هل من الممكن أن تصبح أحداث مثيرة في مجال الثقافة مؤشرات ذات دلالة على أحداث تجري، أو في سبيلها إلى أن تجري، في مجال السياسة؟ أطرح هذا السؤال لمناسبة الزوبعة التي أحدثها الكاتب الفلسطيني المعروف، الإسرائيلي الجنسية، اميل حبيبي في وقت بلغت عملية السلام في الشرق الأوسط منعطفا مهما بالغ الحساسية. قيل الكثير عن تلقي اميل حبيبي من يد اسحق شامير شخصيا جائزة إسرائيل "للإبداع الأدبي" بمناسبة احتفال الدولة العبرية هذا العام "بعيد استقلالها". لقد استنكر أدباء عرب كثيرون قبول حبيبي أعلى جائزة إسرائيلية في مجال الفن، كان هناك من قالوا أن قبوله الجائزة "سبة في تاريخه الأدبي". وكان هناك من وصفوا ما حدث بأنه "انزلاق"، و"سقطة" و"اختراق للوجدان العربي"، و"اختراق في جدار الوعي"، إلى غير ذلك من تحدثوا عن "حبهم له" وهم يعبرون عن "خيبة أملهم" و"صدمتهم"، و"ألمهم العميق". وكان هناك من قال: أن إسرائيل لم تقدر في شخصه الأدب الفلسطيني، وإنما كافأته لوقوفه ضد العراق في حرب الخليج! والحقيقة أن اميل حبيبي لا يؤخذ باستخفاف، فإنتاجه الأدبي منذ روايته الشهيرة "المتشائل"، أي المتفائل / المتشائم - عام 1974 وحتى آخر ما كتب "خرافية سرايا بنت الغول"، قد وضعه في مصاف كبار الأدباء العرب المعاصرين، وكان منذ عامين تلقى من ياسر عرفات "جائزة القدس" الأدبية، وهكذا كان أدبه موضع تقدير الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء! كما تعرض القرار الإسرائيلي بمنح حبيبي الجائزة لهجوم بالغ الحدة من قبل شخصيات إسرائيلية مرموقة الشأن في مجتمعها. وعلى سبيل المثال فقد أصر عالم الفيزياء الإسرائيلي ايفال نيمان على رد الجائزة التي منحت له عام 1969 تقديرا لإنجاز له في مجال الفيزياء، وهي جائزة ذات قيمة أدبية مماثلة لتلك التي منحت لحبيبي، احتجاجا على أن تذهب هذه الجائزة إلى فلسطيني! بل إلى مناضل فلسطيني. والمعروف أن لحبيبي تاريخا نضاليا طويلا في صفوف حزب "راكاح" الحزب الشيوعي الإسرائيلي وقد أصر نيمان على ألا يرد الجائزة وحسب، بل أن يرد معها ما أدرته من فوائد طوال الأعوام ال22 منذ أن تلقاها! والجدير بالملاحظة أن المتشبثين بالأنماط التقليدية للمواجهة على جانبي خط المواجهة هم الذين عارضوا سلوك اميل حبيبي وبالقدر نفسه من الحدة والحزم. وأن المؤمنين بأن التعايش ليس ممكنا في أي ظرف بين العرب والإسرائيليين هم الذين عارضوا. فنيمان هو أحد الأعضاء البارزين في حزب تحيا الاسرائيلي اليميني المتطرف الذي انشق أخيرا من كتلة الليكود وخرج على الائتلاف الوزاري احتجاجا على قبول شامير التفاوض مع العرب، وقد وصف نيمان أدب حبيبي بأنه أقرب إلى الأدب النازي!، وهو أدب لا يجوز في أي ظرف - على حد قوله - أن تروج له إسرائيل. ومن هنا حملت حكاية اميل حبيبي مع الجائزة معنى رمزيا عن تحولات بصدد المواجهة العربية الإسرائيلية، في جوانبها السياسية وليس في جوانب الأدب والفن فقط. لقد كان جوهر الانتقادات الموجهة إلى حبيبي أنه قبل بنوع من "التآخي" مع السلطات الإسرائيلية، في وقت ما زالت المواجهة ساخنة والانتفاضة مشتعلة وسلوك حكومة اسرائيل في المفاوضات لا ينبئ بنتائج تبرر "المهادنة" أو "المصالحة". ولكن يتعذر الادعاء بأن سلوك اميل حبيبي لا يحمل أيضا معنى "الاشتباك" و"التحرش" ولو بصورة مستحدثة تماما. ذلك أن حبيبي أعلن، بمجرد حصوله على الجائزة، منح المبلغ الذي تلقاه بكامله للمستشفى الذي يديره في غزة حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الفلسطيني