8 ملاعب تستضيف كأس آسيا 2027 في السعودية    45,885 شهيدا جراء العدوان الإسرائيلي على غزة    عرض قياسي في افتتاح مهرجان هاربين الشتوي في الصين للجليد    طرح سندات دولية بالدولار بقيمة 12 مليار دولار أمريكي    مجلس الوزراء يجدد رفض المملكة وإدانتها الشديدة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي    اتفاق سوري - أردني على تأمين الحدود ومكافحة التهريب    أمانة المدينة تدشن المرحلة الثانية من مشروع " مسارات شوران "    "سلمان للإغاثة" يوزّع مساعدات إغاثية متنوعة في مدينة دوما بمحافظة ريف دمشق    136 محطة ترصد هطول أمطار في 9 مناطق    استئناف الرحلات الدولية في مطار دمشق    إي اف جي هيرميس تنجح في إتمام صفقة الطرح الأولي ل «الموسى الصحية»    خادم الحرمين يصدر أمرًا ملكيًا بتعيين 81 عضوًا بمرتبة مُلازم تحقيق على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    تعليم القصيم يطلق حملة "مجتمع متعلم لوطن طموح"    أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء جمعية أصدقاء السعودية    نائب أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشروعات التي تنفذها أمانة المنطقة    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق برنامج «راية» البحثي    التشكيل المتوقع لمواجهة الهلال والإتحاد    رئيس جمهورية التشيك يغادر جدة    لياو: شكرًا لجماهير الرياض.. وإنزاغي يؤكد: الإرهاق سبب الخسارة    "الأرصاد": رياح شديدة على منطقة تبوك    اللجنة المنظمة لرالي داكار تُجري تعديلاً في نتائج فئة السيارات.. والراجحي يتراجع للمركز الثاني في المرحلة الثانية    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2644.79 دولارًا للأوقية    عبد العزيز آل سعود: كيف استطاع "نابليون العرب" توحيد المملكة السعودية تحت قيادته؟    البشت الحساوي".. شهرة وحضور في المحافل المحلية والدولية    القطاع الخاص يسدد 55% من قروضه للبنوك    6 فوائد للطقس البارد لتعزيز الصحة البدنية والعقلية    5 أشياء تجنبها لتحظى بليلة هادئة    الذكاء الاصطناعي ينجح في تنبيه الأطباء إلى مخاطر الانتحار    سفير فلسطين: شكراً حكومة المملكة لتقديمها خدمات لجميع مسلمي العالم    وزيرا الصحة و«الاجتماعية» بسورية: شكراً خادم الحرمين وولي العهد على الدعم المتواصل    سلمان بن سلطان يستقبل اللهيبي المتنازل عن قاتل ابنته    هندي ينتحر بسبب «نكد» زوجته    النائب العام يتفقد مركز الحماية العدلية    في ربع نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين.. كلاسيكو مثير يجمع الهلال والاتحاد.. والتعاون يواجه القادسية    جلوي بن عبدالعزيز يُكرِّم مدير عام التعليم السابق بالمنطقة    بداية جديدة    أهمية التعبير والإملاء والخط في تأسيس الطلبة    ليلة السامري    محافظ الطائف: القيادة مهتمة وحريصة على توفير الخدمات للمواطنين في مواقعهم    العداوة الداعمة    بلسان الجمل    تنامي السجلات التجارية المُصدرة ل 67 %    «شاهقة» رابغ الأقوى.. المسند: خطيرة على السفن    احتياطات منع الحمل    البلاستيك الدقيق بوابة للسرطان والعقم    جهاز لحماية مرضى الكلى والقلب    وزير الخارجية يناقش المستجدات الإقليمية مع نظيره الأمريكي ومع آموس الوضع في لبنان    أمير حائل يفتتح «مهرجان حرفة»    "رافد للأوقاف" تنظم اللقاء الأول    استقالة رئيس الحكومة الكندية    صافرة الفنزويلي "خيسوس" تضبط مواجهة الهلال والاتحاد    لماذا الهلال ثابت ؟!    مكة الأكثر أمطاراً في حالة الإثنين    العالم يصافح المرأة السورية    حماية البذرة..!    «أبوظبي للغة العربية» يعزّز إستراتيجيته في قطاع النشر    الأمير سعود بن نهار يزور مركزي" السيل والعطيف" ويقف على الأسكان التنموي والميقات.    أمير الشرقية يستقبل سفير السودان ومدير الجوازات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية المعمارية، تحديات معاصرة . حمى البنيان المعاصر أو النفي المزدوج للعمارة وللهوية 1 من 2
نشر في الحياة يوم 08 - 09 - 1998

الهوية، الهوية المعمارية أحد تجلياتها البارزة، والمعاصرة، كيف أنظر، الى العلاقة بين المقولتين؟ وقد بدت لي، في عنوان هذا المحور، أنها علاقة تصادمية؟ إذ يحكمها التحدي؟ وأضيف متسائلاً التحدي المستمر. التحدي المستمر، بالتأكيد، أسارع الى الجواب.
