خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    بيهيتش: تجربة النصر كانت رائعة    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    موقف ريال مدريد من ضم ثنائي منتخب ألمانيا    الاعلان عن شكل كأس العالم للأندية الجديد    القيادة تهنئ ملك مملكة بلجيكا بذكرى يوم الملك لبلاده    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة يرحب باعتماد الجمعية العامة قرار سيادة الفلسطينيين على مواردهم الطبيعية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يدعو الدول الأعضاء إلى نشر مفهوم الحلال الأخضر    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الحكم سلب فرحتنا    «خدعة» العملاء!    جرائم بلا دماء !    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    عاد هيرفي رينارد    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    علاقات حسن الجوار    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    لماذا فاز ترمب؟    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    الصين تتغلب على البحرين بهدف في الوقت القاتل    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    198 موقعاً أثرياً جديداً في السجل الوطني للآثار    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    مقياس سميث للحسد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تزور جمهورياته الست وتحاور مواطنيه - الحياة اليومية في مدن العالم الاسلامي الجديد : 2
نشر في الحياة يوم 23 - 11 - 1992


* سمرقند : خضراء أهلها كرماء وتجارها كلامهم عسل
* طشقند : رجال أعمال من كل مكان وحديث عن الكارثة
* بخارى: عائلات تبيع ماضيها وشبان يحلمون بعالم كله أغنياء
* المااتا : مافيا محلية، سيارات فخمة والدولار هو السيد
"الحياة اليومية في مدن العالم الاسلامي الجديد": هذا "عنوان" الحلقة الثانية من التحقيقات التي أجرتها ارواد اسبر، موفدة "الوسط" الى الجمهوريات الست التي يتألف منها هذا العالم الاسلامي الجديد. هذه الجمهوريات خمس منها في آسيا الوسطى وهي كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمنستان وقيرغيزيا، والسادسة أذربيجان تقع ما وراء القوقاز تشكل عالماً قائماً بذاته يعيش فيه اكثر من 55 مليون نسمة وهو، منذ استقلاله عن الاتحاد السوفياتي المنهار، يعيش صحوة اسلامية حقيقية، عميقة وواسعة، ويطمح الى بناء استقلال جمهورياته الحقيقي. وفي هذه الحلقة الثانية، تتنقل ارواد اسبر في اشهر مدن هذا العالم الاسلامي الجديد، وهي سمرقند وطشقند وبخارى في أوزبكستان والمااتا عاصمة كازاخستان وتحاور الناس فيها عن همومهم وتطلعاتهم ومشاكلهم وأمانيهم. وفي ما يأتي هذه الحلقة الثانية:
كانت التجارة في الماضي شغل أهل سمرقند الرئيسي. ويحكى أنه عندما يولد صبي يضع أهله على يده ولسانه قليلاً من العسل حتى اذا كبر صار كلامه من العسل والتصق المال بكثرة على يده. ومنذ سن العاشرة، يبدأ الولد التدرب على أصول التجارة. بعد ذلك، يسافر مع القوافل الكبيرة الى البلدان البعيدة. وقد سمعت في سمرقند هذه النادرة التي يرويها السمرقنديون عن أنفسهم: "ذات يوم في ما مضى من الزمان قال أب لابنه: كبرت ودرست أصول التجارة، فعليك الذهاب الى السوق وبيع هذا الديك بعشرة دنانير. فإذا نجحت بذلك معناها أنك تاجر ماهر. أما اذا عدت بثمانية دنانير فتكون تاجراً فاشلاً. ذهب الصبي الى السوق وأمضى نهاره يعرض ديكه للبيع، ولما اقترب المساء تقدمت امرأة وسألته عن سعر ديكه. قال عشرة دنانير. فقالت انها لا تملك سوى ثمانية، لكنه لو جاء الى بيتها تعطيه الدينارين الناقصين، فوافق، وما ان دخلا البيت حتى قرع الباب. فخافت المرأة ظناً منها ان زوجها عاد، وهي لم ترتب البيت ولم تعد العشاء. فدفعت الصبي الى الاختباء في الخزانة وفتحت الباب. وإذا بالقارع جارها وصديقها. فاستقبلته وفقاً لأصول الضيافة. وبعد ثوان قرع الباب ثانية. فاختبأ جارها في الخزانة وفتحت الباب لزوجها. أعدت العشاء وجلست وزوجها بينما كانت تجري في الخزانة صفقة تجارية. قال الصبي للرجل: سيدي، اشتر الديك بعشرة دنانير وإلا صرخت فوراً. فأعطاه الرجل عشرة دنانير وأخذ الديك. وبعد لحظات قال الصبي للرجل: أعد ديكي اليّ وإلا صرخت. مر الوقت وعاد الصبي فرحاً الى داره وقال: يا أبي، أنا تاجر ناجح، ها هو الديك وفوقه 18 ديناراً. فأجابه والده بغضب: دعني وشأني، لقد اهلكتني أنت وديكك في الخزانة".
