الحدث استثنائي وعلى أكثر من صعيد. الحدث يتعلق بالسينما اللبنانية. والمكان باريس. والمناسبة: الموسم الثقافي اللبناني الذي يفتتح فعالياته هذا الشهر ويتواصل حتى الربيع المقبل. موسم لم يسبق له مثيل، إذ - ولا مرة حتى ولا في لبنان - اجتمعت فنون لبنانية عديدة، بكل هذه الكثافة وبكل هذا الزخم لتقدم مرة واحدة، فهنا، في هذا الموسم، تتجاور السينما والموسيقى والغناء مع الادب مع الفن التشكيلي مع الرقص، إلى آخر ما هنالك، لتقدم صورة "بانورامية" لما يمكننا أن نسميه الآن: تاريخ الحركة الثقافية في لبنان. أما الاستثناء السينمائي الذي افتتحنا به هذا الكلام، فهو موسم العروض السينمائية الذي يقام ضمن التظاهرة، ويقدم بعض أبرز ما انتجته السينما اللبنانية على مدى تاريخها الذي بات عمره الآن أكثر من ستة عقود من الزمن. فمن الرواد الأوائل إلى جمهرة شبان الأفلام القصيرة من أبناء جيل ما بعد الحرب، ومن ميشال هارون إلى برهان علوية ومارون بغدادي، وصولاً إلى غسان سلهب، تعرض السينما اللبنانية أفضل ما عندها. وخلال هذا العرض تعيد إلى الحياة أفلاماً كان خيّل إلينا انها أضحت أشباحاً - أفلاماً تعود إلى الخمسينات والستينات وكان الكثيرون يعتقدون أنها أضحت جزءاً من التاريخ المدون أو غير المدون للسينما اللبنانية، إذ منذا الذي كان بإمكانه ان يخمن امكانية مشاهدة فيلم مثل "عربة الشيطان" 1961 أو حتى "بيروت يا بيروت" لمارون بغدادي، وهو الفيلم الذي كان، لعامين خليا، يعتبر "مفقوداً"؟ ومنذا الذي كان بإمكانه أن يحدس بأن فيلم انطوان مشحور الشهير "الطب عند العرب" سيعرض يوماً؟ وحين حقق سمير الغصيني "قطط شارع الحمراء" مفتتحاً به أسوأ مرحلة من مراحل تاريخ السينما اللبنانية، هل كان يحلم بأن يشاهده يوماَ معروضاً في واحد من أرقى الصروح الفنية والثقافية في أوروبا معهد العالم العربي؟ تمثيل حقيقي للانتاج كله كل هذا يشكل جزءاً من الموسم السينمائي الذي اختار أفلامه وأشرف على تنظيمه الزميل وليد شميط، الذي حرص منذ البداية على ألا يكون هناك سلّم أفضليات يعود إلى احكام قيمية، بمعنى ان يكون ما يعرض "أفضل ما انتج"، بل شاء أن يكون المعروض ممثلاً حقاً للانتاج السينمائي اللبناني، بغثه وسمينه، بأزهى لحظاته وبأسوئها. وفي اعتقادنا أنه نجح في رهانه، وصار بإمكان المهتم حقاً، بتاريخ السينما اللبنانية، أن يشاهد نماذج تؤشر على كل مرحلة من مراحل ذلك التاريخ الذي يقسمه النقد، عادة، إلى سبع مراحل: مرحلة الرواد، وتبدأ مع جيوردانو بيدوتي الذي حقق "مغامرات الياس مبروك" ثم "مغامرات أبو عبد" أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات، لتنتهي مع علي العريس الذي قدم عامي 1942 و1946 أول فيليمين لبنانيين ناطقين: ""بياعة الورد" و"كوكب أميرة الصحراء". والمؤسف، بالطبع، ان هذه الأفلام كلها مفقودة الآن - بعد تلك المرحلة تأتي مرحلة التأسيس المعاصر على أيدي جورج قاعي وميشال هارون ويوسف فهده، وخصوصاً جورج نصر، وهي مرحلة غلبت عليها محاولة صنع سينما محلية لبنانية تنطق بقيم الجبل والأبعاد الاخلاقية والميلودرامات، وتوجها "إلى أين؟" لجورج نصر الذي حاول أن يرسم صورة لملحمة الاغتراب - المرحلة الثالثة كانت مرحلة غلب عليها انتاج أفلام مصرية الهوى واللهجة وبدأها أحمد الطوخي، المصري، ومحمد سلمان، اللبناني، وتواصلت حتى العام 1970. من الناحية