الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    لصوص الثواني !    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الأزرق في حضن نيمار    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" في غزة : جحيم للفلسطينيين ، جحيم للإسرائيليين - نسف الاسرائيليون منزله بالمدفعية والصواريخ أمامه ثم قالوا له : "كانت غلطة" ، "اسرائيل أوروبية يقودها روس تحتل أرضاًَ عربية وتعامل السكان بعنصرية … ثم تتذمر"
نشر في الحياة يوم 15 - 03 - 1993

"غزة هي جحيم على الارض. جحيم للمواطنين الفلسطينيين، وجحيم للمحتلين الاسرائيليين". هذا هو الانطباع العام الذي تكون لدى راسل وارن هاوي مراسل "الوسط" في واشنطن، الذي زار قطاع غزة المحتل واطلع على حقيقة الاو ضاع فيه وتحاور مع عدد من شخصياته ومواطنيه، وكانت حصيلة هذه الرحلة التحقيق الآتي:
للناظر من البحر، يبدو قطاع غزة مع اقتراب تجار السمك الآتين من يافا من شاطئ مدينة غزة وكأنه منتجع سياحي. أما اذا نظرت اليه من داخل المدينة فإنك ترى صورة من الجحيم. فالقطاع الذي لا يزيد على شريط ساحلي من الارض الممتدة على طول 36 كيلومتراً يقطنه بين 800 الف ومليون نسمة مما يجعله اكثر بقاع الأرض ازدحاماً بالسكان. وأحد المناطق الاكثر فقراً في العالم.
قطاع غزة، الذي تبلغ مساحته نحو 350 كيلومتراً مربعاً، هو، بالنسبة الى الاسرائيليين، "مقر" الاصوليين الاسلاميين في الاراضي العربية المحتلة، ومركز انطلاق حركتي حماس والجهاد الاسلامي.
في مطلع هذا الشهر صرح وزير اسرائيلي، هو حاييم رامون وزير الصحة ويعتبر احد اقطاب حزب العمل: "لن نهرب من السكين". وكان يشير بذلك الى حادث مثير للاهتمام وقع في الاول من آذار مارس الجاري حيث اندفع شاب من غزة في احد شوارع تل ابيب المزدحمة وراح يطعن بسكينه الاسرائيليين الذين يصادفهم في طريقه وكأنه اراد، بذلك، الانتقام من سنوات طويلة من الاحتلال والقهر والقمع. وقتل هذا الشاب، ويدعى زياد سالم سلمى ويبلغ من العمر 19 عاماً، اثنين من الاسرائيليين وأصاب ثمانية آخرين بجروح. واثر ذلك اتخذ اسحق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي قراراً بإغلاق قطاع غزة وعزله عن العالم "حتى اشعار آخر". وأعلنت منظمة الجهاد الاسلامي مسؤوليتها عن عملية تل ابيب هذه وقالت ان "البطل زياد سلمى" نفذها رداً على ابعاد الفلسطينيين الى جنوب لبنان.
ويطال تدبير رابين بين 30 و40 الف عامل فلسطيني ينتقلون الى اسرائيل يومياً للعمل فيها. لكن بعد اغلاق القطاع بساعات قتل بعض شباب غزة مواطناً اسرائيلياً في القطاع بعدما رموه بالحجارة ثم اطلقوا عليه النار. والمعروف ان السلطات الاسرائيلية اقامت، منذ احتلالها القطاع خلال حرب 1967، مستوطنات في غزة يعيش فيها نحو خمسة آلاف اسرائيلي. وفي مقابل ذلك فهناك 8 مخيمات للاجئين الفلسطينيين في غزة: أليس غريباً ان تكون لاجئاً في أرضك؟
الجحيم
غزة، اذن، هي "جحيم على الارض". ويبدو لك، وانت تتجول في شوارع المدينة وتنتقل في بعض المخيمات وتتحدث الى الناس، كأن غزة هي، في وقت واحد، "جحيم" لسكانها ومواطنيها - بسبب الفقر المدقع والاحتلال وعمليات الاذلال والقمع الاسرائيلية - وجحيم للذين يحتلونها.