لا يزال المغزى البعيد لهذه القصة ينطبق على واقع الحياة، والروح التجارية هي المسيطرة ليس في سمرقند وحدها بل في سائر المدن في أوزبكستان، وفي الجمهوريات الاخرى أيضاً، حيث شغل الناس الشاغل هو السعي وراء كسب المال تعويضاً عن انخفاض الأجور وغلاء المعيشة. فالأزمة الكبرى التي يواجهها سكان الجمهوريات الاسلامية الست أي جمهوريات أوزبكستان وتركمنستان، وأذربيجان وطاجيكستان وقيرغيزيا وكازاخستان وتتصدر مشاغلهم هي الأزمة الاقتصادية. ولعلها تشغلهم أكثر من السياسة وأمور أخرى. وهذا الوضع الاقتصادي المتردي وتذمر الناس منه قد يكون الفتيل الذي يفجر مسألة القوميات. وقد سبق ان حصل ذلك في وادي فرغانة في أوزبكستان، عندما قتل الأوزبك مئة شخص من أقلية "الميشخ" الجورجيين المسلمين. وكذلك في كازاخستان. فتاة في كازاخستان أجابت على سؤالي لها عما اذا كان الشباب مسيّساً اليوم إجابة تشكل دليلاً على الوضع القائم. قالت ان الشباب غير مسيّس، لا يفكر الا بوسائل كسب المال. والناس مهتمون بالبحث عن شيء يملأون به بطونهم. قالت كذلك إن شيئاً لم يتغير في الوضع. ففي الماضي كان الذي يمد يده الى الحزب الشيوعي يحصل على ما يريد. واليوم، من يملك المال يحصل على ما يريد.
هذا السعي وراء كسب المال يجيء تعويضاً عن انخفاض الاجور وغلاء المعيشة. لكن هناك أيضاً الأوهام حول الحياة في "الخارج"، في أوروبا وأميركا. وتغذي هذه الأوهام والأحلام البرامج والمسلسلات التلفزيونية الاجنبية حيث تعرض مسلسلات منها "حتى الأغنياء يبكون"، وهو مسلسل مكسيكي على نمط "دالاس"، إضافة الى غيره من المسلسلات الميلودرامية التي تستهوي شعوب العالم الثالث أو الطبقات المتوسطة. وهذا المسلسل الذي يعرض حالياً في اوزبكستان يستقطب انتباه الناس الى درجة مذهلة. لقد حدث ان خرجت صباحاً من غرفتي في الفندق ونزلت الى البهو. كان صوت التلفزيون مرتفعاً جداً، وقد تجمع جميع الموظفين أمامه، تاركين مراكزهم وأشغالهم، غير مبالين بالمفاتيح ولا بالهاتف أو الأوراق المتروكة خلفهم. وإذا احتاج أحد النزلاء شيئاً، فما عليه الا ان ينتظر انتهاء عرض المسلسل. وليس من مصلحته ان يصرّ... وهذا المسلسل يعرض ثلاث مرات في الأسبوع، يبث صباحاً ويعاد بثه مساء. وهو كارثة حقيقية كما أخبرني أحد المسؤولين الاداريين، اذ بسببه يتخلف الموظفون عن اعمالهم، ويعطون لرؤسائهم أعذاراً من قبيل "اضطررت لأخذ والدي الى الطبيب"، أو مرض ابني.
الجميع يتذمرون
سمرقند عاصمة تيمور لنغ ومحطة رئيسية على طريق الحرير هي اليوم مدينة خضراء، هادئة. الأبنية العالية قليلة فيها، وبيوتها الطينية تزينها الأشجار والحدائق. عندما زارها ابن بطوطة عام 1334، لم تكن المدارس حول ساحة الريكستان مبنية بعد. لكنه في روايته عن رحلاته تكلم عن قصور جميلة على ضفاف نهر، حيث يتجمع سكان المدينة بعد صلاة العصر، يتنزهون ويجلسون على المصاطب والدواوين. وهناك تباع الفاكهة والخضار. ويفضل ابن بطوطة أهل سمرقند على أهل بخارى، فالسمرقنديون كرماء مضيافون، خصوصاً مع الغريب.
سمرقند كانت المدينة السياحية الأكثر نشاطاً في الاتحاد السوفياتي سابقاً. هذه المدينة وحدها كانت تستقبل سنوياً خلال فصل الصيف حوالي 75 ألف سائح أجنبي وقرابة مليوني زائر من الاتحاد السوفياتي. اليوم، الفنادق خالية، والآثار الاسلامية تشهد بعض الهدوء. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي ووقوع بعض الأحداث العرقية في المنطقة، يتردد الجميع في زيارة المنطقة. ربما كان ذلك أفضل للدخول الى قلب سمرقند، لكنه طبعاً لا يناسب خزانة المدينة.
ساحة الريكستان التي تتحلق حولها مدرسة شيردور ومدرسة أولوغ بيك ومدرسة تيلا كاري، خالية تماماً من الزوار. في هذه الساحة أعلن تأسيس جمهورية اوزبكستان وانضمامها الى الاتحاد السوفياتي، في هذه الساحة أعلن استقلال الجمهورية في أيلول سبتمبر 1991. أبواب معظم المتاجر السياحية الصغيرة مغلقة. ومما يزيد من فراغ هذه الساحة هو عزلتها وانفصالها عن المدينة وحركتها، بعد ان دمرت جميع البيوت المحيطة بها واستحدثت ساحة إضافية كبيرة من الباطون.