إذ أرى المعاصرة، بأن نعيش فعلاً، في العصر الذي نحن فيه، تأثر به، ولا نبقى خارجه.
وإذ تتغير العصور مع الزمن، علينا كي نعيش العصور المتغيرة هذه، أن نتغير معها.
علينا، ونحن نواجه تحديات متجددة مستمرة، باستمرار الحياة.
علينا، أن نتجدد معها بشكل مواز، أن نتغير، أكرر، أن نشارك ونحن نتغير، في صنع المتغير، لنعيش العصر بكل جديده.
ولأنني أفهم هويتنا، أصالتنا، والصفات الأساسية التي تصنع تميزنا وفرادتنا، فنتعرف من خلالها على أنفسنا، كما نتعرف على الآخرين، دليلنا في ذلك، ما تختزنه الهوية من خصوصيات، تحدد الاختلاف.
وانطلاقاً من هذا الفهم،
أرى أن النجاح في التفتيش الصعب، عن السبل التي تجعلنا نعيش في عصرنا لا خارجه، نستوعب تحدياته، مفترضاً أن الظروف الكونية المحيطة بنا، تسمح لنا بدور ما، في صناعة العصر، أشدد هذه المرة.
* أرى أن هذا النجاح، وفي مثل هذه الظروف الكونية المفترضة، يكمن في قدرتنا على انتاج هوية متجددة، متغيرة دائماً، تنهل أبداً، في كل غني متطور تعبق به العصور المتغيرة، ونكون قد ساهمنا وان بقدر متواضع في صنعها.
* وهويتنا المتجددة هذه، ننتجها نحن، بتفاعلنا مع الآخرين، نتعرف فيها دائماً، رغم تجددها، على أنفسنا، على ما يميزنا، ويصنع فرادتنا أكرر.
* ان النجاح في هذا التفتيش الشاق عن الوسائل التي تجعلنا نعيش في عصرنا، هو إذاً، في انتاج هوية متحولة في جوهرها، يساهم الثابت التراثي فيها في صنع الحاضر، ويكون الحاضر جزءاً من التراث في المستقبل. فتكون المعاصرة بهذا المعنى، من صنع الهوية، تعبر عن تواصل ثقافي لا انقطاع فيه، ولا تناقض بين مقولاته، تراث، هوية، ومعاصرة.
ويأتي الحاضر عندها وقد ولد من رحم الماضي، يحمل بعض ألوانه والسمات.
وإذا أخذنا العمارة مثالاً، وهي موضوعنا، نقول في هذا الصدد مستطردين، كما ولدت أعمال أدولف لوز من عمارة مدينة فيينا الصارمة، أو كما طبع الطرز الباروكي الفرنسي أعمال لوكوربوزييه الأخيرة، أو كما جعل الجادرجي معهد تدريب ذوي المهن الصحية في العراق قصراً روحه من روح قصر الأخيضر.