حركة المرور في القطاع تكتظ الى درجة هائلة بالسيارات والشاحنات والعربات التي تجرها الحمير والبغال مما يجعل الوصول من مكان الى آخر مشياً على الاقدام أسرع كثيراً من استخدام السيارة. والجو العام في غزة يسوده القنوط والكآبة والفقر والغضب والعنف. حتى المجندون الاسرائيليون يعتبرون الخدمة في قطاع غزة نوعاً من العقاب مع أن ضباط الحكومة العسكرية الاسرائيلية هناك يشعرون بارتياح للعمل في القطاع.
يقول ضابط اسرائيلي برتبة ملازم: "هناك ثمن لكل شيء في غزة. اذ لا يمكنك ان تحصل على أي شيء، مثل رخصة قيادة، من دون ان تقدم رشوة لاحد الضباط الاسرائيليين. ولكن اذا ما دفعت الرشوة فأنك ستحصل عليها، حتى ولو لم تكن مؤهلاً للحصول عليها".
ووسط هذا الجو من الرشوة والفساد اضطرت الشركة الاسرائيلية التي كانت تحتكر التأمين على السيارات في القطاع والاراضي العربية المحتلة الاخرى الى التخلي عن امتيازها لشركة عربية جديدة، لان تزوير الحوادث وصل الى درجة لم تعد تطاق، إذ أن بعض السيارات مثلاً "دمرت كلياً" ثلاث مرات على الاقل.
لكن الحديث في المقاهي والمطاعم يدور حول العنف. وخلافاً لما تنشره الصحافة العالمية فان جميع القتلى والضحايا تقريباً من الفلسطينيين، 76 في غزة وحدها خلال الأشهر الستة الماضية فقط بالمقارنة مع خمسة اسرائيليين. والواقع أن الوحشية الاسرائيلية ازدادت منذ ان تولى الجنرال اسحق رابين السلطة من حكومة سلفه اسحق شامير اليمينية. ففي آخر ستة اشهر من حكم شامير بلغ عدد القتلى في غزة 63 قتيلاً "فقط".
والوحشية الاسرائيلية في الواقع أشد في جميع الأراضي المحتلة منذ أن تولى رابين الحكم وأمر جنوده "بتكسير المزيد من العظام". ففي عام 1992 بلغ عدد القتلى في الاراضي المحتلة 158 فلسطينياً بالمقارنة مع 98 فلسطينياً عام 1991. وأكثر من ربع الضحايا تحت سن الخامسة عشرة. يضاف الى ذلك أن 16 طفلاً قتلوا خلال أول شهرين فقط من العام الحالي.
ويعزو البعض ذلك الى طبيعة رابين العسكرية. إذ يقول ديبلوماسي أميركي في تل أبيب: "ان رابين لا يزال جنرالاً قبل كل شيء".
وفي غزة لا يشعر أحد بالاستغراب من قرار الأمم المتحدة إرسال فريق لاستطلاع وضع حقوق الانسان في القطاع. وعندما يصل هذا الفريق سيستقر في مقر رئاسة الأمم المتحدة على الشاطئ.
الهروب من الخطر
احتلت اسرائيل القطاع في حرب عام 1967. وبموجب قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242، فإنه ينبغي إعادة القطاع الى مصر التي كانت تديره قبل الحرب. لكن مصر أعلنت أنها لا تريده. ومنذ اتفاق كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية عام 1979 فقد القطاع أهميته العسكرية بالنسبة الى اسرائيل. والواقع أن كبار ضباط هيئة الأركان الاسرائيلية ومعظم وزراء حكومة رابين، يفضلون الانسحاب من القطاع. لكن المشكلة التي تواجههم هي كيف يمكنهم أن ينسحبوا من القطاع من دون الانسحاب من الضفة الغربية والقدس.