وفي سمرقند سألت دافرون، وهو موظف في شركة "إنتوريست" المشرفة على دخول جميع السياح الاجانب وتنقلاتهم، سألته عما اذا كان سعيداً لاستقلال اوزبكستان، وما اذا كان الناس اجمالاً مرتاحين لهذا الوضع. فأجابني غاضباً أن هؤلاء المرتاحين هم قلة قليلة من المستفيدين من الوضع الجديد، وان الطبقة العاملة والطبقة الكولخوزية غير مرتاحة أبداً، وكذلك موظفي الدولة. فجميعهم يواجهون مصاعب في الحياة. وأغرقني بالمقارنات في الأسعار بين ما "قبل"، أي ما قبل البيريسترويكا، وما بعدها. فالمشاكل، بحسب رأيه، بدأت مع قدوم غورباتشوف. إذ كان سعر كيلو السكر وهو شبه مفقود، مع ان اوزبكستان تزرع الشمندر السكري 83 كوبيك، واليوم تجاوز الأربعين روبلاً. كان سعر كيلو اللحم في البازار ثلاثة روبلات ونصف الروبل. اليوم صار 83 روبلاً. واللحم غير موجود تقريباً في مخازن الدولة، التي تبقى خالية من الأغذية عموماً. أما الخبز فسعره أيضاً قفز. والخبز في أوزبكستان لذيذ، وهو مستدير مثل الكعك، واسمه "نان". أما ثمن السرير من 400 روبل الى ألفي روبل. ودافرون يتناول أجراً شهرياً يساوي ألف روبل، أي ما يعادل سبعة دولارات ونصف دولار وراتب زوجته الطبيبة 1200 روبل. وإذا اضاف راتبي ولديه اللذين يعيشان معه، يصبح مجموع الرواتب خمسة آلاف روبل. ويقول دافرون انه على رغم ان الدولة رفعت الرواتب بمقدار 7،1 مرة خلال شهر حزيران يونيو الماضي، إلا ان هذا غير كافٍ، فما ان تضاعف الحكومة الاجور حتى تتضاعف اسعار السلع أربع مرات. وتحتاج العائلة اليوم الى عشرة آلاف روبل شهرياً كي تعيش بشكل معقول. هذا علماً بأن اسعار المياه والكهرباء والغاز لا تزال معقولة، بل ظلت كما كانت عليه، وكذلك أجور البيوت المتدنية جداً، إلا انها لن تستمر طويلاً. فإلى متى تستطيع الدولة تغطية الفرق؟
يتذمر الجميع من كون مخازن الدولة فارغة دائماً وبسبب سياسة التقنين. فمعظم الانتاج الزراعي لا يصل الى مخازن الدولة، اذ غالباً ما يتم تحويله في الطريق الى السوق السوداء، والعمال الزراعيون لا يذهبون الى العمل، لأن أجورهم تصلهم متأخرة، والآلات الزراعية لا تعمل لأنها بحاجة الى قطع غيار، وقطع الغيار تأتي من الجمهوريات الأخرى. لذلك غالباً ما يفسد الحصاد في أرضه في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، إذ ليس هناك من يحصد أو يقطف، وما يحصد يختفي نصفه ليظهر مجدداً في السوق السوداء حيث يباع بأسعار باهظة. فما على الناس الا اللجوء الى البازار، حيث يجدون الفاكهة والخضار لكن بأسعار حرة. علماً بأن أهل اوزبكستان، لا سيما المسلمين منهم، كانوا دائماً يفضلون شراء اللحم من البازار لأنه لحم حلال، على عكس اللحم المبيع في مخازن الدولة. فأغلبية سكان اوزبكستان الساحقة من المسلمين، وكذلك في جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى وفي أذربيجان. أما في كازاخستان فالمسلمون يشكلون 55 في المئة من السكان.
جولة في بازار سمرقند تبين التنوع في الخضار والفاكهة خاصة. فهنا يأتي الفلاحون ويبيعون العنب الأسود والكرز والتفاح والإجاص والمشمش. كما انهم يبيعون الفستق "الحلبي" وبذور دوار الشمس ونوى المشمش المملّحة. اما البطيخ الذي اشتهرت به المنطقة، فله جناح خاص في البازار، ويباع "على السكين". ولا يتردد البائعون في دعوة الغريب الى تذوق البطيخ الأحمر أو الأصفر. ولم يخطئ ابن بطوطة عندما دوّن في رحلاته ان الشمام الخوارزمي لا مثيل له في العالم كله، شرقاً وغرباً، إلا الشمام البخاري، والسمرقندي. والباعة يضيّفونه بكرم شديد. لكن يبدو ان لا علاقة للضيافة بالبيع. فإذا ما عبرت عن رغبتك بشراء كيلو من الفاكهة، يطالبونك بمئة وخمسين روبلاً، بينما يدفع ابن البلد 15 روبلاً فقط! وما لك إلا أن تنحني امام ابتسامة هؤلاء المزارعين الشيوخ. فأنت في سمرقند، مدينة التجار الذين كلامهم عسل.
قرب البازار تحتل الششليك خانة الأرصفة، وتستوقف رائحة الكباب المشوي وششليك اللحم السمرقنديين، فيجلسون فوق الأسرة، تحت الاشجار، يأكلون اللحم المشوي على النار. أو يشربون الشاي الأخضر. والشاي لا يشرب هناك بفناجين أو كؤوس زجاجية، بل في طاسات خزفية صغيرة. يصب قليلاً من الشاي في الطاسة لتدفئتها، ثم يعاد الشاي الى الابريق، وذلك مرة أو كثر، وبعد الانتهاء من شرب الشاي وقبل السكب مرة ثانية، يرمى بما تبقى في الطاسة على الأرض، اذا كان الشارب في تشاي خانة. اما اذا كان يشرب بالبيت، فيرمي ما تبقى في طاسة مخصصة لذلك.