الكمية تعتبر هذه المرحلة الأغنى والأكثر تنوعاً، لأنها إذ شهدت تحقيق ميلودرامات على النمط السائد، وبتوقيع أقطاب النوع في مصر، من حسن الإمام إلى عاطف سالم، وبتوقيع مخرجين كانت بداياتهم في لبنان في تلك المرحلة مثل سيد طنطاوي وأحمد السبعاوي، فإنها شهدت أيضاً انتاجات أكثر جدية وطموحاً، وقعها فاروق عجرمة وسمير نصري وغاري غارابديان الذي احترق مع فريقه فيما كان يصور "كلنا فدائيون"، وخصوصاً يوسف شاهين وهنري بركات. كانت مرحلة عجيبة اختلط فيها أشباه جيمس بوند الايطاليون في أفلام صورت في لبنان بفساتين شحرورة الوادي وابتسامات مطربة البادية العريضة، بتجارب الاخوين رحباني مع شاهين بياع الخواتم وهنري بركات، بمحاولة يوسف معلوف تحقيق فيلم نزيه عن "الأجنحة المتكسرة" لجبران. كل شيء كان في تلك المرحلة التي سرعان ما انتهت مع عودة رساميل السينما إلى مصر، بعد أن كان فرارها منها إثر صدور قرارات عبدالناصر الاشتراكية أوائل الستينات سبب نزوحها إلى لبنان ونزوح كل ذلك الرهط من السينمائيين - فنانين وفنيين - معها. تلك المرحلة لم تخلّف في لبنان الذي كانت أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تفاقم، سوى بقايا صناعة ومجموعة من "المساعدين" الذين "درسوا" السينما على معلمي "الميلودراما" المصريين. وهؤلاء المساعدون، شغلوا المرحلة الرابعة التي شهدت بعض نجاحات تجارية سمير الغصيني ومحاولات أكثر طموحاً سمير خوري، قبل أن ينتهي كل شيء مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. بعيداً عن التعاطف الوطني اندلاع تلك الحرب أدى إلى تبدلات كثيرة، فورية وعلى مدى متوسط وطويل، على كافة الصعد في لبنان، وكان حظ السينما من تلك التغيرات كبيراً، إنما دون ان يكون ذلك متوقعاً. فالحقيقة ان التيار السينمائي اللبناني الذي بدأ يطل برأسه مع إطلالة الحرب ليشكل عماد المرحلة الخامسة من مراحل تاريخ السينما اللبنانية، بدا في ظاهر الأمر وكأنه طالع من عدم، كالنبات الصحراوي، إذ فجأة صارت السينما اللبنانية تحمل اسماء لم يكن أي منها معروفاً من قبل: برهان علوية، مارون بغدادي، جان شمعون، رندة الشهال، جوسلين صعب، هيني سرور، إضافة إلى أسماء كانت أطلت قبل فترة جورج شمشوم أو معروفة أتت من أمكنة أخرى اندريه جدعون وكريستيان غازي، المهم مع هذا التيار الذي أتى أكثر ابنائه من الخارج ومن النضالات السياسية صارت للبنان سينما حقيقية جادة، متميزة، ذات بعد اجتماعي محلي وعربي وعالمي. صار لبنان يحقق أحسن فيلم عن القضية الفلسطينية - حتى ذلك الحين - كفر قاسم، وعن قضايا عربية ظفار، الصحراء، مدينة الموتى والعمران القاهري، وصار للبنان سينما تقول الواقع الاجتماعي بطموح "بيروت يا بيروت" ثم "حروب صغيرة" و"رسائل من زمن الحرب" و"بيروت اللقاء"، وصارت أفضل الانتاجات التسجيلية المتحدثة عن قضايا الفلسطينيين بتوقيع لبناني جان شمعون. ناهيك عن شرائط الحرب القصيرة والمتوسطة. صارت السينما قضية في لبنان، ولم يعد المتفرج يشاهد فيلماً لبنانياً، كتعاطف وطني وما إلى ذلك. لكن سنوات الحرب طالت، ووجد علوية وبغدادي والشهال وشمعون وصعب أنه لم يعد بامكانهم البقاء طويلاً، فرحلوا - كل منهم في اتجاه - لتولد المرحلة السادسة من رحم المرحلة الخامسة، مرحلة سينما المنفى، وكان من أبرز علاماتها أفلام برهان علوية، خصوصاً مارون بغدادي، الذي حقق في