وبعد حادث طعن الاسرائيليين بالسكين في شوارع تل أبيب، طالب وزيران اسرائيليان بارزان بالانسحاب من غزة، حتى ولو لم يتم التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين حول الحكم الذاتي في الاراضي المحتلة. الوزير الاول الذي تقدم بهذا الطلب هو حاييم رامون وزير الصحة وهو احد المرشحين لمنصب زعيم حزب العمل في حال شغور هذا المنصب بوفاة رابين أو باستقالته. ويقول رامون شارحاً وجهة نظره: "وجودنا في قطاع غزة كارثة. ليس لدينا ما نفعله هناك. نحن لا نريد ضم غزة، وهذا أمر أكيد، فلماذا، اذن، نبقى في القطاع ونواجه ما نواجهه؟ ومن أجل ماذا؟". الوزير الثاني الذي طالب بالانسحاب هو ارييه ديري وزير الداخلية وزعيم حزب "شاس" الديني. وهو دعا الحكومة الى مناقشة مسألة الانسحاب الاسرائيلي من غزة من طرف واحد "بصورة جدية لان الوضع لم يعد يطاق هناك".
لكن رابين له وجهة نظر اخرى. فهو يرفض الانسحاب من غزة قبل التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين حول الحكم الذاتي ويقول: "ان انسحابنا من غزة يعطي الانطباع بأن اسرائيل تهرب من الخطر. وهذا سيشجع الفلسطينيين على تصعيد اعمال العنف ضدنا" في الاراضي العربية المحتلة.
والفلسطينيون انفسهم يتخوفون من أي قرار اسرائيلي مفاجئ بالانسحاب من غزة. اذ يقول الدكتور حيدر عبدالشافي وهو من غزة رئيس الوفد الفلسطيني الى مفاوضات السلام: "اذا انسحبت اسرائيل من قطاع غزة من دون ابلاغنا بذلك مسبقاً فإنها ترتكب جريمة. يجب اطلاع الفلسطينيين مسبقاً على مثل هذه الخطوة حتى نطلب من الامم المتحدة ومصر الاشراف على الامن واحترام القانون والنظام في القطاع، خلال فترة محدودة، تجري بعدها انتخابات ويتسلم الفلسطينيون مسؤولياتهم".
نسفوا منزله أمامه
كل يوم يمر، يزداد اليأس في قطاع غزة، وتشتد المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. ففي الثالث والعشرين من كانون الثاني يناير الماضي، اعتقلت القوات الاسرائيلية عاملاً من غزة اسمه محمد العكّي بينما كان في طريقه الى العمل واتهمته بأنه "إرهابي"، وهو الاصطلاح الذي تطلقه اسرائيل على كل من له أي نشاط سياسي أو ديني. وأجبرته على العودة تحت حراسة الجنود الاسرائيليين الى منزله الذي يطل على بركة من المياه الآسنة الملوثة التي تسدّ الشارع والتي لم يسبق للسلطات الاسرائيلية ان اكترثت إطلاقاً بتجفيفها. وهناك أمرته بالوقوف ليشاهد إخراج عائلته - زوجته واطفاله الستة - من المنزل قبل ان تنسفه بالمدفعية والصواريخ الحارقة. واحترق كل شيء في المنزل. وبعد ان استجوبته السلطات الاسرائيلية لمدة أسبوعين أطلقت سراحه وأبلغته أن اعتقاله كان "غلطة" لأنه كان يشبه أحد "الارهابيين" الذين تطاردهم القوات الاسرائيلية.
وفي الحادي عشر من شباط فبراير شن اكثر من 200 جندي اسرائيلي هجوماً رهيباً ومرعباً على مشروع للاسكان الرخيص في خان يونس، مستخدمين القذائف من عيار 40 ملم والصواريخ المضادة للدبابات. وفي عملية تعيد الى الذاكرة عملية "كريستال ناخت"، عندما دمر النازيون بيوت اليهود الألمان وتركوا محتوياتها مبعثرة في الشوارع، دمرت قوات الاحتلال الاسرائيلي أو الحقت أضراراً جسيمة بتسعة عشر منزلاً يسكنها 186 شخصاً يؤلفون 31 عائلة.