التغلغل التركي
وعلى رغم الوضع الاقتصادي المتردي، يكتظ فندق "أوزبكستان" في العاصمة طشنقد برجال الأعمال الآتين من باكستان والهند والسودان والمملكة العربية السعودية وسويسرا وأميركا وألمانيا. وطبعاً من تركيا. فقد فتحت تركيا اعتماداً بقيمة ملياري بليوني دولار للشركات التركية الخاصة التي تود المتاجرة مع دول آسيا الوسطى في المواد الأساسية التي تحتاجها هذه الدول. وأصدرت لوائح محددة بهذه المواد، ومنها المواد الغذائية الضرورية كالسكر والحليب المجفف والمعجنات. ويتعامل رجال الأعمال الأتراك بسهولة مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان إذ انهم يتكلمون لغة ذات أصول واحدة. ولا يقتصر الوجود التركي على التجارة، فالتلفزيون التركي بدأ ببث برامج في هذه البلدان، وإعطاء منح لعشرة آلاف طالب سيدخلون الجامعات التركية. كما ان صحيفة "زمان" التركية فتحت مكاتب في طشقند والمااتا عاصمة كازاخستان. وفي طشقند حيث اعطيت الصحيفة مكاتب في مبنى وزارة الاعلام تصدر طبعة خاصة من "زمان". الصحيفة بثماني صفحات، أربع بالتركية آتية من مكاتب التحرير الرئيسية في تركيا، وأربع اخرى تعد بأوزبكستان باللغة الاوزبكية. وقد باشرت خطوط الطيران التركي برحلات من اسطنبول الى باكو وطشقند والمااتا.
ويقول رجال الأعمال الاوروبيون ان الاتفاق مع دول آسيا الوسطى على الصعيد الاقتصادي والتجاري ليس سهلاً. فلا يزال النظام البيروقراطي قائماً، والمعاملات تجري ببطء شديد، فيما تتوجب اعادة بناء البنى الاقتصادية من جديد في تلك الجمهوريات.
ومما يزيد الأمور تعقيداً هو ان الحركة الصناعية شبه مشلولة في هذه الجمهوريات الاسلامية الست، وجميع دول الاتحاد سابقاً، بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية القديمة وتشابكاتها، وعلاقات المصانع ببعضها بعضاً. فعلى سبيل المثال، القطن الذي يزرع في اوزبكستان كان يصنّع في روسيا وأوكرانيا، لذلك فإن معظم الاتفاقيات التي تعقد الآن بين اوزبكستان والدول الأجنبية قائمة على نوع من المقايضة، حيث تأخذ الدول الاجنبية من اوزبكستان المواد الخام وتعطيها بالمقابل المنتجات المصنّعة. وقد وقّعت كازاخستان اتفاقيات لاستغلال آبار البترول مع شركات اجنبية مثل "إلف" الفرنسية. أما اوزبكستان، فقد اكتشفت فيها اخيراً ثروة بترولية لا بأس بها. لكن شركة الطيران التركية تأتي بكل رحلة من رحلاتها الى آسيا الوسطى بمهندسي الصيانة الأتراك، كما انها تجلب معها وجبات الطعام لرحلة العودة، لأنه من المستحيل تأمينها من الجمهوريات الاسلامية، حيث المواد الغذائية تنقص لدى أجهزة الدولة.
ليس التجار ورجال الاعمال الوحيدين الذين يزورون جمهوريات آسيا الوسطى وأذربيجان، هناك أيضاً ممثلو هيئات دولية كبرى يذهبون للتداول والاستشارة، وممثلون عن منظمات صحية، يستطلعون حقيقية الوضع في المستشفيات ويحاولون تحديد النقص في الأدوية والأجهزة الصحية. وقال لي ممثل عن منظمة "كير" الاميركية الانسانية ان الوضع كان مأسوياً في المستشفيات التي زارها في تركمنستان وأوزبكستان. فمعظم المعدات والأجهزة الموجودة لم تعد صالحة للاستخدام، والأدوية صارت من القطع النادر.
كارثة البحر
جمهوريات آسيا الوسطى التي عرفت بتركستان سابقاً تمتد على مساحة 4 ملايين كيلومتر مربع. فيها الجبال الشاهقة والوديان الخصبة والصحارى والواحات والسهول. كان الكازاخ والقيرغيز في الماضي من الرعاة الرحّل، لكن تم توطين الرحّل بشكل نهائي وأجبروا على الاستقرار. وكل عام تتقلص أراضي الرعاة أمام توسع الزراعة القطنية والأراضي المروية. وفقدت ترتبية المواشي نمطها الجميل، كما انها فقدت أهميتها الاقتصادية الا في ما يتعلق بالغنم من نوع كاراكول، ذي الفراء الذي تصنع منه معاطف تعرف باسم "استراخان" المرغوبة جداً. وهو من السلع المخصصة للتصدير.
ويعتبر الاوزبك أفضل الاختصاصيين في الزراعة المروية. كانوا تخلوا عن حياة الترحال في القرن الخامس عشر إثر احتكاكهم "بالسرتيين" وهي تسمية كانت تطلق على الطاجيك الذين مكثوا في الواحات في السفوح المنخفضة لجبال آسيا الوسطى منذ عهود قديمة. والأوزبك اليوم هم أولاً وأساساً مزارعون.
ويروي اوزبكستان نهران كبيران هما السير داريا والأمو داريا، والذي سماه المسلمون في الماضي نهر جيمون، وتقول الاسطورة انه واحد من الأنهر الأربعة التي تنبع في الجنة. لكن تمّ استغلال مياه هذين النهرين من أجل توسيع الأراضي المخصصة لزراعة القطن. واستغلا بشكل مبالغ فيه حتى ان مياههما لم تعد تصل الى مصبها في بحر آرال منذ سنوات، مسببة كارثة طبيعية تعد من أخطر الكوارث البيئية.
