للمرة الأولى منذ نصف قرن هو عمر الاستقلال، شهد لبنان مطلع العام المنصرم ولادة وزارة مستقلة للثقافة. استحدثت "وزارة الثقافة والتعليم العالي" هذه، بموجب المرسوم رقم 311 الصادر بتاريخ 25/1/1993، وينص ايضاً على تعديل تسمية وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة. هكذا اصبح للبلد الذي عرف نهضة ثقافية رائدة من دون أي اشراف او دعم رسمي مباشر، مرجعاً حكومياً اعلى يعنى - حسب الاهداف المعلنة - بتعزيز الحركة الثقافية والفنية وتنشيطها، والاشراف على المعهد الموسيقي الوطني، على ان تلحق به ايضاً المديرية العامة للآثار التي كانت تابعة لوزارة السياحة. حصيلة مخيبة للآمال وأوضح نص المشروع بأن استحداث الوزارة، ليس القصد منه اعطاء الدولة حق التدخل في شؤون الثقافة وتوجيه الابداع، بل جعل مؤسساتها اكثر فاعلية. لكن حصيلة السنة الاولى من "عهد" ميشال اده اول وزير للثقافة، جاءت مخيبة للآمال حسب اجماع اهل الابداع والفكر والادب. فالحياة الثقافية لم تشهد على أرض الواقع، اية بادرة لدعم نشاط او مؤسسة ثقافية، او اطلاق تظاهرة جديدة، او تعديل الاوضاع السائدة، بل ان الوزارة لم تعبر عن موقف واضح من حرية التعبير التي تعرضت لأكثر من تحد، وعاشت اكثر من مأزق: من فيلم "الاعصار" لسمير حبشي الذي اعتقله الامن العام اسابيع طويلة، الى مسرحية "أرانب وقديسون" لشكيب خوري التي عمدت عناصر من الامن العام الى توقيفها في عرضها الثالث، استناداً الى تقرير كاهن رعية، قبل ان يعود فيسمح بعرضها فتحصد النجاح محلياً وعربياً. اما مغامرة الزميل عبده وازن مع نصه "حديقة الحواس" "دار الجديد"، لم تعرف النهاية السعيدة نفسها، اذ ان الكتاب لا يزال ممنوعاً بتهمة "الاباحية"! بيروت عربياً ولم يكن لوزارة الثقافة، أي حضور يذكر على الساحة العربية. هكذا تراجعت بيروت التي احتضنت عام 1955 أول مؤتمر للادباء العرب الى الموقع الخلفي، ولم تلعب اي دور على مستوى مؤتمرات وزراء الثقافة العرب. لكن هذا لم يمنع المدينة من ان تستعيد تدريجاً دورها كساحة ثقافية عربية. فقد عادت الغاليريهات تعرض اعمال فنانين معروفين كالمصري عدلي رزق الله والعراقيين ضياء العزاوي ورافع الناصري، الى جانب الرواد اللبنانيين من امثال رفيق شرف، أمين الباشا، عارف الريس ... وخصصت العاصمة اللبنانية أسبوعاً لسينما المخرج السوري محمد ملص، أعقبها اسبوع استعادي آخر لافلام السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي: "الذاكرة الخصبة" 1979، "معلول تحتفل بدمارها" 1984، "عرس في الجليل" 1987 الذي كان اول فيلم روائي فلسطني طويل يصور في الاراضي المحتلة، وحاز جوائز عالمية عدة الجائزة الكبرى للنقاد الدوليين في مهرجان كان، وجائزة مهرجان سان سيباستيان الاسباني، و"التانيت الذهبي" لأيام قرطاج السينمائية، وأخيراً "نشيد الحجر" 1989. وتمكن الجمهور اللبناني من التعرف على احدى التجارب المسرحية الطليعية في العالم العربي، مع مسرحية "الاغتصاب" التى استضافها "مسرح بيروت"، وهي تستند الى نص من تأليف السوري سعدالله ونوس أخرجه بعد ان تصرف فيه الفنان العراقي البارز جواد الاسدي. على صعيد النشر، استمرت الاصدارات رغم الأزمة التي يعيشها هذا القطاع، وبين الاسماء التي برزت على المستوى الادبين نشير الى بول شاوول، حسن داوود، الياس خوري، بسام حجار ... كما اعتبر تعيين الفنان والاعلامي فؤاد نعيم مديراً للتلفزيون اللبناني، من العلامات المميزة لهذه السنة الثقافية. اذ أصبح في وسع المتفرج ان يتابع على الشاشة الصغيرة، في غمرة الفوضى التلفزيوني التي تعرفها البلاد، برامج مميزة فنياً وثقافياً، الا ان الطريق ما زالت طويلة أمام نعيم قبل ان يربح رهانه الفعلي ويحقق طموحاته بشكل مرض. أبو الحسن، غيراغوسيان وبغدادي وخسرت الحياة الثقافية والفنية بعض الوجود البارزة خلال الاشهر الماضية. اذ أودى حادث سير بحياة المسرحي نبيه أبو الحسن، وذلك عشية