في مفاوضات السلام، كي يخصص لمعالجة أطفال الانتفاضة الذين تعرضوا لإصابات وجروح نتيجة تصديهم لقوات القمع الإسرائيلية! وهكذا، ومن خلال شخص اميل حبيبي انتقلت أكبر جائزة أدبية تمنحها إسرائيل إلى أولاد الانتفاضة! أصبحت ممنوحة - ولو بصورة رمزية - للانتفاضة الفلسطينية، لأرقى ما أنتجته الثورة الفلسطينية! إن حبيبي لم يفرط وانما واجه الإسرائيليين، ولكن بغير الطرق التقليدية. فهل مجرد مصادفة أن تجري هذه الأحداث في الأسبوع نفسه الذي بدأت المفاوضات في الشرق الأوسط تتحرك من قضايا "الشكل" إلى قضايا "الموضوع"، ومن الجوانب "الإجرائية" إلى مختلف "مشاكل" النزاع ذاته؟ وأن "يتشابك" المتنازعون في حلبة السياسة بطرق غير تقليدية هم أيضا؟ ألا ينطوي ذلك أيضا على معنى رمزي؟ لقد قال الوفدان الإسرائيلي والأميركي عن آخر جولة في المفاوضات الثنائية أنها بدأت تنتج "بعض النتائج". وقد يكون من مصلحة هذين الطرفين ادعاء ذلك، ولو لمجرد أن الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية بصدد خوض انتخابات، ولكليهما "مصلحة انتخابية" في تأكيد أن مفاوضات السلام لم تكن جهدا ذهب سدى! السلوك العربي المتخلف لكن اجتمعت منذ أيام في واشنطن وفيينا وبروكسل وطوكيو وأوتاوا، اللجان المتفرعة عن مؤتمر موسكو حول المفاوضات المتعددة الجوانب، وقد بدأت هذه اللجان تناقش مختلف جوانب النزاع المتعلقة بقضايا التعاون الاقتصادي، وضبط السلاح وقضية ندرة المياه في المنطقة وقضايا تلويث البيئة وقضية اللاجئين، وقد قاطع بعض الوفود بعض هذه اللجان، ولكن اللجان أنجزت مناقشات وصفت في بعض الأحوال بأنها مشجعة، وأن بعضها تقرر استئنافه، هل يمكن الادعاء بأن مداولات هذه اللجان عديمة الدلالة؟ أفليس ذلك صورة مستحدثة من صور "الاشتباك"؟ لقد اتسمت المواجهة العربية - الإسرائيلية من قبل بصفة الاستقطاب الحاد، على غرار الاستقطاب على مستوى القمة بين المعسكرين العالميين، ولكن لم يعد واردا على المستوى العالمي، هل من الممكن أن يظل نمط المواجهة بطريق الاستقطاب المطلق، على المستوى الإقليمي؟ يبدو أن سلوك اميل حبيبي في مجال الثقافة والأدب، هو تعبير رمزي عن نموذج بديل، عن شكل من أشكال تخطي الأسلوب التقليدي للمواجهة، واكتسابها - حسب نمط غير تقليدي - صفة "التشابك" و"الاشتباك" معا، وقد اصبح ذلك أيضا يميز المفاوضات الجارية الآن. لكن هناك من يقاطع على جانبي خط المواجهة، الوفد الإسرائيلي يقاطع كلما تقرر حضور فلسطينيين من خارج الأراضي المحتلة، والوفدان السوري واللبناني يقاطعان من منطلق أن أي تقدم في المفاوضات المتعددة الجوانب لا بد أن يكون مرهونا بتقدم يتم إحرازه في المفاوضات الثنائية، وهو أمر لم يتحقق قط حتى الآن، على الأقل في ما يتعلق بهذين الوفدين تحديدا. ولكن في المفاوضات جديدا لا شك فيه، فمعظم الأطراف، أن لم يكن كلها بعد، سلم، من حيث المبدأ، بأن لإسرائيل "الحق" في أن تسهم في البحث عن مخارج لكل مشاكل منطقة الشرق الأوسط: المياه والبيئة ونزع السلاح واستحداث أشكال من "التعامل" وربما أيضا من "التكامل" الاقتصادي بين المتنازعين، وذلك فور الاتفاق على صيغة لوضع قرارات مجلس الأمن بشأن النزاع موضع التنفيذ. بهذا المعنى، فان ثمة "تداخلا" و"تشابكا" بين الفرقاء جنبا مع جوانب الاشتراك بينهم، وأن سلوك اميل حبيبي يبدو إرهاصة أولى لشيء هو في سبيله إلى التشكيل ولم تكتمل ملامحه بعد. انه يبدو تعبيرا عن نوعية جديدة من المواجهة، أكثر تهيؤا لظروف عصر مختلف، منه تعبيرا عن "تفريط" و"تخل" كما