معماريون مقاومون
في زمن الكولونيالية
الظروف الكونية التي افترضناها، العالم فيها متوازن، تسوده العدالة، أو شيء منها، يتسع للجميع، هوية، ثقافة، وخصوصية، ونحن فيه متجددون منفتحون على الآخر، شرطنا الوحيد أن نكون "نحن"، أن نكون كما نريد، دون تزمت أو انغلاق، لا كما يراد لنا أن نكون.
هذا في العالم المفترض. ولكن ماذا في عالم الواقع؟ عالم اليوم؟!
خلال قرنين طويلين، من أوائل القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، فرض الغرب الرأسمالي الصناعي على العالم بأكمله، بجبروت العقل وبإنتاجية الآلة وبالقمع المسلح، فرض الغرب الصناعي هذا رؤيته وثقافته وقيمه وخصوصياته وسٌلّم أولوياته على معظم الأمم والأوطان والشعوب، وساقها مكبلة، الى المواقع التي يريد أن تكون فيها، مفككة ذليلة خاضعة، وسمى ذلك، قيادة هذه الأمم والأوطان والشعوب، وان مرغمة، الى العقلانية، الى الرقي والتقدم، الى "الحداثة". زاعماً أنه سيجعل من كل منها، نسخة طبق الأصل عنه.
وجاء الغزو مسلحاً، إلغائياً، إلحاقياً، وان سمي انتداباً في بعض البلدان. جاء يستهدف كل مقومات السيادة الوطنية والهوية القومية.
استهدف اللغة أولاً، ومثال الجزائر صارخ، ومثلها المغرب العربي بكامله.
واستهدف المجتمع وطرق العيش والثقافة وكل الخصوصيات، واعتبر في بعض الحالات الأرض والناس، جزءاً من أرضه، ومن ناسه، وراء البحار.
لم تجابهنا المعاصرة إذاً، الوافدة مع "الحداثة اليافعة"، بتحد تقني أو جمالي فقط، علينا أن نتعامل معه من موقع المعرفة، فنفهمه ونطوعه ونستخدمه بما يرقى بنا، ولا يتنافى مع خصوصياتنا، مع أنماط حياتنا، ونحن أدرى بسبل تطويرها.
لم تجابهنا المعاصرة بهذا التحدي التقني أو المعرفي فقط، بل جابهتنا خاصة، بالإصرار على الغاء تاريخنا من ذاكرتنا، وباستبداله بتاريخ جديد، هي بداياته، وهي التي تحدد، بمعزل عنا وبتواطؤ من عندنا، مسيرته، وأهدافه.
لم تقف المعاصرة، إذاً في عالم الكولونيالية، عند هذا التحدي، لقدراتنا ولمعارفنا، بل تعدت ذلك، لتصبح وسيلة اخضاعنا لسلبنا.
وكان على معماريينا، كي يكونوا معاصرين طليعيين في المهنة وفي المجتمع، أن يكونوا مقاومين أولاً.
وعرفنا في لبنان في الثلث الأول من القرن العشرين معماريين معاصرين حقيقيين أمثال فردنان داغر، وبهجت عبدالنور، وانطون تابت وغيرهم.
إنهم معماريون مقاومون عاشوا عصرهم وكانت حياتهم خصبة في المهنة وفي المجتمع. رفضوا أن يذوبوا في خصوصيات الثقافة الغربية المسيطرة، إلا أنهم فهموا في الوقت نفسه، تقنية الخرسانة المسلحة الوافدة وهي تحبو، وأدركوا كل امكاناتها الكامنة في تحرير التصميم المعماري من قيود الهياكل الإنشائية العتيقة، مما يساعد في انتاج حيّز مبنيّ، مضياف، وأكثر التصاقاً بأنماط الحياة المشرقية عندنا. فألفوا وبنوا وأحسنوا استعمال الشفافية "الحديثة" في الواجهات، تحكي تراتبية الوظائف خلف الواجهات وجعلوا من فسحة الضوء المرنة، تنتجها الهياكل الإنشائية الجديدة، في بلاد الضوء الدائم، بلادنا، جعلوا منها نغماً مشرقياً واضحاً في انتمائه وهويته، فجاءت عمارتهم، وهي وليدة مقاومتهم، في المكان، وكأنها هناك، منذ أن كان المكان.
