حرب "التطهير العرقي" التي يشنها الصرب في البوسنة والهرسك منذ اندلاع المعارك في هذه الجمهورية المتفجرة ظهرت نتائجها السياسية عشية انعقاد مؤتمر لندن الدولي للسلام في يوغوسلافيا. هذه الحرب ادخلت تغييرات اساسية في بنية البوسنة والهرسك سيكون من الصعب التغلب عليها او الرجوع بالبوسنة الى ما كانت عليه في السابق. وتظهر التغييرات في سيطرة الاطراف المتنازعة على الارض وفي اقتراب الصرب في البوسنة والهرسك من تحقيق اهدافهم الرئيسية فيها. فالصرب الذين يشكلون 31.3 في المئة من مجموع سكان البوسنة والهرسك يسيطرون على مساحة تراوح بين 60 و70 في المئة من أراضي هذه الجمهورية، وهم يعترفون بأنهم حققوا 90 في المئة من اهدافهم التي يمكن تلخيصها بالسيطرة على مناطق "منظفة" من المسلمين ومن الكرواتيين، حيث تشكل كلاً مترابطاً يمتد من حدود جمهورية صربيا وحتى المقاطعة التي انتزعها الصرب من كرواتيا، على طريق اقامة "صربيا الكبرى". وبالفعل، فإن قراءة الخارطة الجديدة لما كان يسمى يوغوسلافيا تظهر ان الصرب سيطروا على كل الاجزاء الشرقية من البوسنة والهرسك التي لم يبق فيها للوجود البوسني المسلم سوى بعض الجيوب المحاصرة والساقطة عسكريا مثل غورادزه. وسيطر الصرب كذلك على شمال وغرب البوسنة والهرسك. اما المسلمون الذين يشكلون اساساً 43.7 في المئة من مجموع السكان البالغ عددهم 4 ملايين و355 الف نسمة، فإنهم خسروا غالبية مناطق انتشارهم التي طردوا منها ولم يعودوا يفرضون سيطرتهم الا على منطقة صغيرة تقع في وسط البوسنة لا تتعدى 10 في المئة من المساحة الاجمالية وتنحصر في مثلث يذهب من العاصمة ساراييفو الى مدينة زنيكا ثم نزولا الى الجنوب حتى مدينة ثوزلا. ويسيطر المسلمون كذلك على مثلث آخر يقع في اقصى الشمال الغربي للبوسنة والهرسك، تشكل مدينة بيهاك سبعون الف نسمة محوره الرئيسي. الطرف الثالث في البوسنة والهرسك الكرواتيون الذين لا يمثلون سكانياً سوى 17.3 في المئة من اجمالي السكان، نجح في الاحتفاظ بثلث الاراضي البوسنية تقريباً بفضل الدعم الذي يتلقاه من جمهورية كرواتيا، الامر الذي اتاح له تعبئة خمسين الف رجل وتدريبهم وتسليحهم. وتتشكل المناطق الواقعة تحت سيطرة الكرواتيين، المتحالفين مع المسلمين، من مثلث قاعدته السفلى تنطلق من شمال مدينة دوبروفنيك، على الشاطئ الادرياتيكي، صعوداً حتى المناطق التي تلامس المنطقة التي احتلها الصرب جنوبكرواتيا. وتتداخل منطقة السيطرة الكرواتية في البوسنة والهرسك مع منطقة سيطرة المسلمين. ويحتفظ الكرواتيون كذلك بجيبين صغيرين في الشمال الشرقي على الحدود بين كرواتيا والبوسنة. هذا التوزيع على الارض له نتائجه وانعكاساته. ولا شك انه المسؤول عن تقرير مصير البوسنة والهرسك. اضف الى ذلك ان الحرب وما رافقها من تهجير ومذابح احدثت هوة يصعب ردمها بين الصرب من جهة والمسلمين والكرواتيين من جهة اخرى. وهذا ما يجعل امر العودة الى صيغة الدولة الواحدة السابقة امراً بعيد الحصول. وفي اي حال، يبدو ان ثمة "تحالفاً موضوعياً" بين الكرواتيين والصرب بالنسبة الى مستقبل البوسنة والهرسك في حين يبدو المسلمون معزولين سياسياً في تصورهم لمستقبل بلادهم. منذ اسابيع، سرت شائعات تتحدث عن مشروع لتقسيم البوسنة والهرسك يوافق عليه المسؤولون في صربيا وكرواتيا. وفي مقابلة اجريت معه اخيراً عبّر فرانجو تودجمان لمجلة "نيوزويك" الاميركية عن تأييده لاقتسام جمهورية البوسنة والهرسك بين صربيا وكرواتيا، كما اعلن موافقته على "قيام دولة بوسنية اسلامية صغرى في وسط البوسنة"، اي في المناطق التي ما زالت خاضعة لسيطرة المسلمين. وفي رأي الرئيس الكرواتي ان هذا الحل "يضع حداً لمطامح المسلمين البوسنيين باقامة دولة اسلامية كبرى في قلب اوروبا". هذا الكلام الصريح للرئيس الكرواتي تودجمان لم يمنعه من توقيع "معاهدة صداقة