أراد البعض وصفه، أو عن "إجهاد" و"استسلام لأمر واقع" ولموازين قوى مختلة لغير صالح المقاومة العربية. وقد استعان البعض بحقيقة أن حبيبي ترك حزبه الشيوعي الإسرائيلي وقرر أن يكرس وقته وجهده كله للأدب، كي يتخذوا مما فسر "ابتعادا عن السياسة" حجة تسند تقييمهم لسلوكه. غير أنني أذكر عند آخر لقاء لي مع حبيبي في القاهرة قبل عام تقريبا، أنه صارحني في كثير مما كان يشغله، قال لي: "أنكم - وكان يعني اليسار المصري - على تباين مواقعكم متخلفون في تعاملكم مع الإسرائيليين". وأضاف: "إنني في وضع يسمح لي بأن أفتي في هذا الصدد، فلقد كنت ستالينيا، وكنت من أكثركم تصلبا وتشددا وأدركت أن التصلب في المواجهة ليس أفضل سبل لإزالة الحواجز، وكشف أفضل ما لدى الخصم، تنقيبا عن الاحتمالات الممكنة، والواردة". ولم أعط لحديث حبيبي وقتذاك ما كان يستحقه من اهتمام وتأمل، فضلا عما كان ينطوي عليه - ضمنا - من استخلاصات، ولكن يبدو لي الآن، في ضوء الأحداث التي جرت منذ ذاك الوقت، انه - ربما - أراد أن يشعرني بأن الكثير في السلوك العربي ما زال متخلفا، إذا ما كان العرب حريصين فعلا على مواكبة متطلبات العصر. ومهمة الكاتب والأديب، ربما أكثر من رجل السياسة، هي التنقيب في الذات البشرية، ومحاولة كشف فرص التعامل "الإنسانية" المتاحة، وسلوك حبيبي إنما يحمل في طياته معنى غير معلن هو أن "إصلاح" و"تقويم" الطرف الآخر وارد، ولو من منطلق إنسانية أي إنسان، وبالذات من أناس تعرضوا لاضطهاد، وبالتالي فان البحث عن "أرضية مشتركة" لا يحتمل الإغفال، والحقيقية أن الأديب أكثر حرية في هذا الصدد، ويملك أن يكون أكثر جرأة، فالجرأة في التصور والفعل جزء من شخصية الأديب، ثم هو أقل مسؤولية ذلك أنه لا يلزم غير شخصه، وقد قيل أن حبيبي بهجرة حزبه إنما ابتعد عن السياسة وأصبح رجل أدب فقط، ولكنه - ربما - لم يكن أبدا أكثر تغلغلا في السياسة وأكثر تعبيرا عما قد يكون لها من ملامح مستقبلا. ولا يبدو انه مجرد مصادفة أن تكون الريادة في هذا الصدد لمفكر وأديب فلسطيني، وبالذات من فلسطينيي إسرائيل الذين صمدوا أمام عمليات الطرد، وحرصوا على البقاء، ونشأوا في جو بالغ القسوة من العداء الإسرائيلي الذي حاصرهم من كل جانب، وتحملوا اضطهادا مروعا حتى من قبل أشقائهم العرب الذين نسوا انهم فلسطينيون وعاملوهم على أنهم مجرد مواطنين إسرائيليين. إن هؤلاء لا حل لمشكلتهم وهويتهم العربية في النهاية إلا من خلال مصالحة بين طرفي النزاع، هؤلاء هم أكثر الناس تهيؤا كي تنطلق الشرارة من عندهم في اكتشاف السبل التي يمكن بها إنجاز مصالحة مستقبلا. لقد كان هناك فلسطينيون في منظمة التحرير منذ وقت مبكر، مثل سعيد حمامي وعصام سرطاوي وعز الدين قلق وقد جاء اغتيالهم على يد فصائل أخرى داخل حركة المقاومة الفلسطينية نفسها، لأنهم استباحوا لأنفسهم أن يتكلموا مبكرا وعلنا، عن المصالحة والتعايش، بل عن إمكانية ووجوب النضال من أجل تحقيق المصالحة والتعايش. لكن ربما كان الجدير بالملاحظة أيضا هو أنه في عصر الاستقطاب الحاد، كما ممثلو فلسطينيي الخارج المتراصون في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية هم الأكثر قدرة على رفع راية فلسطين الحرة، والأكثر تعبيرا عن مواجهة لم يكن يبدو لها وقتذاك مخرج. ومع بدء عملية التفاوض انتقلت بؤرة حركة الفلسطينيين إلى "فلسطينيي الأرض المحتلة"، فهل تكون ل"فلسطينيي إسرائيل" ذاتها كلمة فاصلة في ابتداع ملامح فلسطين العربية، يوم ترفرف رايتها في الأعالي؟ *كاتب ومفكر سياسي مصري