هذه الفظائع، إضافة الى ابعاد أكثر من 400 فلسطيني الى لبنان من دون أي سند قانوني، أدت الى تصلب الرأي في الاراضي المحتلة لا سيما في قطاع غزة، ضد احتمال استئناف مفاوضات السلام في واشنطن في شهر نيسان ابريل المقبل.
ومن الفلسطينيين الذين يشكلون نموذجاً عن الرأي العام في غزة "أبو جعاب" الذي أمضى سنوات طويلة في السجون العسكرية الاسرائيلية، إلى درجة أنه أصبح يتكلم العبرية بطلاقة اهلته للعمل الآن مترجماً للمتهمين الفلسطينيين في المحاكم العسكرية ومراسلاً لصحيفة "هآرتس" في قطاع غزة. فهو يعارض أي استئناف لمفاوضات السلام قبل أن يعاد المبعدون الى ديارهم. وعندما نسأل أبو جعاب عما يتوقع حدوثه الآن، يرد: "أعتقد أن المفاوضات لن تستأنف حتى يعود جميع المبعدين. مع انني أظن أن المفاوضات مع سورية ستستأنف. اذ ان اسرائيل تريد استخدام رغبة سورية في استئناف المفاوضات للضغط على الفلسطينيين. وهناك خطر ماثل في قبول الولايات المتحدة استئناف المفاوضات السورية واللبنانية مع اسرائيل فقط، مثلما حدث في عهد كارتر عندما توصلت اسرائيل الى اتفاق مع مصر وحدها. لقد كانت لدينا نحن الفلسطينيين آمال كبيرة عندما فاز رابين. أما الآن فنحن لا نرى فرقاً بين حكومة العمل وحكومة الليكود التي سبقتها. وكما قالت المجموعة الاوروبية قبل أيام في معرض انتقادها اسرائيل: "ان الاسرائيليين يصعدون العنف في الاراضي المحتلة. وفي الوحشية التي ارتكبوها في خان يونس خير مثال على ذلك".
أما راجي الصوراني، وهو عضو محتمل في وفد المفاوضات الفلسطيني عن غزة فهو محام، وهو أيضاً المدير العام لمركز غزة للحقوق والقانون، وهي هيئة تابعة للجنة الدولية للقانونيين في جنيف. لكنه ينتهج خطاً أكثر اعتدالاً يماثل ذلك الذي تنتهجه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. سألناه: هل تعتقد أن المفاوضات ستستأنف خلال أسابيع؟
- استئناف المحادثات يعتمد على قضيتين: وضع حقوق الانسان وشروط المفاوضات. فهذا واحد من أعقد الصراعات منذ حوالى نصف قرن. ولهذا فإن المسألة تحتاج الى وقت. ولكن بعد حوالى سبعة عشر شهراً لا نزال أبعد ما نكون عن التوصل الى اتفاق حول الحكم الذاتي. وإذا كان الاسرائيليون يريدون إظهار حسن النيّة فإن عليهم أن يفعلوا شيئاً على الأرض من دون انتظار تحقيق الاتفاق نفسه. والواقع ان انتهاكات حقوق الانسان تزداد سوءاً بصورة مضطردة. فطرد الأربعمئة فلسطيني كان عملية غريبة من حيث العدد ومن حيث التوقيت المجنون. وفي هذا ما يعطي الجو الخاطئ غير الملائم للمفاوضات. ولكن من المؤكد أن الاسرائيليين كانوا يعرفون ماذا ستكون النتيجة. ليس هناك اختلاف في رغبة اسرائيل في ضمان حدود آمنة مع لبنان. فقد قبلت منظمة التحرير ذلك عام 1981 بموجب الاتفاق الذي توصل إليه فيليب حبيب آنذاك. كما ان المجتمع الدولي يوافق على ذلك مثلما يوافق لبنان ايضاً.
