لن تتكرر عملية "عاصفة الصحراء" في جمهورية البوسنة والهرسك، ولن يتم انشاء تحالف دولي جديد لوضع حد للحرب التوسعية والعنصرية التي تقودها جمهورية الصرب ضد شعب البوسنة والهرسك، وخصوصاً المسلمين منهم، ولن يتم ارسال مئات الآلاف من الجنود الى يوغوسلافيا السابقة لوقف الحرب الاهلية، والقرار الذي تبناه مجلس الامن الدولي يوم 13 آب اغسطس الجاري والداعي الى استخدام "كل التدابير الضرورية" لضمان وصول الامدادات الغذائية والطبية وكل انواع المساعدات الانسانية لشعب البوسنة والهرسك، هذا القرار يشكل "الحد الادنى" من التدخل العسكري الدولي في يوغوسلافيا السابقة وهو لن يكفي وحده لوقف الحرب هناك. لماذا لن تتكرر "عاصفة الصحراء" في البوسنة والهرسك، ولماذا لا تبدو الدول الكبرى مستعدة لارسال عشرات الآلاف من الجنود الى هناك لوقف حرب الصرب ضد اهالي البوسنة والهرسك، ولماذا لا تعامل الدول الكبرى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش كما عاملت الرئيس العراقي صدام حسين حين قام بغزو الكويت في آب اغسطس 1990؟ وفقاً لعدد من الخبراء والسياسيين والعسكريين الاميركيين والاوروبيين فان هناك مجموعة عوامل وأسباب تمنع تكرار عملية "عاصفة الصحراء" في البوسنة والهرسك أبرزها الآتية: 1 - احتلال العراق لدولة مستقلة ذات سيادة هي الكويت كان عملاً عدوانياً مفضوحاً ومخالفاً كلياً للقانون الدولي ولميثاق الاممالمتحدة. ولم يحصل صدام حسين على اي دعم كويتي لعمله هذا ولم يتمكن من ايجاد حلفاء كويتيين له. اما حرب الصرب ضد البوسنة والهرسك فهي حرب اهلية حقيقية وتشبه في ذلك، الى حد كبير، الحرب اللبنانية. 2 - أرض المعركة في الكويت أرض صحراوية سهلة نسبياً، اما أرض المعركة في يوغوسلافيا السابقة فهي وعرة وجبلية فيها عقبات كثيرة وتفتح الباب امام قيام حرب عصابات اذا ارسلت الدول الكبرى قوات الى هناك، وسقوط آلاف القتلى من القوات التي ستتدخل لوقف الحرب. 3 - يعتبر الخبراء العسكريون المطلعون ان الأمر يحتاج الى أكثر من 100 الف جندي مدربين تدريباً جيداً مع اسلحتهم ومعداتهم المختلفة، لوقف حرب البوسنة والهرسك ولوضع حد لمخططات الصرب التوسعية، والى قرار سياسي يتحمل خسائر كبيرة. وعلى رغم المجازر والفظاعات التي تجري هناك، فان زعماء الدول الكبرى يعتبرون، ضمناً، ان "معركة" البوسنة والهرسك ليست بأهمية "معركة الكويت": فلو تركت دول التحالف صدام حسين يحتل الكويت ويبلعها لكان سيطر على منطقة الخليج كلها وقلب موازين القوى في الشرق الاوسط، اما البوسنة والهرسك فلا تتمتع بالاهمية الاستراتيجية والاقتصادية نفسها، وليس فيها نفط ولا مواد اولية حيوية بالنسبة الى العالم الصناعي. وإذا كان تحرير الكويت يستحق حشد نصف مليون جندي، فان تحرير البوسنة والهرسك، في رأي زعماء الدول الكبرى، لا يستحق التضحية "بالاف" الجنود الاميركيين والاوروبيين، ولا ربما بأقل من ذلك. وبقدر ما كان هناك تصميم