خلفاً لرابين كان بيرس مستعجلاً للتوصل الى "اعلان مبادئ" للتسوية مع سورية، يكون بمثابة ركن أساسي في برنامجه الانتخابي. ولكن ذلك لم يحصل، فقدم موعد الانتخابات في العام 1996. وفي ذروتها، اقدم على عملية "عناقيد الغضب" التي اسهمت بدورها في خسارته امام مرشح الليكود نتانياهو. وانسجاماً مع ايديولوجية "اليمين" الصهيوني المتطرف، جمد نتانياهو خلال سنوات حكمه الثلاث بين 1996 و1999 مسارات التسوية، علماً بانه اعلن التزامه باتفاق اوسلو، لكنه ظل يعمل على عرقلة تنفيذه. ذلك لأن نتانياهو ظل متمسكاً ببرنامج الليكود القائم على الشق الفلسطيني من "اتفاقات كامب ديفيد"، اي منح الفلسطينيين "حكماً ذاتياً ادارياً" فحسب، في اطار "حل نهائي" للبعد الفلسطيني من الصراع العربي - الاسرائىلي. ولم يكن نتانياهو يفكر جدياً في الانسحاب من الجولان او حتى من جنوبلبنان ناهيك عن انه لم يكن يملك تفويضاً لذلك من حزبه، او من حكومته الائتلافية. وقد حاول الفصل بين المسارين السوري واللبناني، لكنه فشل كما عمد الى المناورة المضللة في الاتصالات غير المباشرة مع سورية. ومهما يكن فإنه سقط في النهاية من الحكم، اسوة بسلفه شامير، على خلفية اتفاق "واي بلانتيشن"، الذي وقع قسراً ولم يكن ينوي تنفيذه. لقد مرره في الكنيست بدعم المعارضة حزب العمل، وعندما سحبت هذه شبكة الأمان التي اعطته اياها، وتخلت عن دعمه، سقط نتانياهو بفعل الاحزاب المشاركة في حكومته، التي اضطرته الى تقديم موعد الانتخابات العامة، فخسرها في مواجهة باراك. وازاء الضغط الاميركي عليه، هرب نتانياهو الى الامام، مما ادى الى توتير علاقة حكومته مع ادارة كلنتون. وفي ايامه الاخيرة في السلطة عمد الى حركة مناورة فراح يغازل موسكو الامر الذي انعكس سلباً عليه وافسح في المجال امام باراك للتغلب عليه في الانتخابات. وتجدر هنا الاشارة الى التشابه في المسارين اللذين اديا الى سقوط كل من شاميرفي 1992 ونتانياهو في 1999، امام كل من رابين وباراك على الترتيب، حيث كان العامل الاقوى في ذلك هو الدور الاميركي الدافع لعملية التسوية، في مواجهة محاولات العرقلة التي مارسها اليمين الصهيوني ليكود، والامر ذو دلالة واضحة. فقد خرج شامير ونتانياهو بالاستناد الى بؤر اقتصادية - سياسية على الساحة الاميركية على النهج التقليدي في العلاقة الاميركية - الاسرائيلية، المرتكز الى التنسيق المسبق في الحركة السياسية على الاقل في القضايا ذات البعد الاستراتيجي. وكان هذا التنسيق قائماً منذ ما قبل قيام اسرائيل لكنه تكرس رسمياً في مرحلة الإعداد لحرب 1967، ذلك خلال زيارة افريل هاريمان العام 1964 مبعوث الرئيس جونسون الخاص، يرافقه رئيس "وكالة الاستخبارات المركزية". وتقرر في حينه الا تعود القيادة الاسرائيلية الى "الخطيئة" التي ارتكبتها في حرب السويس العام 1956 بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا من وراء ظهر واشنطن. وفي تلك الزيارة تم الاتفاق على تنسيق الخطوات نحو حرب 1967، والتزمت اسرائيل بذلك، فدعمتها واشنطن، وهيأت لها اسباب النصر في الحرب، ووفرت لها الغطاء السياسي على الساحة الدولية بعدها، كما وقفت وراءها في احباط مشاريع التسوية التي اعقبت تلك الحرب. وفي الثمانينات، اثناء ولايتي ريغان 1980 - 1988، تطورت هذه العلاقة الى "التعاون الاستراتيجي"، الامر الذي راح يتعرض للخلل منذ مؤتمر مدريد، بفعل سلوك كل من شامير ونتانياهو، فكان لابد من ازاحتهما عن الحكم. وفي الواقع، فإن التنسيق المسبق بين اسرائيل وواشنطن كان أشد إحكاماً في الاعداد للحرب وادارتها منه في السير على طريق التسوية. فقد وقفت الولاياتالمتحدة وراء اسرائيل بثبات في جميع حروبها، ولكن هذه الاخيرة لم تبادل الاولى الموقف بالمثل في مبادراتها التسووية المتعددة. وعلى العموم فقد تمحور الخلاف بينهما حول مردود الحروب التي شنتها اسرائيل بدعم اميركي قوي على المستوطن. ذلك لأن هذا المستوطن لا يزال في قيد الانشاء، ولم يستكمل بناءه الذاتي بعد، كما انه لم يحدد الى الآن حدوده الجغرافية والبشرية وحتى السياسية. وظلت اسرائيل ترى ان المشاريع التسووية وحتى التي تبنتها واشنطن بصورة او بأخرى لا تلبي اطماعها التوسعية في الارض، ولا تضمن لها الموقع المتميز في العلاقة