افتتاح عروض عمله الجديد "أخوت حتى السلام". أبو الحسن من رعيل الستينات الذي وضع لبنان المسرح العربي الحديث، عمل مع الراحل شوشو، ومع ابرز المخرجين من شكيب خوري الى روجيه عساف، مروراً بجلال خوري وآخرين ... واقترن بشخصية "اخوت شاناي" الشهيرة التي تقمصها حتى الاستهلاك في السنوات الاخيرة. كما فجعت الحركة التشكيلية برحيل الرائد التشكيلي بول غيراغوسيان 1926 - 1993 الذي يعتبر من كبار الفنانين في العالم العربي. رسم بأسلوب مميز سار نحو التجريد، الناس البسطاء ووجع الغربة والاقتلاع، وهاجس التحرر من ألم الجسد والروح، للمضي صوب نورانية ساطعة. وقبل اسبوعين كان السينمائي العالمي مارون بغدادي يقوم بزيارة الى لبنان، تمهيداً لتصوير فيلم جديد تدور احداثه في بيروت، فاذا بزلة قدم في ليل المدينة المحرومة من التيار الكهربائي، تضع حداً لحياة فنية خصبة في أوج نضوجها. بغدادي كان اصرع زملائه وأبناء جيله الى العالمية، أثار بعض اعماله سجالات حادة، لم تكن الا دليلاً اضافياً على موهبة مرهفة، ونظرة ثاقبة وأسلوب سينمائي مميز، واندفاع فنان مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل مهنته! راجع مقالة الزميل ابراهيم العريس في مكان آخر من هذا العدد. حرب النقابات الفنية كما شهد العام 1993 انقسام الحركة الفنية في لبنان، وتشكيل "نقابة الفنانين المحترفين" التي انتخب المسرحي انطوان ملتقى رئيساً لها. فما كان من النقابات الفنية التاريخية الثلاث الممثلين، السينمائيين والموسيقيين الا ان اجتمعت تحت لواء "اتحاد النقابات الفنية"، وانتخبت مصمم الديكور غازي قهوجي رئيساً. فتساءل المراقبون عن خلفيات هذا الانقسام التي رأى فيها البعض حرباً اهلية مكتومة، في ظل صراعات سياسية وفردية عدة. و"معرض الكتاب العربي" الذي شهد هذا العام اقبالاً مرضياً، واستقبل ضيوفاً بارزين من أمثال الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، سلط الضوء على مشاكل مشابهة تتربص باتحاد الناشرين في لبنان، وتهدده بالشرذمة والتفتت الى اتحادات. وكرم خلال العام عدد من المبدعين اللبنانيين في العالم العربي واوروبا، بدءاً بالاحتفال الذي خصه "معهد العالم العربي" في باريس للمطربة والممثلة نور الهدى الكسندرا بدران التي بدأت حياتها اواسط الثلاثينات، وحققت شهرتها في القاهرة حين غادرت لبنان عام 1942. اكتشف العالم العربي صوت نور الهدى عام 1939 حين تم تأسيس "راديو ليبان" ايام الانتداب الفرنسي، ولعبت دور البطولة في افلام عدة نذكر منها: "جوهرة"، "برلنتي" مع يوسف وهبي، "ما تقولش لحد" مع فريد الاطرش، و"لست ملاكاً" مع محمد عبدالوهاب. الشدراوي، خوري ومعلوف وكرم "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" هذا الصيف، المسرحي اللبناني يعقوب الشدراوي، الذي ترك بصماته على الخشبة العربية من خلال أعمال أساسية، منذ "مجنون" غوغول قبل الحرب مونودراما من ادائه حتى "جبران والقاعدة"، مروراً ب"الطرطور" عن "فرافير" يوسف إدريس، "ميخائيل نعيمة" و"أعرب ما يلي" تحية الى مارون عبود"... ومنح "معهد العالم العربي" المخرج التسجيلي جان شمعون جائزة "مهرجان الفيلم الوثائقي" عن فيلمه "احلام معلقة" الذي حققه مع رفيقته مي المصري. كما صفق الجمهور العربي في لمغرب ثم في تونس طويلاً للمسرحي شكيب خوري وممثليه الذين عادوا بالجائزة الكبرى من اهم مهرجان مسرحي عربي أيام قرطاج حيث قدموا مسرحية "أرانب وقديسون" التي تناولناها مطولاً فوق هذه الصفحات. ولعل فوز الاديب اللبناني امين معلوف بجائزة "غونكور" الادبية في فرنسا، عن روايته "صخرة طانيوس" الصادرة بالفرنسية عن دار "غراسيه" في باريس، هو التكريم الابرز عالمياً للثقافة اللبنانية خلال العام. والجائزة تتويج لمسيرة أدبية عبرها معلوم من نجاح الى آخر، منذ صدور روايتيه "ليون الافريقي" 1986، وبعدها "سمرقند" 1988 اللتين حظيتا برواج شعبي لافت، وحققتا ارقام مبيع مرتفعة.