واضح، ومنذ البداية، على انهاء الاحتلال العراقي للكويت أياً يكن الثمن، بقدر ما تبدو الدول الكبرى مصممة على عدم دفع "ثمن كبير" لوقف حرب البوسنة والهرسك. فالرئيس بوش لا يريد ان يكرر تجربة فيتنام او حتى لبنان في البوسنة والهرسك، وإرسال قوات اميركية برية الى هناك لوقف الحرب فيكون الثمن مئات او آلاف الضحايا الاميركيين. ففي مقابلة مع صحيفة أميركية أعلن الرئيس بوش: "قبل ان ارسل قوات اميركية الى المعركة في البوسنة والهرسك عليّ ان اعرف كيف تبدأ، ما هي اهدافها وكيف ستنتهي. لكنني لا أملك اجوبة على هذه التساؤلات". ويكمّل معاونوه التعبير عن الفكر الرئاسي بقولهم انه ليس من الوارد ان ترسل واشنطن قوات برية، وجلّ ما تنوي القيام به توفير حماية جوية لقوافل الاغاثة وربما دعماً لوجستياً. والحلفاء الاوروبيون الرئيسيون يتخذون، عملياً، الموقف نفسه، على رغم ان الحرب تدور "على مسافة ساعتين بالطائرة من باريس" على حد قول لوران فابيوس رئيس الوزراء الفرنسي السابق. وتعلن الحكومة البريطانية انه من غير المقبول ان يستمر الوضع على حاله في البوسنة والهرسك، الا ان رئيسها جون ميجر كتب الى اللورد ديفيد أوين رسالة يحذّر فيها من التدخل العسكري في الحرب اليوغوسلافية. ومما جاء في هذه الرسالة: "ان السيطرة على الاجواء اليوغوسلافية لن تكون كافية لإيقاف الحرب. الحرب هناك ليست حرباً كلاسيكية مع عدد معروف وخط جبهة مرسوم وأهداف محددة. البرلمان لن يدعمنا وكذلك الرأي العام من أجل القيام بعملية تتطلّب مشاركة اعداد كبيرة من الجنود البريطانيين ولفترة طويلة". أما فرنسا، المتهمة دوماً بالتعاطف الضمني مع الصرب، فقد حددت موقفها، على لسان الرئيس ميتران، بتحقيق امرين اثنين: ضرورة ان تصل قوافل الإغاثة الى السكان المدنيين والمحاصرين في البوسنة والهرسك، وضرورة فتح معسكرات الاعتقال امام المنظمات الدولية. ولا تبدو الحكومة الفرنسية متحمسة لعملية عسكرية واسعة في يوغوسلافيا. اما المانيا، فإن قانونها الاساسي الدستور يمنع قواتها من المشاركة في عمليات عسكرية خارج حدود الحلف الاطلسي. وهكذا، بعد الضجة العالمية التي أثارها اكتشاف معسكرات اعتقال لمواطني البوسنة والهرسك وأخبار التعذيب والقتل، وبعد الاستنكار العالمي للمجازر التي يرتكبها الصرب في البوسنة والهرسك، اصدر مجلس الامن الدولي يوم 13 آب اغسطس الجاري قرارين: الأول - ويحمل الرقم 770 وقد صدر بأغلبية 12 دولة وامتناع 3 دول عن التصويت هي الصين والهند وزيمبابوي - يدعو الى استخدام "كل التدابير الضرورية"، بما فيها، ضمناً، القوة العسكرية، لايصال المساعدات الانسانية المختلفة الى شعب البوسنة والهرسك، وتمكين المنظمات الانسانية الدولية من دخول "جميع المعسكرات والسجون ومراكز الاعتقال بلا عائق وفي اي وقت". ويطالب هذا القرار، ايضا، كل اطراف النزاع بوقف المعارك فوراً. الثاني - يحمل الرقم 771 وتم تبنيه بالاجماع - يدين ممارسات "التطهير