وسورية ايضاً ليست مشكلة كبرى. فالرئيس الأسد لا نية لديه لخوض حرب، كما أن الوضع السوري - الاسرائيلي هادئ ويشبه الوضع الحالي بين اسرائيل ومصر.
إن اسرائيل تعتقد أنها تستطيع تغيير الوضع عن طريق فرض الأمر الواقع وهو أسلوب البانتوستان أي إعطاء ستار قانوني للاحتلال. فهي لا تهتم بالسلام لذاته وإنما تريد ان تستغفل اميركا لكي تستمر في الحصول على المساعدات منها. أما نحن الفلسطينيين فنؤيد المفاوضات لأننا ندرك أنه لا بد من حل وسط. لكن اسرائيل لم تجبر حتى الآن على مواجهة الواقع. والسرعة لا تقلقنا. فربما تستغرق المرحلة الثانية والاستقلال ثلاث سنوات أو اربعاً أو خمساً أو عشر سنوات، المهم ان نتفق على ذلك.
أنت تتكلم باسم المعتدلين. فماذا عن الآخرين؟
- الذين يعارضون المفاوضات من الفلسطينيين لا يعارضونها من حيث المبدأ، ولكنهم لا يصدقون أن اسرائيل جادة فعلاً. فهم يعتقدون أن اسرائيل لا تزال مثلما كانت جنوب افريقيا في مرحلة البانتوستانات. لهذا يجب وضع جدول زمني وعدم الاكتفاء بمجرد مفاوضات تبحث الحاضر فقط.
مفهوم رابين للسلام
وفي القدس الشرقية يرأس علي أبو هلال، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، معهد الدفاع عن الحرية الذي يراقب انتهاكات حقوق الانسان في الاراضي المحتلة بموجب اتفاقية هلسنكي وإعلان الامم المتحدة لحقوق الانسان 1948 وميثاق جنيف 1949. وأبو هلال متشائم بالنسبة الى المستقبل.
هل تعتقد أن الأمور أسوأ الآن مما كانت عليه قبل عقد من الزمن؟
- وضع حقوق الانسان أسوأ كثيراً في عهد رابين. فهو لا يزال رجلاً عسكرياً يفكر كالجنرالات. فقد كان ينتهج دائماً سياسة القبضة الفولاذية ضد الفلسطينيين وهو صاحب الأمر المعروف بتكسير العظام. واذا ما نظرنا الى عمليات الابعاد سنجد أن حكومات حزب العمل أبعدت من الفلسطينيين أكثر مما أبعدت حكومات الليكود.
هل يلجأ رابين الى الابعاد وتصعيد القمع في الأراضي المحتلة لمحاولة اجبار الفلسطينيين على قطع مفاوضات السلام؟
- رابين له تفسيره الخاص للسلام. فهو يريد تحقيق ذلك النوع من السلام المفروض، لمجرد تخفيف الضغط الذي تواجهه اسرائيل في مجال حقوق الانسان، اذ تظاهر بأنه يريد تحسين الحياة تحت الاحتلال، فلجأ الى اطلاق مئات المعتقلين الفلسطينيين، ولكنه سرعان ما أعادهم الى السجون خلال أشهر قليلة. وهو الذي ميز أيضاً بين "المستوطنات السياسية" و"المستوطنات الأمنية" مما أعطى الانطباع بأنه تقدمي. كذلك أقام علاقات ديبلوماسية مع دول جدىدة، وحصل على ضمانات القروض من واشنطن ثم فجأة بعد كل ذلك بدأ يسير الى الوراء.