قال لي أحد المسؤولين في وزارة الاعلان في طشقند ان كارثة بحر آرال لا تهدد أوزبكستان وكازاخستان وحدهما وهما الدولتان المحيطتان ببحر آرال بل ان هذه الكارثة تهدد جميع دول الاتحاد السوفياتي سابقاً. ووفقاً لدراسات اجراها العلماء فان كارثة بحر آرال تؤثر سلباً على أحوال الطقس في العالم. ومياه الشفة في المنطقة شحيحة جداً، والأراضي باتت غير صالحة للزراعة لأن نسبة الملوحة في التربة مرتفعة جداً. والمشكلة باتت اليوم مسألة بقاء. فهناك تزايد في نسبة وفيات الأطفال، وفقدان السمك من بحر آرال. حتى ان هناك تفكيراً بتحويل قسم من مياه الأنهار السيبيرية للتعويض قليلاً عن النقص في المياه. شرط ان لا يولد ذلك كارثة بيئية جديدة.
كل ذلك من أجل زراعة القطن. وتروي الرحالة إيلاّ مايّار في مذكراتها حول رحلتها الى تركستان السوفياتية عام 1932 ان مزارعاً اوزبكياً قال لها: "لقد أعطوا أي السوفيات الأوامر بأن نزرع القطن في كل مكان. هكذا حرثت الأرض وردمت أقنية المياه في حقول الرز الموجودة منذ زمن قديم والتي منحناها عناية كبرى. ثم، عندما لاحظوا ان القطن لا ينبت بسهولة قالوا: "ازرعوا ثلث هذه الأراضي بالرز من جديد. لكن هذا مستحيل الآن، فقد ماتت جميع الأقنية".
ويتهيأ لك في طشقند أمام منظر النوافير والعدد الهائل من البحيرات الكبيرة ان ليس هناك أزمة مياه. بل أنك تنسى أزمة المياه عندما ترى الأطفال يرمون بأنفسهم في هذه البحيرات ويحولونها الى برك يستمتعون فيها بين النوافير، ويخففون وطأة الحر عن أنفسهم، في ظل المباني الرسمية الضخمة والمسارح الكبيرة والتماثيل. غير انك تبدأ بالتفكير ملياً بأزمة المياه عندما تستحم وتود إزالة الصابون عنك فإذا بالمياه... تنقطع. لا يبقى لك الا الصبر وانتظار ساعة من الوقت كي تتحرر.
كل ذلك من أجل مزيد من القطن. فقد حُولت مياه النهرين الى أراض فلحت في صحراء "الكيزيلكوم" أي "صحراء الرمال الحمراء"، أو "صحراء الجوع" كما يسميها الأوزبك. وأعطيت هذه الأراضي للسوفخوز، وجيء لها بعمال من جميع جمهوريات الاتحاد. واليوم، اوزبكستان من الدول المنتجة للقطن بكميات كبيرة، لكنها تواجه مشكلة في تسويقه، إذ ان اسعار القطن الصيني والهندي أرخص، وهناك منافسة شديدة، أميركية ومصرية، لأن نوعية القطنين الأميركي والمصري أجود. وكان قطن اوزبكستان يرسل كله الى معامل في روسيا وأوكرانيا ودول البلطيق.
اما بالنسبة الى الصناعة، فقد قال لي عضو سابق في الحزب الشيوعي الأوزبكستاني وموظف في اللجنة المركزية انه "كانت هناك تصريحات عديدة في أننا طوّرنا الصناعة في أوزبكستان. لكن الواقع ان هذه الصناعة كانت كلها موجهة الى المركز. أي ان اوزبكستان وإن حصلت على استقلالها، فهي غير مستقلة إقتصادياً. نحن دولة فقيرة جداً. كنا أغنياء مع جيراننا".
وفي كازاخستان حيث لا تزال هناك غابات عذراء يسميها الكازاخيون "مملكة الخوف" فقد حرثت السهوب التي كانت أرض البدو الرحّل وأرض الرعي والانتجاع والتي توالت عبرها موجات الغزاة الآتية من شرق آسيا، وزرعت بالقمحيات. لكنها لا تعطي مواسم جيدة كل عام.
يتزايد عدد السكان الذين يعيشون حول نهري الأموداريا والسيرداريا، كما يتزايد سكان الواحات الكبيرة ومناطق الري. فطشقند وسمرقند وبخارى هي واحات في الصحراء.
بازار بخارى : حرير وألوان
بازار بخارى السوق التجاري في بخارى يعج بالناس في الصباح الباكر، وعليك ان تشق طريقك بجهد بين حشود أهل المدينة الذين يتجمعون لمشاهدة بهلواني يسير على حبل ممدود بين عمودين.
