إن أساس الفلاح في المقاومة، هو الثقة ب"الخاص"، والثقة بالنفس، وهذه الثقة هي التي تبدد الهلع، عند العرب، من رياح الحرية. فالحرية، هي التي تجعل الأجيال تقبل علينا وعلى ما عندنا باقتناع وإيمان وفداء. والحرية، هي التي ستعمل على تحشيد الناس حول ما يحسون أنه لهم ومنهم وفيهم، والناس بطبيعتهم يمقتون الإكراه ويفرون من القسر، وإذا رضخوا لهما، فهم أجساد هامدة، ودماء باردة، وقلوب شبه ميتة، وهم أقرب إلى التمرد والعصيان في السر دائماً، وفي العلن، كلما وجدوا فرصة لذلك. وفي ظل ما هو متاح اليوم لشباب العرب والمسلمين من اطلاع واحتكاك بثقافات الشعوب الأخرى، وهو كثير، هل رأينا إلا المزيد من التشبث بالعقيدة والتراث والهوية الوطنية؟!، ومهما قيل عن أسباب الصحوة الدينية، التي نلاحظها في كل مكان على خريطة العالم الإسلامي، فلا يمكن إلاّ أن يكون من أهم أسبابها: احتشاد الناس حول عقيدتهم، وحول المصير الغامض لأوطانهم وثقافاتهم، لشعورهم المتزايد بأن هذه الأشياء لهم ومنهم وفيهم، وأنها هي الهوية التي ستقيهم شر الذوبان في سواهم، وهم لا يريدون أبداً أن يكونوا سواهم. بل لعل من أسباب التطرف في تلك الصحوة، من جهة، ومن دوافع التشبث الشديد بالوطن ووحدته، من جهة أخرى، الشعور بالهلاك وبالظلم، وبطغيان الأقوياء، الذين أخذونا، ومسخونا، وهم في أقوالهم وتصرفاتهم لا يبدون أي فهم لنا، أو لثقافتنا، أو لخصوصياتنا. لا بد أن ندرك، أن الحرية، في قرننا الجديد، هي القيمة الأعلى والأقوى من حيث الازدياد والتكاثر السريعين في الفضاء الذي تشغله أو تسبح فيه. فكأن هذا القرن هو قرن الحرية، سلباً أو إيجاباً. فلم يعد هناك، اليوم، أي أهمية للحُجّاب والحراس والبوابين، الذين كانوا يسمحون بالدخول لمن يريدون، ويمنعون من ذلك من لا يريدون. الأبواب كلها أضحت اليوم مفتوحة، والنوافذ جميعها أصبحت مشرعة، ومنابر الكلام الجديدة ما تبرح منصوبة لكل من يريد الكلام. والدولة التي لا تستطيع أن تقفل فضاءاتها لصدّ القادم من الخارج هي اليوم عاجزة، أو شبه عاجزة، عن مجابهة أو مواجهة ما ينتج حتى في الداخل، وهذه هي إحدى سطوات أو سلطات الثورة الاتصالية والثقافية الجديدة، فلا حيلة ممكنة في مواجهتها، وإذا بقيت، حتى الآن، بعض الحيل القليلة فهي في طريقها إلى الزوال، لسبب بسيط، هو: أن العالم يتغير، والتقنية تتجدد، وهي ستتخلص من كل العوائق والسدود، مهما كان حجمها، ومهما كانت قوتها. وبدلاً من الانشغال بتلك الحيل القليلة الباقية، الآيلة للزوال حتماً، لماذا لا نفكر، منذ الآن، بل منذ الأمس، في إعداد الخطط والبرامج للبدائل الأجدى والأنفع والأرسخ، من أجل تنمية إعلامية وثقافية مستدامة.. طويلة.. ومن أجل بناء وحدة وطنية متماسكة.. ومن أجل الحفاظ على"الهوية"التي لا تقبل أجيالنا بديلاً عنها؟! ولنظهر نحن، أمام تلك الأجيال، بأننا نمنحها الثقة، وأننا نحن الذين نمنحها الحرية، في زمان لم تعد لدينا السلطة الكاملة عليه. زمان أصبح فيه الكاتب هو نفسه الناشر، وهو نفسه الرقيب. ومدونته الإلكترونية المشاعة، هي صحيفته، وهي كتابه، وهي منبره.. في زمان أصبح المتلقي فيه شريكاً فاعلاً في صناعة الفكرة، وفي صياغة الرسالة، فهو يقرأها، وهو يكتبها، وهو يودعها عقله ووجدانه. وهذه هي ثقافة اليوم، وثقافة الغد، الثقافة التي تمتد أفقياً، فلا تنصب على الرؤوس