العرقي" في يوغوسلافيا القديمة ويطلب من "جميع السلطات" وضع حد لانتهاكات القانون الدولي في المجال الانساني. ويؤكد القرار ان كل من "يرتكب او يأمر بارتكاب" انتهاكات خطيرة لمعاهدات جنيف او للقانون الدولي في المجال الانساني سيتحمل مسؤولية هذه الأفعال بصفة شخصية. ويدعو جميع اطراف النزاع الى التقيد بهذه التعليمات، وإلا فإن مجلس الأمن سيضطر الى اتخاذ "تدابير جديدة" استناداً الى ميثاق الأممالمتحدة لتنفيذها. ويهدف هذان القراران، عملياً، الى "تأمين ممر محمي دوليا"، لإيصال المساعدات الغذائية والطبية وما شابه الى اهالي البوسنة والهرسك، كما يهدفان الى تخفيف معاناة المعتقلين، لكن القرارين لا يشيران الى جمهورية الصرب بالاسم، ولا يمهدان لعمل دولي فعلي لوقف الحرب هناك. فإرسال قوات من اميركا وأوروبا ودول اخرى لوقف الحرب سيؤدي الى سقوط آلاف القتلى في صفوفها، ولا احد يستطيع تحمل ذلك سياسياً، كما ان اعلان الحرب على الصرب وحليفها الجبل الأسود مهدد بإحداث زعزعة كاملة للوضع في كل البلقان ولا شيء يضمن عدم امتداد الحرب الى دول مجاورة. والبوسنة والهرسك لا تستحق، في نظر الكبار، ذلك كله. خيبة الأمل هذه عكسها ممثل البوسنة في الأممالمتحدة الذي قال للصحافيين ان القرارين "في أفضل الأحوال يعالجان بعض الاعراض لا المشكلة الأساسية على الاطلاق". اما الدول الاسلامية فترى ان قراري مجلس الأمن غير كافيين. وذكرت مصادر اميركية وأوروبية مطلعة ان تنفيذ هذين القرارين "عملية صعبة ومعقدة ومحفوفة بالمخاطر"، اذ يمكن ان تتعرض القوات الدولية التي سترافق قوافل الإغاثة الى كمائن او هجمات. وقد بدأت بعد صدور القرارين مشاورات بين الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية للاتفاق على صيغة عملية لتطبيق هذين القرارين. وهناك احتمال في ان يتولى الاميركيون توفير الغطاء الجوي لعملية تأمين المساعدات الانسانية الى أهالي البوسنة والهرسك، بينما ترسل الدول الاوروبية قوات برية لهذا الغرض، تضاف الى نحو 15 الف جندي يعملون حالياً في ما كان يسمى يوغوسلافيا. لكن عامل الوقت يعمل ضد جمهورية البوسنة والهرسك ووحدتها، وضد المسلمين فيها بشكل خاص. فالمعلومات التي تملكها الادارة الاميركية والحكومات الاوروبية المعنية بالموضوع تؤكد ان القوات الصربية تسيطر حالياً على نحو 70 في المئة من اراضي البوسنة والهرسك، وان مسلمي هذه الجمهورية مبعثرون ومشتتون ومهجرون. ووفقاً للخبراء المطلعين فان البوسنة والهرسك تواجه خيارين أساسيين اذا لم تتدخل الدول الكبرى عسكرياً لإخراج القوات الصربية منها. والخياران هما: 1 - إقدام الصرب على ضم الجزء الأكبر من هذه الجمهورية الى صربيا التي ستصبح حينذاك "صربيا الكبرى". 2 - اتفاق الصرب والكرواتيين على المطالبة بتقسيم البوسنة والهرسك الى كانتونات طائفية وعرقية، مما سيقضي على هذه الجمهورية ووحدتها. وفي الحالتين، فان مسلمي البوسنة والهرسك خاسرون.