وترى في بازار بخارى الكثير من العرسان متشابكي الأيدي بحنان كبير. ففي هذه الجمهوريات الاسلامية يتزوجون في سن مبكرة، في الثامنة عشرة إجمالاً. هو يعتمر "التيوبيتيكا" الطربوش الأوزبكي المربع من القطن الأسود والمطرز بالأبيض، وهي أعادت رسم حاجبيها بخط أسود عريض وقفلتهما. فالحاجبان المقفولان هما معيار جمال ودليل على المزاج العاطفي. على رأسها قبعة صغيرة، قد تكون مربعة أو مستديرة، ومطرزة بالخيوط الذهبية. هذه القبعة تعني انها عروس جديدة. ترتدي العروس قبعتها مدة أربعين يوماً فوق شعرها المضفور في عشرات الضفائر الصغيرة الناعمة. بعد مرور أربعين يوماً، تقام حفلة في بيت العروس، وتأتي صديقاتها وقريباتها مع الهدايا، وتفك الضفائر ويغسل شعر العروس. هذه القبعات تصنع وتطرز باليد محلياً، وتسير النساء اللواتي يصنعنهن في البازار. كل امرأة تضع على رأسها ثلاث قبعات، واحدة فوق الأخرى، وعلى الكتفين تلقي معطفين رجاليين من القطن المبطن من صنعها أيضاً، وفي اليدين تحمل مزيداً من القبعات. وبهذه الحمولة تدور في السوق، وقد احمر وجهها من شدة الحر تحت شمس قاتلة.
على البسطات تعرض ثياب من صنع الصين، لكن لا بد ان ترى قماش الالخان أطلس، وهو من الحرير الخالص المصنوع محلياً. فانتاج الحرير مزدهر في اوزبكستان التي كانت وحدها تنتج خمسين في المئة من حرير الاتحاد السوفياتي. وقماش الالخان له نقش هندسي معين خاص به، لم يتغير منذ قرون، وهو خطوط من الألوان الزاهية المتداخلة ببعضها بعضاً بحيث انها غير محددة. وحتى اليوم تخيط منه معظم النساء فساتين ومن تحتها سراويل طويلة من قماش الإلخان.
في البازار خليط من الطاجيك والأوزبكيين. فقد اكتسب الطاجيك عادات الأوزبك، وبالمقابل اخذ الاوزبك من عادات الطاجيك، خصوصاً في هذه المنطقة. والطاجيك يقطنون بكثرة في مدينتي بخارى وسمرقند. فقد كان جزء كبير من طاجيكستان الحالية تابعاً لإمارة بخارى، حتى إعادة رسم الحدود عام 1924. ويبدو انه ليس هناك أية مشاكل بين الطاجيك والأوزبك في ذلك البلد، أو حتى الآن على الأقل. وحركة البيع والشراء لا تقتصر على البازار وحده. فالناس هناك يحاولون بيع الأشياء القديمة التي خبأوها أو استعملوها في حياتهم اليومية، وغدت اليوم بمثابة تحف. وقد ظهر في السوق كثير من الفضيات التي باعها اليهود قبل هجرتهم. وتقليدياً كان اليهود هم الحرفيون الذين يشتغلون المعادن في بخارى وسمرقند. وعلى رغم موجة هجرة كبيرة، لا يزال هناك الكثير من اليهود المتمسكين ببقائهم، والذين يعبّرون بكل صدق عن حبهم لبخارى.
ودائماً تلتقي بمن هو بحاجة الى الدولارات كي يسافر الى الصين ليشتري الحاجات بثمن زهيد من هناك، ويعود لبيعها بقليل من الربح. أو من يفكر بأخذ بعض المنتجات المحلية لبيعها في ايران! فالبلدان التي انهار اقتصادها تفهم على بعضها بعضاً.
العائلات تبيع ماضيها
قد تدخل أي مكان، في أوزبكستان لشراء أي شيء، فيقول لك البائع ان لديه بضاعة أفضل في بيته ويغلق دكانه فوراً ويأخذك الى بيته. أو حتى اذا كنت تسير وحدك في الشارع وكان شكلك غريباً، قد يسألك شخص ما اذا كنت تود شراء سجادة قديمة ويدعوك الى بيته. ليس ذلك من أكثر الأمور غرابة في هذه البلاد الخارجة لتوها من النظام الشيوعي. هذا ما حصل معي في بخارى عندما اقترب مني شاب وزوجته وقال لي انني لو أردت شراء أشياء قديمة، فعنده ما قد يعجبني في منزله. فتبعته. مشينا في أزقة بخارى القديمة حتى وصلنا الى داره. دخلنا الى الباحة، ثم على العتبة خلعنا أحذيتنا ودخلنا الدار، حيث لحقت بنا والدته العجوز. كان البيت بسيطاً جداً. شربت الشاي الأخضر وفق التقاليد، جالسة على الأرض، وقبالتي رتبت الفرش فوق بعضها بعضاً، وغُلّفت بغطاء "السوزانية" وهو غطاء تقليدي ذو تطريز على رسوم كبيرة. الى جانب الفرش خزانة زجاجية فيها الكثير من الأباريق وفناجين الشاي من الخزف الصيني، وبعضها قديم جداً، موجود ضمن العائلة منذ أجيال. وعلى الحائط علقت نسخة من القرآن الكريم. وجاء الشاب بصرّة كبيرة يحملها برفق وانتباه، وفتحها بعناية وتأنٍ وأخرج منها وعاء نحاسياً كبيراً نقش عليه نص بالعربية. وأقسم لي ان جدته تقول ان هذا الوعاء قديم جداً. هكذا بدأت العائلات تبيع ماضيها وكل ما حضنته بالسر خلال سنوات، من اجل القدرة على الاستمرار، أو أحياناً من أجل شراء الامتعة الحديثة.
ولا يتردد الشبان أحياناً في بيع اقراط امهاتهن الذهبية القديمة. فكل شيء صالح للبيع، طالما انه يدر عليهم الدولار.