مع الولاياتالمتحدة، بما يترتب عليها من دعم سياسي ومالي وتسليحي، او تؤمن لها قوة الردع الجيوستراتيجية في المنطقة. واذ تحلحل هذا الموقف جزئياً في العقد الاخير، فإنه لم يتبدل جذرياً بواقع سلوك اسرائىل في مفاوضات التسوية الجارية، وردات فعل واشنطن عليه. "كعب" باراك تضافرت عدة عوامل لجعل وصول باراك الى السلطة في اسرائىل بسرعة مذهلة ممكناً وهو انجاز تفوق به على سلفه وقدوته رابين. في نظرة فاحصة لسلوكه في الحكم وبالتالي لتوجهه في قيادة دفة الدولة، يبدو باراك وكأنه يرى في توطيد العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن مفتاح الحل للمشاكل التي ورثها من سلفه نتانياهو وهي كثيرة فعلاً كما تفيد وسائط الاعلام الاسرائيلية ذاتها. فهو قد ولي السلطة في دولة استيطانية مأزومة، وهي تمر بمرحلة حاسمة في سيرورة تطورها نحو استكمال بنائها الذاتي، تحت ضغط مسار تسووي ليست مهيأة لدفع استحقاقاته. وهو بالتأكيد يعي تماماً عواقب الخروج عليه، علماً بأن الولاياتالمتحدة هي التي تقوده. فاسرائيل تعاني ازمة هوية على قاعدة التوليفة الصهيونية في بناء المستوطن اليهودي والتي ثبت افلاسها في صياغة القاسم المشترك الايجابي الذي يستطيع الجمع بين الفئات المتنافرة التي وفدت على ذلك المستوطن في وحدة مجتمعية، تتمتع بالحد الادنى من الانسجام الداخلي. فقد تمخضت "بوتقة الصهر" التي طالما تكلم عنها "الآباء المؤسسون" للعمل الصهيوني، عن "طبخة حصى"، لم تلبث هذه البوتقة ان تشققت حتى خرجت منها العناصر المختلفة كما دخلتها فئات متنافرة. على سبيل المثال لا الحصر، يؤكد شلومو بن عامي الوزير الاكاديمي في حكومة باراك: "في اسرائيل شعوب مختلفة ومتعددة وليس شعب واحد كما يحلو للمتفائلين ان يعتقدوا". وهو لا يتورع عن اشعال الضوء الاحمر من خطر "الحرب الثقافية" التي يراها تستعر داخل اسرائىل. وفي المقابل يفاخر رئىس قسم دراسات اوروبا في الجامعة العبرية القدس شلومو افنيري بأنه بعد مئة عام من العمل الصهيوني منها خمسون في ظل "استقلال سياسي"، بدأت تتشكل "امة عربية اسرائيلية في المستوطن، تتمايز باستمرار عن "الدياسبورا" اليهودية في الخارج، وخاصة في الولاياتالمتحدة. لقد اخفقت الصهيونية في خلق "اليهودي الجديد" في "ارض اسرائىل"، و"الصبار" "سليل الالهة" لم يولد فعلاً وانما ظل طيفاً خارج الواقع. وهي عاجزة اليوم عن صياغة "الروحية الجماعية" ايثوس التي تلملم شظايا هذا التجمع الاستيطاني في وحدة سياسية، تجعل من اسرائىل دولة عادية كما يقول بن عامي في مقالة له بعنوان "الاواني المستطرقة". ويؤكد استاذ كرسي الديبلوماسية على اسم ناحوم غولدمان في جامعة تل ابيب دافيد فتال، بأن جذر الخلل في الصهيونية يكمن في منطلقاتها السلبوية كونها حددت مواقفها مما ستعمل ضده، وليس مما تسعى اليه في حياة اليهود. ويقول استاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية القدس باروخ كيمرلنغ، ان الصهيونية حاولت عبثاً الجمع بين "يهودية" اسرائىل و"ديموقراطيتها"، فجاءت دولة "لا هي ديموقراطية ولا هي يهودية". وفي المحصلة فإن السمة البارزة للتجمع الاستيطاني الاسرائيلي هي الانقسام وعلى صعد متعددة عرقية ودينية واثنية وطبقية وثقافية، وجاءت عملية التسوية لتفاقم هذا الانقسام، وتجعل القرار السياسي بشأنها ممتنعاً على المستوطن. اللافت للنظر ان ظاهرة الانقسام في جمهور المستوطنين الاسرائيلي تصاعدت بعد حرب 1967، وما أعقبها من احتلال واستيطان وخلاف حول مستقبل المناطق المحتلة في غياب امكانية التسوية. وكذلك تواكبت هذه الظاهرة مع تعزيز "التعاون الاستراتيجي" مع الولاياتالمتحدة وتوسيع نطاقه ليشمل النواحي الاقتصادية في اسرائىل، الامر الذي جرى التعبير عنه في ما سمي "الاصلاح الاقتصادي" في العام 1985، وما ترتب عليه من استكمال مسار رسملة الاقتصاد الاسرائيلي، وبالتالي الخصخصة والامركة عموماً وما يستتبعه ذلك من تمايز طبقي وتمركز رأس المال ونشوء بؤر البطالة والفقر، وما يعكسه من افتراق ثقافي. وجاءت المبادرة الاميركية التسووية لتفاقم الانقسام في ذلك الجمهور ليس فقط حول استحقاقاتها وانما تعدى ذلك الى الموقف من الولاياتالمتحدة ذاتها، صاحبة مبادرة التسوية وراعيتها. * كاتب فلسطيني - دمشق.