رأسياً، فنحن في عصر الإعلام التفاعلي الذي سيكتسح كل شيء، وفي مقدم ذلك الإعلام التقليدي. فالكل في الإعلام التفاعلي يقول.. والكل يتكلم.. ولا سلطة لأحد على أحد. وبمناسبة الإعلام التفاعلي، فقد عمدت دور صحافية في العالم، الذي أدرك حجم ما يتعرض له الكوكب من تغيير، إلى إصدار طبعات مجانية إضافية من صحفها، يقوم بكتابتها وإعدادها الناس والقراء أنفسهم، وهي تعتمد على"القصة الخبرية". وبلغ عدد هؤلاء في واحدة من تلك الصحف، في الدنمارك، أكثر من مليون"محرر". هذا فضلاً عن فتح أبوابها ونوافذها، لاستقبال المشاركات على الطبعات الأخرى للصحيفة، وعلى مواقعها الإلكترونية، ونشاطاتها الأخرى السمعية والبصرية. لقد أصبح الإعلام صناعة للجميع. وللملاحظة فإن هذه الصحيفة الدنماركية هي صحيفة محلية تصدر في مدينة صغيرة، وتحقق، من وسائطها المتعددة، دخلاً سنوياً يفوق ال 150 مليون يورو في السنة.. أي ما يوازي دخل عدد لا بأس به من الصحف الكبرى في منطقتنا العربية. نحن، أيضاً، في عصر التعليم المفتوح والجامعات والمعاهد الافتراضية، وقد نتلقى تعليمنا من مدرس موجود في ستكهولم ونحن بين جدران منازلنا في صنعاء أو القاهرة أو الرياض. وشركاؤنا في الفصل الدراسي قد يكونون، في الوقت ذاته، موجودين في أستراليا والغابون والبرازيل وبكين وطوكيو. يمكنك أن تختار المعلم الذي تريد، والعلم الذي تريد، من أي مكان تريد، من دون أن تستأذن أحداً، ومن دون أن تبرح مدينتك أو قريتك الصغيرة. نحن في عصر جعل المتحف البريطاني ومكتبة الكونغرس ومكتبات اسطنبول في متناول يدك وأنت في أقصى الشرق أو أقصى الغرب، أو في أعلى الشمال أو في أسفل الجنوب وبإمكانك أن تقرأ الواشنطن بوست أو اللوموند أو أية صحيفة أخرى كبرى تصدر في العالم، وأنت في أية جهة من جهات الدنيا. وبإمكانك أن تصنع لك أصدقاء ورفقاء في أي مكان فوق الكوكب، وتحاورهم ويحاورونك، وتتبادل معهم المعلومات والأشكال والصور، وتقول لهم ما تشاء، ويقولون لك ما يشاءون، وأنت قابع في كوخك الصغير، في مدينتك أو قريتك النائية. وهذا كله، إنما جاء نتيجة إعجاز العصر الجديد: الإنترنت والإيميل، ورسائل ال SMS أو الجوال، والبلوتوث، والترانسفير جيت الجديد. فهذه التقنيات أعطت مجدداً للمكان مفهومه الأحدث، فهو بلا أسوار أو حوائط أو سقوف. أي: أن المكان هو كل مكان، إنه في متناولك، وهو أقرب منك إليك. وها هي تلك التقنيات ذاتها جعلت للزمن أيضاً مفهومه الأحدث، فهو فوق الرياضيات والفيزياء، وهو يتداخل فيه الليل والنهار، وتتماهى فيه الساعات والدقائق والثواني، فأنت ماثل في كل اللحظات. ولم يعد من المستغرب، أو المستنكر المثير للدهشة، أن تخرج اللوموند أو الهيرالد تربيون، أو بقية صحف العالم، بالخبر الرئيس"المانشيت"في صفحاتها الأولى، عن أنباء تتردد حول صفقة فشلت عن شراء مايكروسوفت لمحرك البحث"ياهو"بأكثر من 45 بليون دولار. هذا هو الحدث اليوم: الخبر"المعرفي"، الذي احتل مكان الخبر السياسي في صحف العالم. والبطل لم يعد صانع السياسة، بل هو صانع المعرفة. والهدف الأقوى لم يعد فتح الأمصار، كما ذكرنا في مكان سابق، ولم يعد الاستحواذ على منابع المواد الخام، بل هو الغزو المعرفي، أو الغزو من أجل تعزيز الاقتصاد الجديد، اقتصاد المعرفة. وفي هذا السياق، وفي سياق المفهوم الجديد لانتقال المعرفة وتداول