وفي اوزبكستان تقاليد حرفية عريقة، من حفر الخشب الى الحفر على النحاس، وصياغة الحلي، ورسم المنمنمات على العلب الخشبية. لا تزال هذه الحرف حية. والحرفيون من الشبان، يمارسونها في مشاغل عديدة موجودة إجمالاً في أبنية المدارس الاسلامية القديمة. وقد بدأ الحرفيون التحرر من نظام التعاونية، وبدلاً من ان يعطوا منتجاتهم لمخزن المدرسة، يبيعونها هم مباشرة، ويفضلون الدولار، طبعاً. فهذا يريد ان يسافر، وذاك يريد ان يتزوج، وآخر لا يثق بالروبل لأنه سمع انه لن يدوم طويلاً، وقد تحل مكانه عملة اخرى.
والى جانب الدولار، يطالبك الشبان بشيء آخر. يريدون ان ترسل لهم دعوة لزيارة البلد الذي تقيم فيه كي يستطيعوا الحصول على تأشيرة دخول. فهم متعطشون للسفر ورؤية العالم "هناك" "فهناك" حلم يرتقى. "هناك"، يعتقدون ان كل الناس اغنياء. وهذه هي الفكرة السائدة عند الجميع، حتى ان رئيس اتحاد صحافيي اوزبكستان سألني تفصيلاً، كما سأل غيري من الصحافيين الأجانب، عن الراتب وما يصرف منه سلفاً، كإيجار المنزل... لأن الصحافيين الأوزبك يعتقدون ان الصحافيين في الخارج أثرياء، يتقاضون رواتب عالية جداً. فتبين لهم العكس!
وبدأ بعض الحرفيين استعادة المخازن في بازار بخارى القديم، إلا أن معظمهم لا يزال خائفاً من تغيرات جديدة في الوضع. فذكرى الماضي لا تزال حاضرة. مثل هذا الصائغ في بخارى الذي ورث مهنته أباً عن جد. وأيام التأميم، توقف عن الصياغة واشتغل في معمل. وذات مرة، طلب منه أحدهم ان يصيغ له قرطين. ففعل، وفي اليوم التالي أوقفته الميليشيا في بيته وزج في السجن لست سنوات. اليوم، خرج من السجن، وهو يحمل علامات هذه السنوات الصعبة، إذ خرج من السجن، مصاباً "بلقوة" في وجهه وارتجاف في جسده. وعلى رغم ذلك، عاد الى الصياغة في حانوت في بازار بخارى مواصلاً مهنة أجداده. إلا انه لم يقبل ان أصوره وطلب مني ألا أذكر اسمه. فأشباح الماضي لا تزال تحوم في أذهان الناس.
المانيا في كازاخستان
بدأ المجتمع يشهد تحولات لم تحتج الى زمن طويل. فمنذ الآن أخذت تظهر طبقتان في المجتمع: طبقة من الفقراء وطبقة من الاغنياء. كل شخص في آسيا الوسطى يعرف في قرارة نفسه ان الأغنياء هم الحكاّم السابقون وبعضهم لا يزال في مسؤولياته. فالمشكلة انه ليس هناك بديل عنهم.
واعترف مسؤول سابق في الحزب الشيوعي لم يشأ ذكر اسمه، ان المسؤولين الحاليين هم شيوعيون سابقون، لكن انقلبوا بين ليلة وضحاها وصاروا من دعاة الديموقراطية.
ميخائيل روسي يعيش في موسكو، كان مسؤولاً سابقاً في الكومسومول وهو اليوم في اوزبكستان لأنه يستورد سيارات فورد الاميركية ويود بيعها. ولما سألته مذهولة عما اذا كان هناك من يستطيع دفع ثمن سيارات اميركية اجابني مستغرباً ردة فعلي، ان هناك الكثيرين، وبدا الأمر طبيعياً بالنسبة اليه.
وفي المااتا عاصمة كازاخستان باتت سيارات المرسيدس والبي.أم.دبليو. أمراً عادياً. الدولار هو السيد. هناك التقيت بأولغا، وهي شابة روسية ولدت وكبرت في المااتا وتتكلم الانكليزية بشكل ممتاز، لكنها من دون عمل الآن لأنها لا تريد ان تعمل في أية وظيفة لا تسمح لها بشراء حاجاتها الغذائية. لا تفكر أولغا بمغادرة كازاخستان، على رغم شعورها بوجود بعض "الحساسيات" بين الروس والكازاخ، لكن، حتى الآن، لا يبدو لها الأمر خطيراً. وأولغا شأن معظم الشبان اليوم، تأمل ان تحظى بعمل مع شركة أو جهة أجنبية. فالسكرتيرة في السفارة التركية في كازاخستان تتقاضى ستين دولاراً شهرياً، وهو ضعف الأجر الذي يتقاضاه موظف كبير في الحكومة. اما ساره، وهي طبيبة مختصة بالأشعة تعمل في مستشفى المااتا فتتقاضى 1500 روبل في الشهر، وهي مسؤولة عن والدتها وابنها وابنتها الذين يعيشون جميعاً معها.
ويكتشف الشبان اليوم معنى المجتمع الرأسمالي والعمل في شركات خاصة، حيث شروط العمل قاسية خاصة اذا كانت الشركة كورية، ولا توجد أية ضمانات. فلائحة المنتظرين طويلة. والكوريون موجودون بكثرة في كازاخستان خصوصاً، ويصعب تفادي مطعمهم الضخم "بالعملة الصعبة فقط". وليس من المستغرب ان تسمع المسؤول عن المطعم يتكلم بلهجة قاسية بل فظة مع العاملين.