مقاومون آخرون في زمن الاستقلال
في مواجهة التحديات المعاصرة إذاً، أيام الكولونيالية، استطاع بعض المعماريين المقاومين المبدعين عندنا أن يرقوا بأعمالهم الى مستوى الموازاة، فنجحوا أحياناً، وأنتجوا عمارة تمردت على التبعية المفروضة علينا بقوة السلاح، فأتت عصرية جميلة، وكانت وليدة زمانها، كما أردناها نحن أن تكون، في المكان حيث نعيش، في مكانها.
نجح معماريونا المقاومون في بدايات القرن في مقارعة تحد كان في عمارة ذلك الزمن ثلاثي الأبعاد، في التقنية الإنشائية، في المفهوم، وفي الدلالة. إلا أن النجاح لم يؤسس لولادة تيار عريض مقاوم.
فالتحدي تقني في الظاهر، وهوية العمارة الجميلة يمكن تجاوزها، خصوصاً إذا ارتهنت بالسوق، وباقتصاد الريع العقاري، تحميه عندنا كما عند غيرنا رأسمالية متوحشة حليفة السلطة، وحليفة المحتل في آن.
فتراجعت المقاومة، وعمّت عمارة "الطرز العالمي الموحد" كل الأمكنة، تكرر نفسها ببلادة تملأ جيوب المضاربين والتجار، وتساهم، مع غيرها من مكونات اقتصاد الريع، في تزنير عواصمنا العربية، بأحزمة البؤس والتهميش والفوضى والعشوائية.
وإذ ازدهرت أنماط تصنيع البنيان، أثناء اعادة اعمار المدن التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وبعدها، وانتشرت، مع "الحداثة"، المواد الجديدة، يعممها منتجها المسيطر، وحليفه المحلي مروجها، فإن حسن فتحي، المعماري المصري المقاوم، لم ينظر الى المعاصرة في زمنه، بتقنياتها المنتصرة وموادها المعممة، كمعطى ايجابي بصورة مطلقة، على المصريين أن يلحقوا بها ليرقوا بطرق عيشهم وبعمارتهم.
وضع حسن فتحي معاصرة زمنه، بتقنياتها وبموادها، في الظرف التاريخي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي أدى الى نشأتها. ونقل الصورة الى المجتمع العربي المصري المكبل بالتبعية بالفقر وبالتخلف، فلم ير في الصورة هذه، المنقولة "طبق الأصل"، رافعة ترقى بعيش المصريين وبعمارتهم، بل رأى فيها أداة تساعد المحتل في تثبيت سيطرته ووسيلة مقنعة تطيل عمر تبعية مصر المطلقة للغرب الصناعي، حين تتعطل الوسائل الأخرى المكشوفة.
فنبذ التقنيات تُنقل بصورة عشوائية، وشجب المواد الحديثة تستعمل بشكل أعمى في كل مبنى وفي كل مكان. وصمم مقابل ذلك عمارة تقليدية لصيقة بالريف المصري وفلاحيه. صممها لتبنى بمواد تقليدية، فبناها الفلاحون بأيد تحسن استعمال هذه المواد، وجاءت عمارة انسانية منتمية الى ناسها ومكانها في مصر وخارجها.
وفي السنوات التي تلت كان هاجس المعاصرة الشغل الشاغل، لرفعة الجادرجي ومحمد مكية في العراق، ولبعض المعماريين في لبنان أمثال جورج ريس ووائق أديب وجوزيف فيليب كرم، وغيرهم كثر في الوطن العربي.