واذا لم تطبق اسرائيل قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 799 الداعي الى اعادة جميع المبعدين فوراً بحذافيره فإن هذا سيضعف القرار الرقم 242. وعلى الولايات المتحدة ان تدرك ذلك إلا إذا كانت تريد تطبيق سياسة المعايير المزدوجة. ولهذا فإن مبدأ القرار 799 أهم كثيراً من مسألة عدد المبعدين الذين سيعادون.
هل تعتقد أن اسرائيل تحاول الآن استفزاز الفلسطينيين لكي ينسحبوا من المفاوضات نظراً الى أن إمكان التوصل الى اتفاق مع سورية بات محتملاً؟
- إن الاستراتيجية الاسرائيلية تقوم دائماً على محاولة تفريق العرب بالطريقة التي نجح فيها مناحيم بيغن في التوصل الى سلام منفصل مع السادات. ولهذا السبب أصرت اسرائيل على إعطاء الأولوية للمحادثات الثنائية. ونحن ندرك أن بعض تلك المحادثات الثنائية ستحقق تقدماً أسرع من غيرها. كما أن الوزير كريستوفر ذكر أخيراً في عمان أن الاتفاق بين الاردن وإسرائيل يكاد يكون جاهزاً.
هل يمثل الوفد الفلسطيني ومن فيه، مثل حنان عشراوي وفيصل الحسيني، غالبية الرأي العام الفلسطيني تحت الاحتلال أو في المنفى؟
- ليس هناك وسيلة للحكم على ذلك. ولهذا اقترحنا نحن في المعهد إجراء استفتاء لمعرفة ذلك.
اقترح شيمون بيريز اجراء انتخابات بلدية أولاً، قبل إقامة مجالس الحكم الذاتي. فهل في ذلك تلبية لطلبكم إجراء استفتاء؟
- نحن لم نقرر موقفنا من هذه النقطة لأننا نعتقد أن الانتخابات يجب أن تجري حيثما كان هناك فلسطينيون.
ويوافق داود خطاب، وهو فلسطيني أميركي يدير معهداً للافلام في القدس ويكتب في صحف أجنبية عدة، على أن الوضع الفلسطيني ازداد سوءاً في عهد رابين عما كان عليه في عهد كل من شامير وبيغن، وأن التردي تعاظم منذ أن خففت إدارة الرئيس كلينتون الضغط الذي كانت تمارسه إدارة بوش على اسرائيل.
كيف تقيّم كلينتون الآن؟
- لقد تعثرت إدارة كلينتون مرتين بالنسبة الى مسألة المبعدين مما يعني أننا عدنا الى ما قبل عهد بيكر وبوش. وهكذا فإن عاماً كاملاً من عمل بيكر ذهب أدراج الرياح. فالكلمة الاساسية في المسألة برمتها هي "الثقة" ولكنني مع ذلك أعتقد أن كريستوفر سيتعلم بسرعة، على رغم أن استعادة ثقة الفلسطينيين ستستغرق وقتاً. ومن الطبيعي أن قضية المبعدين كان لها أثر كبير. وأظن أن بيكر كان سيتعامل مع القضية بطريقة مختلفة. صحيح أنه ربما كان سيحاول تجاوز قرار مجلس الأمن الدولي، ولكنه ما كان ليسمح لاسرائيل بالتوصل الى "صفقة" مع الادارة الأميركية بشأن المبعدين من دون ضمان موافقة الفلسطينيين. وهكذا فمن الواضح أن الاسرائيليين "استغلوا" كريستوفر.
ومن جهة اخرى، كان ينبغي على الفلسطينيين أن يتركوا الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي ليتصرف قبل الدعوة الى فرض عقوبات، حتى مع كون العقوبات هي الطريق السليمة التي يجب انتهاجها عندما تتجاهل دولة عضو كلياً قرارات الأمم المتحدة. لكن الصفقة التي توصل اليها الاسرائيليون مع كريستوفر بشأن المبعدين أجبرت الفلسطينيين على اتخاذ موقف متشدد. إذ ان حنان عشراوي كانت مفوضة للموافقة على تطبيق اسرائيل التدريجي لقرار مجلس الأمن، ولكن كريستوفر استبق الأحداث وتسرع. كل هذا يثير التساؤل عما إذا كانت اسرائيل جادة في عملية السلام. اذ أن رابين يسعى علانية الى تصوير العنف الفلسطيني على اساس انه هو القضية الأساسية، وليس مجرد "ظاهرة عابرة". فرابين يمارس سياسة العقاب الجماعي ضد شعب أعزل يرزح تحت الاحتلال وهو بذلك يجبر قطاعات كبيرة كانت تؤيد عملية السلام، على معارضتها الآن. لقد حوّل الناس ضد عملية السلام وجعل من الصعب على الوفد الفلسطيني الاستمرار في المحادثات.
"لم نحقق شيئاً اطلاقاً"
عندما سئلت رئيسة الوزراء الاسرائيلية غولدا مائير بعيد حرب 1967، ما الذي تنوي اسرائيل فعله لكي تجعل نفسها دولة مقبولة في الشرق الاوسط، ردت بقولها: "إن هذا هو آخر شيء نود فعله. فنحن دولة أوروبية ويجب أن نظل كذلك".
وكما يقول ديبلوماسي اوروبي في تل أبيب: "هذه هي المشكلة فمنذ ست وعشرين سنة نجد أن دولة أوروبية يقودها المستوطنون الروس تحتل بلداً عربياً وتعامل السكان بعنصرية سافرة. ومع ذلك فهي تتذمر وتشكو حين يطلق هؤلاء السكان النار على جنودها ومستوطنيها".
أما البروفسور المتقاعد اسرائيل شاحاك من الجامعة العبرية في القدس، رئيس اللجنة الاسرائيلية لحقوق الانسان فيقول: "بعد الحرب العالمية الثانية استغرق الحلفاء ثلاث أو أربع سنوات فقط لتحويل المانيا واليابان الى دولتين ديموقراطيتين. أما نحن فقد مضى على احتلالنا هذه الاراضي العربية 26 عاماً ولكننا لم نحقق أي شيء على الاطلاق. وفي غزة على سبيل المثال لا أظن أننا حتى رممّنا الطرق منذ أن تركها المصريون".
والآن وبعد أن أكمل وارن كريستوفر وزير الخارجية الأميركي الجديد أول جولة له في الشرق الاوسط، بات العالم العربي ينتظر ليرى ما اذا كانت الولايات المتحدة ستفعل أي شيء لجعل اسرائيل تدرك حقائق عصر ما بعد الحرب الباردة.
وأميركا ليست الوحيدة التي لديها نفوذ. فالمجموعة الأوروبية مثلاً هي أكبر شريك تجاري لاسرائيل، اذ تستورد ستين في المئة من الصادرات الاسرائيلية، مما يعني أن حرمان اسرائيل من المكانة المفضلة الخاصة التي تتمتع بها لدى الجماعة سيكون له آثار مدمرة على الاقتصاد الاسرائيلي، ولكنه سيثير مشكلات ايضاً للصناعات الأوروبية.
إلا أن جولة كريستوفر في المنطقة كانت العامل المهم في هذه الفترة. ولا شك في أن هيبته تعتمد على اقناع اسرائيل بالاستجابة لما تطلبه منظمة التحرير: نبذ سياسة الابعاد كسلاح ضد المقاومة الفلسطينية وتحديد موعد لعودة جميع المبعدين. لكن اسرائيل لم توافق حتى الآن الا على استخدام سياسة الابعاد "في الحالات الاستثنائية" وهو أمر يرفضه الفلسطينيون، كما ترفضه واشنطن - ولو رسمياً على الأقل. كما أن الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي الناطق بلسان المبعدين قال إنهم لن يقبلوا أي "صفقة" تضفي الشرعية على الابعاد.