دورة مهرجان كان للعام 1991، انتصاراً كبيراً بفوز فيلمه "خارج الحياة" بجائزة لجنة التحكيم، مناصفة مع "أوروبا" لارس فون تراير، وكان ثاني أكبر انتصار تحققه السينما اللبنانية بعد فوز برهان علوية بجائزة مهرجان قرطاج قبل أعوام عن فيله "كفر قاسم". وهما انتصاران استبقا انتصار زياد الدويري قبل أسابيع بفليمه الأول "بيروت الغربية" حين عرضه في "أسبوعي المخرجين" في كان، ثم فاز عنه بالجائزة الكبرى في مهرجان السينما العربية في معهد العالم العربي ناهيك عن انتصارات أخرى عديدة حققها. من السينما إلى السينما من برهان علوية ومارون بغدادي، إلى زياد الدويري اليوم، صارت مسيرة السينما اللبنانية أوضح وأكثر تماسكاً. وهذه المسيرة الحقيقية، وصلت إلى مرحلتها السابعة التي توّجها انتصار "بيروت الغربية" بعد أن حطت الحرب أوزارها، وبرز - وفجأة كما كان الحال مع جيل علوية/ بغدادي - جيل جديد من سينمائيين شبان، ادهشوا المتفرجين ولا يزالون، بأفلام قصيرة ومتوسطة، روائية وتسجيلية، طموحة أو أقل طموحاً، تحمل البذور لولادة جديدة، ولادة جيل لا يشابهه أي جيل مزامن في أي بلد عربي. فنحن إذا شاهدنا، أفلاماً تحمل تواقيع أكرم زعتري وميشال كمون ورانيا اسطفان وعامر غندور، ناهيك عن أفلام الجيل السابق مباشرة عليهم سمير حبشي، جان كلود قدسي، بهيج حجيج وصولاً إلى ديمة الجندي، سنكتشف أمامنا صورة لسينما طموحة، ميزتها أنها آتية من السينما ومن العناصر البصرية، على عكس سينما الجيل السابق التي أتت، هي، من الأدب أو من السياسة. لكن هذه السينما تحمل الهاجسين الأساسيين: بيروت والحرب، حتى وإن كان يخيل إليها أنها وضعتهما وراءها. ولقد وصل التعبير عن هذين الهاجسين إلى ذروته في فيلم زياد الدويري بيروت الغربية، كما في فيلم غسان سلهب الأول "بيروت الشبح"، الذي لا يزال الحكم عليه مبكراً، لأننا لم نشاهده بعد، حيث سيكون عرضه الأولى ضمن تظاهرة معهد العالم العربي، يوم الأحد في 22 تشرين الثاني نوفمبر. مهما يكن، فإن جيل الدويري/ زعتري/ سلهب، يعتبر نفسه، وهو هكذا حقاً، امتداداً لجيل علوية/ بغدادي، هو الوريث الشرعي له، رغم الصعوبات ومشاكل التمويل، والمشاكل التي تنذر بألا تنتهي، مع الرقابة في لبنان، وربما في غير لبنان لاحقاً. وهذا الجيل يضم الآن عدداً كبيراً من سينمائيين يحمل كل منهم مشروعه وينتظر... الظروف التي تمكنه من تحقيقه. في انتظار ذلك يستعد برهان علوية للعودة إلى السينما الروائية بعد أن عاد إلى بيروت، وتنجز رندة الشهال فيلماً طويلاً جديداً بعنوان "الآخرون"، ويحاول جان شمعون ان يحيي مشروعه الروائي الأول، أما جان كلود قدسي وبهيج حجيج، فيتحركان دون هوادة، الأول في محاولة لتحويل رواية لبنانية إلى فيلم، والثاني في محاولة لأفلمة "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة. وكل هذه المحاولات لا شك شجعها كثيراً انتصار فيلم "بيروت الغربية" لزياد الدويري، كما سيشجعها أكثر ذلك التجاوب الذي تلقاه الآن وستلقاه أكثر، تظاهرة معهد العالم العربي، التي ترصد مسار تاريخ السينما اللبنانية عبر عشرات الأفلام الطويلة والقصيرة لتقول إن السينما اللبنانية حية وحيوية، بعد سبعين عاماً من فيلمها الأول وخمسة أعوام من رحيل مارون بغدادي أحد ألمع نجوم هذه السينما. مارون الذي اعتقد كثيرون أن جزءاً كبيراً من تاريخ السينما اللبنانية سيموت بموته.