التحولات والانفتاح على الغرب في جمهورية كازاخستان أسرع مما هو عليه في بقية جمهوريات آسيا الوسطى وأذربيجان وذلك بسبب وجود نسبة كبيرة من الروس بين السكان، وأيضاً بسبب اهتمام كبير من أميركا وأوروبا بهذه الجمهورية التي تملك مفاعلات نووية وقواعد اطلاق مراكب فضائية.
في فندق "أوترار" في المااتا افتتح منذ ثلاثة اشهر نادي "ميراج" أي السراب وهو تابع لشركة أميركية. مدير النادي أميركي حذرني من السير في المااتا ليلاً، إلا إذا كنت برفقة أهل البلد، لأن حوادث السرقات والاعتداءات كثيرة. وقال لي ان ناديه آمن لأنه "تحت حماية المافيا المحلية"، وأن هناك الحرس المسلّحين وغيرهم ممن يتقنون الفنون القتالية. طبعاً لا تتعرف ادارة النادي الا على الدولار. ويقول المدير ان بعض الزبائن هم من رجال الأعمال الأجانب، لكن هناك الكثير من السكان المحليين. ويتباهى المدير بأنه فرض الأجور التي يريدها على الموظفين.
وفي بخارى التقيت رستم وهو يعمل الآن في الاستيراد والتصدير. يحاول رستم بيع طائرات حربية من صنع سوفياتي، كما انه يؤسس شركة سياحية. ورستم هو كاريكاتور عن حديثي النعمة بسخائه المفرط وخاتمه الألماسي، وهو يعتز كثيراً لكونه يملك الدولارات، ولا يتردد أبداً بفتح حقيبته وإخراج حفنة من الدولارات إثباتاً لكلامه. كما انه فخور بيخته الخاص في أحد مرافئ بحر البلطيق، وبالعمال الثمانية الذين يعملون لصالحه على متن اليخت. ورستم هو، طبعاً، ابن أحد المسؤولين السابقين.
وهناك كلام كثير عن المافيا، خصوصاً في كازاخستان. ونشاط المافيا يدور حول تسويق المخدرات وكل ما يتعلق بالسوق السوداء، من البضائع المهربة الى تصريف الدولارات.
وتقول أولغا ان المحزن هو ان الطفولة فقدت براءتها. فالأولاد يدخلون في سن مبكرة في دوامة البيع والشراء. يحاولون بشتى الوسائل ان يبيعوا أي شيء يكسبهم بعض الربح كي يشتروا شيئاً آخر. مثل هذا الطفل في سمرقند الذي لم يتجاوز العاشرة وأراد ان يبيعني ساعة من صنع سوفياتي بعشرة دولارات، وقليلاً من الزعفران بدولارين.
وطبعاً، هناك طبقة من الفقراء. فأكثر الناس فقراً اليوم هم المتقاعدون الذين يتقاضون 500 روبل شهرياً، أي أقل من خمسة دولارات في الشهر. هذا علماً بأنهم إجمالاً في أعمار لا تسمح لهم بالعمل. وفي موسكو، هناك اعداد كبيرة من العجزة الذين يتسولون في الشوارع. لكن في الجمهوريات الاسلامية، حيث المجتمع ذو طابع زراعي وبنية العائلة لا تزال راسخة بقوة، فالوضع أفضل بعض الشيء، وقد لا تصادف متسولين.
ويعمّ جو من الحرية والمناقشات العلنية في المطاعم والأماكن العامة حول الوضع العام. وعلى رغم الانتقادات التي توجهها الى النظام السابق، الا انه ليس بوسعك الا ان تحترم الذين يعلنون جهراً تمسكهم وإيمانهم بالشيوعية، خصوصاً بعد ان ترى اولئك الذين خلعوا جلدهم بسرعة وسهولة فائقتين.
في سمرقند، دعاني سائق السيارة التي تنقلت فيها الى بيته لالتقي عائلته، كنت أود ان أرى كيف يعيش، كما وددت أن أرى بيتاً تقليدياً في سمرقند. دخلنا حارة بأزقة ضيقة جداً، حيث جميع البيوت من الطين. دخلنا من باب الشارع الذي ينفتح على باحة داخلية حولها ثلاث غرف ومطبخ. كنت أتوقع ان تكون هذه الباحة حديقة، لكن لم تكن سوى مكان وضعت فيه بعض الاشياء المكسرة والتي لم تعد صالحة للإستخدام. كانت ابنته تعمل في مطبخ مظلم، ووالدته جالسة في غرفتها. دخلنا غرفة فيها جهاز تلفزيون وكرسي وطاولة منخفضة، وفرش على الأرض. جلسنا أرضاً، وضيفني الشاي الأخضر والشمام ونوعاً من العجين المقلي المحشو بالبطاطا والباذنجان. وأدار التلفزيون، على القناة الروسية. وإذ في هذا البيت الشديد الفقر الى درجة انني خجلت من نفسي ولم أجرؤ على اخراج الكاميرا للتصوير خوفاً من ان يجرح ذلك شعورهم، في هذا البيت الفقير كان التلفزيون يقدم برنامجاً حول حياة سيدة مجتمع أوروبية، خلال تنقلاتها بين بيوتها العديدة ودور الأزياء وحفلات الكوكتيل. وكان السائق قابعاً في فقره، ينظر الى هذا العالم الذي تربى على رفضه، وإذا به اليوم يصبح هو الحلم المرتجى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.