لم يغب هاجس الهوية، بجذرها الثقافي التراثي، عن أعمال رفعة الجادرجي فاجتهد في التنقيب عن طرق مبتكرة لاستعمال التقنيات الجديدة والمواد الحديثة في عمارته كي تأتي ابنة عصرها من جهة، وكي نستطيع أن نتعرف فيها على أنفسنا من جهة أخرى. فاستنبط لوظائف معاصرة أشكالاً مستوحاة من الماضي، من التراث، وحاول أن يأتي التأليف كما يحب أن يسميه، صهراً لروح التراث في الجديد المعاصر.
أما محمد مكية فقد سكنه هاجس الهوية في كل أعماله ولم يأنف من اللجوء الى ما قد نسميه اليوم أسلوب اللصق، أو المزج الانتقائي للأنماط، مستبقاً بعقود ما روّجه لاحقاً طرز "ما بعد الحداثة". فاستعمل بعض المفردات الموروثة، ذات الهوية الواضحة وأدخلها كما هي، أو مع بعض التعديل، في عمارته التي صيغت بروح عصره وبنيت كلها بمواد عصره وبتقنياته، فشعرنا معها بلذة التواصل بين المعاصرة والتاريخ.
أما المعماريون اللبنانيون الذين ذكرتهم فلم ينظروا الى علاقة المعاصرة بالهوية إلا من منظار المكان، بعين الجغرافيا، لا بعين التاريخ والتراث. بالعين التي تحسن قراءة الموقع، وفيه شمس البادية، ومياه البحر المتوسط الزرقاء في آن. فيه المصاطب الصخرية، وظلال أشجار السنديان والخروب، وبعضها ما زال أخضر على شواطئنا.
فبنوا عمارة أنيقة الكتل، منتظمة الأحجام، معتدلة الارتفاع، متناسقة القياسات، وأحسنوا تغليفها بكاسرات الشمس المزينة، بالنتوءات وبالشرفات، ربما استلهموها من العمارة التي أتت الينا مع "الحداثة" من بعض بلدان الأطراف الدافئة، من البرازيل والأرجنتين وغيرها.
لم توصلنا هذه العمارة الى لذة قراءة ذاتنا التاريخية فيها، وإلى حلاوة استشفاف هويتنا في تفاصيلها كما عند مكية، أو في روحها كما عند الجادرجي.
إلا أنها بدت أليفة لم تشعرنا بالغربة ولم تشعرنا التقنيات المعاصرة المستعملة فيها، بالفوقية، بالتسلط، وبالهيمنة.
الغزو المعاصر، من بوابة "العولمة"
العلاقة التصادمية إذاً، بين الهوية المعمارية والمعاصرة، بدأت باعتقادي منذ قرنين تماماً مع بدء العصور الحديثة عندنا. واستمرت خلال هذين القرنين وكان لها في كل حقبة تاريخية طابع مختلف ومميزات متغيرة.
إلا أن الثابت خلال هذين القرنين الطويلين هو أن التطلع الى المعاصرة من موقع الهوية، كما عرّفناها وان متجددة متحولة، يصبح أكثر صعوبة، كلما ضاقت الدائرة التي تصنع المعاصرة هذه، تفرضها على الجميع يتلقونها، تغير لهم حياتهم والمصير دون أن يتاح لهم أي فسحة للمساهمة في صنعها.
يصبح هذا التطلع أكثر صعوبة، لا بل مستحيلاً، كلما ازدادت الهوة بين المركز المتقدم والمتطور والمقرر وبين الأطراف الغارقة في الفقر والتخلف، يوهمونها ان لا خروج لها من هذه الهوة السحيقة إلا بالتعلق بالمطلق بحبل التبعية.
وتتساوى من هذا المنظار نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر مع نهاية هذا القرن، وما تحمله من مؤشرات عن ما ستكون عليه بداية القرن المقبل الداهمة.
فأرى وأنا القادم من واجهة الوطن العربي على البحر الأبيض المتوسط أن الغرب الصناعي، المتعدد الرؤوس واللغات، قد غزانا في أوائل القرن التاسع عشر من بوابة انهيار الدولة العثمانية التي حكمت قروناً. غزانا، فالشاً فوق ترابنا ثقافته وخصوصيته وسلعه وكل تقنياته المتطورة التي تحدد سمة العصر، تفرضها السوق حاجة حقيقية أحياناً، ووهمية غالباً.
وها هو يستمر في غزوه لنا اليوم، أميركياً، موحد الرأس واللغة والهوية، من بوابة هزائمنا وقد شاركنا في صنعها، ومن بوابة "العولمة"، بوابة الشركات المتعددة الجنسية والكتلة المالية المسيطرة على مصائر كل الناس، بالديون المشروطة بتطبيق أقانيم السوق المتوحشة وبما يسمى بالمساعدات المالية، أو بما هو أسوأ من هذه أو تلك على المستوى العسكري.
ثمة بوابة إذاً، عليها أن تبقى مشرعة، يغزونا منها قادر ما بالطريقة التي تلائمه، والغزو، لمصلحة الغازي، على مر الزمن.
"عمارة الطرز العالمي" المعاصرة
والعائد الى بيروت من باريس، أو بصورة أدق من ضواحيها، أو العائد اليها من جدة والرياض، من دبي وأبو ظبي، يرى بصمات هذا الغزو، في حمى البنيان، تستعر في كل هذه الأمكنة. ويدرك أن التقنيات المتقدمة المعاصرة قد فرضت ما يصح ربما أن نسميه "الطبعة الموحدة لعمارة اليوم" تنتشر في كل الظروف المناخية، وفي أحشاء كل المجتمعات.
إنه يدرك أن "العمارة" هذه قد تخلت عن هم استراتيجي أساسي ينتج عن موقعها عند التقاطع بين الفن البحت الصافي وتلك الحاجة الى الانتفاع بما يبنى. وهذه الحاجة هي دائماً في أساس كل طلب، في أساس كل بناء، وفي أساس كل "عمارة".
هذا الهم الستراتيجي، الناتج عن الموقع عند التقاطع بين الجميل والمفيد، بين اللذة البصرية تولدها رؤية فعل معماري حقيقي، وبين الراحة التي ننشدها ونحن نأوي اليه، مسكناً، مكتباً، مصنعاً أو مدرسة.
لم يعد الهم الستراتيجي في التأليف أيضاً، وهو وليد الموقع الستراتيجي الآخر عند تقاطع المفاهيم، يندرج في تنظيم المدى المبني، وفي تنظيم الإيقاع بين الصلب والشفاف وبين النور والظلال والعتمة.
فلم تعد الواجهات التي حررتها التقنيات، بل لم يعد غلاف المبنيّ بكامله معبراً عن وظائفه يظهر هذه الوظائف مقروءة بشفافية صادقة في معالجات الكتلة المبنية، المهم والمقرر منها في موقعه، وله وزنه وثقله، وما هو أقل أهمية، في موقع أكثر تواضعاً.
ولم تعد الواجهة، بل لم يعد الغلاف بكامله أكرر، في "الطبعة العالمية لعمارة اليوم المعاصرة"، لغة واجبها أن تحكي في الحيز العام عن علاقة المدى المبنيّ لغة تمتد عبر هذا الغلاف لتخاطب المحيط الإنساني حولها.
تركت "العمارة" كل هذه الهموم الستراتيجية وأصبحت بغلافها "زياً"، أو "ضرباً من فنون صناعة الألبسة الراقية".
"فعمارة اليوم" موحدة الزي، واحدة اللباس، كما صبايا اليوم تماماً وقد فرضت السوق عليهن لباساً موحداً، السروال الأسود الممشوق، والسترة السوداء المختصرة تغطي أعلى الجسد، والصندل الغليظ الملون، والشعر الأشعث المتمرد. فرضت السوق عليهن أينما وجدن على سطح هذا الكوكب زياً موحداً اختزنه بما يشبه الحرية، أو بشكل أدق بما يعتقدن أنه الحرية الكاملة.
والشعور بالحرية، أو الشعور بوهم الحرية هذا، عند الاختيار، هو أحد مميزات السوق التي تتحكم بها وسائل الاعلام المرئية خاصة.
"فالطبعة العالمية لعمارة اليوم المعاصرة"، مزهوة بوهم حريتها في اختيار شكلها وزيها هي، كالصبايا في أيامنا، نحيلة، عامودية، ممشوقة، كما يقولون.
وزيها الموحد هو زجاجي في الغالب، أسود اللون، داكن.
إنه أملس كالجلد، إنه جلد "العمارة".
وهو قناع كاذب يحجب خلفه شبكات معقدة فيها عصارة معارف اليوم في معظم الحقول، أين منها تعقيدات أجهزة الكائنات الحية تحت جلدها الأملس، تعقيدات الجسم البشري تحت جلده. وكأن في الأمر مقاربة متناقضة لفهم العمارة قائمة على بساطة فاقعة في الغلاف، وتعقيد بالغ في كل ما يلفه هذا الغلاف.
أو أنها مقاربة واحدة لكل ما تنتجه التكنولوجيا المتقدمة المعاصرة، مهما كانت استعمالات هذا المُنتج بضم الميم وفتح التاء.
من السيارة المعقدة الأحشاء خلف غطائها الأملس اللماع. الى الطائرة المطمئنة بمظهرها، ونحن جالسون في مقاعد المسافرين، المفزعة بتعقيداتها عندما نكون في قمرة قائدها.
غلاف "العمارة المعاصرة" هو قناع كاذب مهما كانت المقاربات في محاولة فهم هذه "اللغة المعولمة"، إذ أنه لا يكتفي بحجب الشبكات المعقدة خلفه، بل غالباً ما يحجب الوظيفة أيضاً.
فهذا المبنى النحيل القامة، الممشوق القد، الأملس الجلد، هو مكاتب تارة، ومنازل تارة أخرى، معاهد تارة، ومخازن للكتب تارة أخرى، قاعة للمطالعة، صالة للرقص، أو مصنع.
* عليك في منزلك الزجاجي الغلاف، أن تستبدل قطعة كُسرت بأخرى تحمل ذت الرقم، لأن الرقم طريقك الى قطعة الزجاج المناسبة.
* وعليك إذا التهمت أشعة الشمس الحارقة صفحات الكتب في المستودعات الزجاجية، أن تعمد الى حمايتها بكواسر للشمس من الخشب، تضعها في الداخل خلف الزجاج.
* عليك إذاً أن تعالج كل المشاكل التي ينتجها الغلاف في الداخل عندك، خلف الزجاج، الجلد، القناع، كي يبقى الجلد أملس، لماعاً، يبهرك من الخارج.
* وعليك في الوقت نفسه أن تدرك أن لهذا الجلد الزجاجي المتعدد الوظائف وظيفة مهمة أخرى هي كونه قبل كل ذلك خدعة.
* فهو خدعة توحي بالعمارة العابرة، توحي ببقاء مؤقت في موقعها.
كل شيء هو عابر في هذا العالم، يقول المنظرون، كل شيء في البنى وفي القناعات هو مهتز اليوم وغير ثابت، نخشى أن يستقر على أسس ربما كانت غير سليمة.
فلماذا تريد أن تظهر عمارتك ثابتة، راسخة في الأرض، وكأنك تريدها أن تنتقل شهادة من زمنك الى الأزمان المقبلة، هدية من جيلك الى الأجيال القادمة؟
* الزجاج اللماع ملصوقاً على "المكعب المارد" من الخارج يجعل هذا "المارد" يختفي في محيطه، في الحيز المبني الذي ينعكس على مراياه متكسراً، متردداً، فيختلط كل شيء في هذا الانعكاس الجميل، وتمر أمام "المارد" فلا تراه، بل ترى الحيز معكوساً على مراياه، فيتسع الحيز الصغير، ويبدو الشارع الضيق فسيحاً. كما أن المرايا حين تغلف "مارداً" في حيز قذر، تجعل الحيز يبدو نظيفاً، إذ تضيع القذارة وسط الألوان المنعكسة، متكسرة، في المرايا.
الإبهار والغواية
على "العمارة المعاصرة" إذاً، وقد أضحت غلافاً يقنّع أحشاء، وغطاء أملس يغلف تقنيات حساسة عالية الكفاءة، سريعة العطب، صيانتها صعبة، مكلفة، تتطلب مهارات عالية، على العمارة وقد أصبحت من هذا المنظار سلعة، عليها كالسلع الأخرى أن لا تعمر.
عليها أن تُستهلك، فتُستبدل بسرعة، وعلى التقنيات أن تستبدل دائماً الأساليب الإنشائية بأخرى مختلفة، والمواد المستعملة بغيرها، وذلك كي يستمر الإنتاج. وعلى السوق أن تنظم كل ذلك.
ورأس المال المزهو في "العمارة" يكتفي بإعادة انتاج نفسه، فتعكس العمارة بوقاحة قوة رأس المال منتجها.
وكل مُضاف، عن طريق التزيين أو التجميل، هو لتأكيد أحادية قانون السوق، وتأكيد سيادة رأس المال.
إلا أن عمارة الغلاف، الجلد، القناع، الخدعة، لا ترفض الزينة رغم غطرسة رأس المال الذي ينتجها منمطة، مكررة خالية من أي تعبير. فلباسها الموحد، وهو زجاجي داكن اللون غالباً، يطرِّز بنسب مختلفة، وبمواد متنوعة.
إنه يطرِّز بالغرانيت، أو بصفائح معدنية، متقاربة اللون كلها، معلقة على خطوط أفقية تزنر كامل المبنى، لا فرق أين تمر هذه الخطوط الفواصل، في عرض النافذة، أو في منتصف الجدار الزجاجي، في زجاج المدخل الرئيسي أو في ألواح الغرانيت المعلقة. المهم أن تستمر الخطوط الأفقية تزنر المبنى.
إنها علامات مهمة تدل على "الزي"، على "الموضة"، على التقنيات الحديثة في اللصق والتعليق، وقد فرضتها السوق حاجة إنشائية في غالبية الأعمال المعمارية المعاصرة.
وتتعدى هذه الخطوط الأفقية في تتابعها دور الأقنية الحاملة، لتساهم في تطريز الغلاف، فتخطو معها عمارة الطرز العالمي المعاصرة خطوة حاسمة نحو الإبهار المزيف.
فالعمارة هذه، ليست لماعة بمراياها العاكسة فقط، بل ان كل ما فيها، وهو معلق على هذه الخطوط الأفقية، هو لماع.
وكالغانية غطت وجهها، وكل ما ظهر من جسدها بالمساحيق وبالملونات، تحاول عمارة الطرز العالمي المعاصرة أن تغوي، فنقنّع الهيكل الخرساني الثقيل بالزجاج، وتعلّق الخشب الملون وسطه لمزيد من الزينة، وتبالغ أحياناً فيتزيين الغلاف الأملس، بالإكثار من المواد المتلاصقة المتجاورة، والمعلقة كلها من الخارج.
الغرانيت، الألواح المعدنية، الخشب، الزجاج، الزجاج نافذة، والزجاج غطاء للخرسانة، والزجاج معتم، والزجاج مضاء، والزجاج ثابت ملصوق دون إطار، والزجاج بإطار متحرك يسمح بدخول بعض الهواء.
* المقالة مساهمة رهيف فياض، المعماري اللبناني، في ندوة "العمارة العربية الإسلامية المعاصرة وإشكالية الهوية" التي تعقد في عمان بمناسبة المؤتمر المعماري الأول لنقابة المهندسين الأردنيين، وقد باشر المؤتمر اعماله يوم أمس الإثنين 7 أيلول سبتمبر، وسيستمر حتى العاشر منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.