وفي هذه الأثناء يسود الأراضي المحتلة مزاج عام بعدم توقع شيء من "عملية السلام" بالنسبة الى القضية الجوهرية، فلسطين، لا سيما مع تشجيع ادارة كلينتون رئيس الحكومة الاسرائيلية رابين على انتهاج خط اكثر تشدداً مما كان يستطيع هو أو سلفه شامير في عهد بوش - بيكر. كما أن الآمال العريضة التي تعاظمت في عهد بوش وبيكر أخذت تتبدد الآن مع كل إعلان جديد عن تعيين شخصيات من اللوبي الاسرائيلي في المراكز المرموقة لصنع السياسة في إدارة كلينتون. ولهذا نجد اليوم الفلسطينيين و"الليبراليين" الاسرائيليين على السواء، والاوساط الديبلوماسية في تل أبيب، يشيرون الى نمط من البيانات الحكومية العدوانية، والممارسات الوحشية إضافة الى التقاعس الأميركي تجاه قضية المبعدين، على أنها جميعاً دلائل على أن رابين يريد "شراء عملية السلام" على غرار ما اقترحه مناحيم بيغن كحل للقضية الفلسطينية وهو البانتوستانات.
ويلاحظ يان إيمانويل وهو صحافي اسرائيلي يكتب في الشؤون الفلسطينية لصحيفة "جيروزاليم بوست" أن التوقع العام هو اعادة المبعدين المئة وواحد الآن، على أن تعود مجموعة اخرى بحلول أوائل نيسان ابريل المقبل والباقي بحلول تموز يوليو. لكن الكثيرين من الفلسطينيين يقولون إنهم سيعادون الى السجن. وإن بعضهم ربما يفضل في هذه الحالة الانضمام الى معسكرات المقاومة في لبنان.
إن المسؤولين الاسرائيليين والأميركيين يأملون في التوصل الى اتفاق سلام بين اسرائيل وسورية هذا العام، اذا كان الرئيس الأسد على استعداد للتوقيع على اتفاق من دون انتظار التوصل الى اتفاق على المسألة الفلسطينية. لكن الديبلوماسيين الأميركيين يشيرون الى استخدام اسرائيل الصواريخ الأميركية ضد منازل العائلات الفلسطينية في غزة كدليل على ما يصفه البروفيسور شاحاك بالنازية السافرة. إذن وفي ضوء ذلك هل يريد رابين حقاً التوصل الى اتفاق سلام؟
يقول ديبلوماسي أوروبي في تل أبيب أن رابين يحاول تجديد المفهوم السابق بأن اسرائيل تتعرض للخطر والتهديد من الخارج. لكن الديبلوماسي يقول ان الأخطار التي كانت تتعرض لها اسرائيل اختفت في واقع الأمر، لا سيما انها القوة النووية الوحيدة في المنطقة الآن.
كذلك يشير ديفيد هوفمان مراسل صحيفة "واشنطن بوست" الى أن اسرائيل لا تواجه أية اخطار خارجية، كما أن لديها احتكاراً نووياً وأقوى جيش تقليدي في المنطقة. ويمضي فيقول إن اسرائيل بدأت تنفيذ مشاريع للري في الجمهوريات السوفياتية الاسلامية السابقة: كازاخستان واوزبكستان وقيرغيزيا، كما أنها استأنفت علاقاتها الديبلوماسية مع 19 دولة كانت تعاديها سابقاً، بما فيها الصين والهند ونيجيريا، الى درجة أن عدد الدول التي تعترف بها الآن يعادل تقريباً عدد تلك التي تعترف بمنظمة التحرير.
كل هذا، كما كانت تأمل إدارة بوش، يعطي اسرائيل الثقة الذاتية للتوصل الى سلام مع جيرانها وإعادة الأراضي المحتلة اليهم. لكن الخوف الآن هو أن ذلك كله أعطى رابين الثقة لمقاومة الضغط الدولي لحل القضية الفلسطينية التي تأمل الحكومة الاسرائيلية "أن تختفي!".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.