وتعاون" مع البوسنة والهرسك، ولم يمنع الكرواتيين فيها من المشاركة في الحكومة والادارة والقوات المسلحة. ذلك ان الكرواتيين يعتبرون ان سيطرتهم على جزء مهم من الاراضي البوسنية هي بمثابة ضمانة من اجل المستقبل. ويلعب الكرواتيون ورقتين اثنتين: ورقة المطالبة بتنفيذ الاتفاق الذي توصلت اليه الاطراف الثلاثة برعاية اوروبية في شهر آذار مارس الماضي، والقاضي بإيجاد ثلاثة كانتونات على اساس اثني - قومي وذلك في اطار دولة بوسنية غير مركزية. الورقة الثانية هي تقسيم البوسنة والهرسك والانضمام الى كرواتيا في حال تبين تعذر العمل بمثل هذا الحل وظهر ان التقسيم الفعلي هو الخيار الوحيد. وتتناسب الاستراتيجية الكرواتية مع ما يريده الصرب في البوسنة والهرسك. فزعيمهم رادوفان كاراجيتش اعلن اكثر من مرة ان "التقسيم اساسي لأي حل لمشكلة البوسنة والهرسك". ويؤكد كاراجيتش ان الصرب "لن يقبلوا بأن يعيشوا مجدداً في اطار دولة تشبه جمهورية البوسنة والهرسك السابقة". واذا كان كاراجيتش يطالب بالعودة الى اتفاق آذار مارس الذي كان تراجع الرئيس البوسني علي باكوفيتش عنه بمثابة الشرارة التي اشعلت الحرب، فإن له فهماً خاصاً لما ينص عليه بحيث يؤدي التقسيم، على اساس كانتونات، الى قيام ثلاثة كيانات متمايزة. ومن جهة اخرى، فإن سلوبودان ميلوسيفيتش الرئيس الصربي، يناور حين يعلن ان صربيا "مستعدة للاعتراف بالبوسنة والهرسك عندما تتوصل شعوبها الثلاثة الى اتفاق في ما بينها". والحال ان ميلوسيفيتش يعرف ان الاتفاق صعب التحقيق وانه لو تحقق فإنه يبقى صعب التنفيذ. يبقى من كل ذلك ان الخارطة السياسية البوسنية تظهر خاسراً كبيراً يتمثل بالمسلمين. فلقد خسروا بالدرجة الاولى الارض ودفعوا ثمناً مرتفعاً من القتلى والجرحى والمهجرين والمعتقلين في هذه الحرب التي لم يكونوا مهيئين لها. ومأساة المسلمين ان لكل من طرفي النزاع الآخرين دملته خارج البوسنة والهرسك. صربيا موجودة وجمهورية كرواتيا موجودة ايضا. من هنا تعلقهم ببقاء البوسنة والهرسك وتراجعهم في شهر آذار مارس الماضي عن مشروع الكانتونات الثلاثة. ومن هنا ايضا اعلان الرئيس علي عزت باكوفيتش رفضه للكانتونات ومطالبته بالعودة الى "جمهورية بوسنية موحدة" واعلان نائبه ايوب غانيتش "ان ما يهم المسلمين هو اقامة دولة ديموقراطية غير مركزية تتمتع كل مناطقها بإدارة محلية ذاتية" و"رفض الوضع الكانتوني للدولة على اساس قومي لأنه يعني قيام ثلاث دول ذات طابع طائفي". هكذا يجد الطرف الخاسر نفسه وحيداً في الداخل والخارج. وهكذا، فإن الحلول التي يمكن ان يؤدي اليها مؤتمر لندن لا يرصد اي منها عودة البوسنة والهرسك الى ما كانت عليه. البوسنة والهرسك راحت ضحية جارتيها صربيا وكرواتيا اللتين تطمعان باقتسامها. وراحت ضحية عجز المجتمع الدولي الذي لم تتوفر عنده الارادة الضرورية لايقاف المجازر ومنع تفتيت هذه الجمهورية ذات الفسيفساء الاثنية. لكن البوسنة والهرسك راحت خصوصاً ضحية قصر نظر مسؤوليها وسياسييها الذين لم يعرفوا كيف يوفرون على دولتهم، منذ ان تبين ان موت يوغوسلافيا اصبح حتمياً، الوقوع في هوة الحرب الاهلية. وما يزيد التشاؤم على مصير البوسنة والهرسك قرار اللورد كارينغتون الاستقالة من منصبه كوسيط للمجموعة الاوروبية في هذه الازمة. وبدا واضحا ان قرار الاستقالة الذي اعلن مع بدا اعمال مؤتمر لندن يعكس يأس الوسيط الاوروبي من التوصل الى حل يحفظ سلامة اراضي جمهورية البوسنة والهرسك. اما على الصعيد الدولي فان مناقشة الوضع في البوسنة في الجمعية العمومية للامم المتحدة الاسبوع الماضي بناء على طلب منظمة المؤتمر الاسلامي، وإجماع الدول الاسلامية على التنديد بالمسؤولين الصرب واعتداءاتهم على سكان البوسنة... هذا كله لن يدفع الدول الكبرى الى التدخل عسكريا لانقاذ جمهورية البوسنة والهرسك من التفكك.