المعلومات، عمدت الدور الصحافية المهمة إلى إضافة بدائل جديدة إلى منتجها التقليدي الصحافة الورقية، فهي تكون On Line، ليس فقط من خلال مواقعها الإلكترونية، وإنما من خلال منتجات أخرى إذاعية مسموعة، ومسموعة مرئية، من خلال ال Web. ومن خلال الطبعات المجانية. والصحافي الحديث اليوم هو الصحافي الذي يؤدي جميع هذه الأدوار بكفاءة ومهنية عاليتين. والهدف دائماً، هو الوصول إلى الناس عبر كل الطرق، ومن خلال جميع الوسائل المتاحة. أين نحن من هذه الثورات؟ وأين نحن من هذه البحار والأنهار المتفاقمة؟! إن بناء أجيال تؤمن بالحرية والمستقبل، هو التحدي القائم والماثل لقرننا الجديد الواحد والعشرين، وهو قرن المعرفة، وقرن حرية المعرفة، وقرن سرعة انتقال المعرفة. فلم يعد من اللازم للدول التي تطمح إلى الرفعة والسؤدد وقوة السلطان، أن تبني الجيوش العسكرية، وأن تتوسع، وأن تقهر التضاريس، وأن تغير ملامح الجغرافيا. لم يعد من اللازم أن تفعل كل ذلك"لأن مفهوم القوة، ومكونات القوة، قد تغيرت. فالمعرفة، اليوم، هي القوة، واقتصادات المعرفة تعد أحد أهم مصادر الرفاه والرخاء. ولكي تصل إلى خيرات العالم، ولكي تستحوذ على نصيبك منها، لست في حاجة إلى الانتقال من مكانك، ولست في حاجة إلى اختراق صفوف المحاربين، ولست في حاجة إلى التضحية بالآلاف من أبنائك في ساحات المعارك أو في حلبات الوغى. فبدلاً من تسليح هؤلاء الأبناء بالنار والبارود ليجلبوا لك الغنائم، عليك أن تسلحهم برحيق المعرفة، سلاح العالم الجديد، فبها وحدها سيفتحون الأمصار، وبها وحدها سيتجاوزون إلى النصر، وسيوفرون الرفاه والرخاء. وللتوضيح، ولتبديد ما ينتابنا دائماً من هلع الحرية"فإن الحرية التي نقصد، لا تعني الانفلات أو الرفض أو التمرد أو الفوضى، أو ما تشي به هذه المفهومات في أقاصيها من مخاوف على مستقبل الهوية و"الخاص" والمنجز المكتمل، بل على العكس، فإن الحرية، التي نعني، هي"الثقة"، وهي"الاختيار"بوعي، وهي المساءلة والمقاربة والفحص بانضباط ومسؤولية، لمزيد من إذكاء جذوة المنجز، ولدعم الهوية، ولصقل"الخاص". فبالحرية نستطيع أن نلج بقوة مملكة الإبداع، وبالإبداع يمكننا أن نسمو ب"الخاص"، وأن نرتفع بالهوية، وأن نجعل من المنجز المكتمل أكثر إغراء، وأكثر بهاءً، وأكثر صدقية. وليس من العدل تقزيم الحرية، وليس من الحق شيطنتها أو أبلستها، أو جعلها ذات أنياب ومخالب سامة ومميتة، إن معنى ذلك، هو الحكم على الحياة بالجمود والتشرذم. ومعناه أيضاً، القضاء على العقل بالجحود والركود. وهذه ليست من حكمة الله في خلقه، ولأننا خالفنا تلك الحكمة"فقد كتب علينا، سبحانه وتعالى أن نكون اليوم تابعين مقلدين، وعاجزين عن أن نأخذ موقعنا المتقدم بين شعوب الأرض. هذا ما لدينا من حديث العولمة... وهذا ما لدينا من شروط قرننا أو عصرنا الجديد... فهو قرن يختلف عن كل ما سواه من القرون والعصور... في ملامحه، وفي أدواته، وفي تحدياته. ونقول إن وسائلنا وطرق تفكيرنا التقليدية لا تجدي معه شيئاً أبداً... ونحن في تصرفاتنا معه، وممارساتنا حياله، نطبق السياسات القديمة في"كسب الوقت"من دون أن نعي أننا في واقع الأمر نخسر الوقت!... وهو سيأكلنا إن لم نأكله... وسيلتهمنا إن لم نواجهه... بلغته، وبحساباته، وبمنهجه في مطاردة المستقبل. * رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام