نحن وشعوب أخرى كثيرة تعيش وهماً لا بد من تبديده لكي يأخذ نشاط التنشئة وأعمال التربية وجهود التنمية واهتمامات التعليم مسارات أخرى مختلفة تنتهي كلها بنتائج إيجابية تهيئ المجتمع بأن يستجيب للإبداع وأن يتقبل الأفكار الخلاقة ويتفاعل معها ويستجيب لها فلا بد أن ندرك أن إبداع الأفراد في أي مجتمع لا يستجاب له سيبقى من دون نتائح ايجابية، فالنتائج مشروطة حتماً بالتكامل العضوي بين الإبداع والاستجابة له... كان طاليس رائداً في التفكير الحر الخارق وكان اليونانيون الأحرار رواداً في الاستجابة الايجابية الخارقة وبهذا التكامل العضوي بين الريادة الفردية والاستجابة الاجتماعية صار اليونانيون طليعة التطور الحضاري الذي يعيشه العالم اليوم إننا ككثيرين غيرنا نتوهم أن ظهور أفراد مبدعين يؤدي إلى ازدهار المجتمع مما يجعل الاهتمام والجهد يتجهان في مسارات غير مجدية، فما أكثر ما يتردد الحديث في مجتمعات مختلفة كثيرة عن الاهتمام بالموهوبين والاعتقاد بأن فقدانهم هو السبب في تخلف المجتمعات وهذا الاعتقاد ناتج عن غياب إدراك أن العامل الأهم في عمليات التطور الحضاري هو الاستجابة الايجابية للإبداع وبذلك فإن ربط التطور بالموهوبين يفعل هذه الحقيقة الأساسية الكبرى فالطائر لا يطير بجناح واحدة والعداء لن يدخل سباقاً بساق واحدة، وإنما لا بد له من ساقين سليمتين وهما هنا: الإبداع والاستجابة له، فليس العامل الأهم للتطور الحضاري هو وجود أفراد مبدعين أو ظهور رواد خارقين، بل إن التفاعل العام الايجابي مع الإبداع والاستجابة الايجابية الاجتماعية الكافية للريادة هي الأكثر أهمية لأنها هي الأندر حضوراً، بل الأدوم غياباً، أما الإبداع الفردي فلا بد من ظهور ما يكفي منه... إن التاريخ والواقع كلاهما يشهد بأن المبدعين والرواد يظهرون في كل المجتمعات فإن لم يظهروا في جيل فسوف يظهرون في جيل آخر لاحق، ولكن الإعضال الحقيقي في الماضي والحاضر وفي كل العصور وعند جميع الأمم هو رفض الريادات الخارقة وتعاقب الرواد من غير أن يستجاب لهم لأن تلقائية الانتظام على أي وضع قائم تملك آليات قوية جاهزة للمقاومة والرفض والإقصاء وبسبب ذلك جرى وأد وإهدار الريادات الخارقة على امتداد العصور، أما قدامى اليونانيين فقد كانوا استثناء فريداً وعجيباً، فالفضل الأكبر فيما يعيشه العالم من تطور هائل يجب أن يُنظر إليه بأنه نتاج التفاعل الإغريقي الايجابي الجياش مع الرواد والاستجابة العامة العارمة للأفكار الخلاقة، أما الريادة الفردية فيتكرر ظهورها في كل البيئات فريادة طاليس الملطي هي من دون شك ريادة خارقة مذهلة ليس فقط بمعيار عصره ولا على مستوى وطنه وإنما هي ريادة خارقة بمعايير كل الأزمنة والأمكنة، لقد أيقظ العقل الإنساني وغيّر طريقة استخدامه وبدّل منهج التفكير ونوّع مجالات الاهتمام ،وارتقى باتجاه ومستوى المعرفة الإنسانية، وانتقل بالنشاط المعرفي من الترديد الساذج إلى التفكير الناقد، وما زالت الدنيا تستجيب لأصداء فكره الخارق ليس ترديداً لأقواله وإنما استخداماً متنامياً لمنهجه العقلاني النقدي... ولكن رغم هذه الأهمية العظيمة لريادة طاليس فإن الاستجابة العامة الايجابية له والتفاعل الإغريقي الايجابي مع فكره هو الأعظم أهمية، إن الاستجابة الايجابية أدّت إلى تجسيد الأفكار وتقديم النموذج العلمي لها وتحويل محتوى المفاهيم الجديدة إلى سلوك تلقائي وتوسيع دوائر النشاط والاحتفاء بالابداع وتنويع مجالات الاهتمام وخلق وعي جديد فريد بالقابليات العظيمة الكامنة المعطلة في الأفراد، إن تلك الاستجابة وذلك التفاعل قد خلق في الجميع وعياً جديداً بالنفس وامكاناتها ومآلاتها وبالمجتمع وتنظيمه وبالعالم وقوانينه وبالعلاقات الخفية بين عناصر وأجزاء ومكونات الوجود ولولا ذلك لغاب طاليس من دون أن يترك أي أثر كما غاب رواد كثيرون في مجتمعات مختلفة على امتداد التاريخ الإنساني كابدوا أعمالاً ريادية عظيمة لكنهم قضوا من غير أن تستجيب لهم مجتمعاتهم فطواهم الزمن الذي لا يرحم واندثرت أفكارهم الخلاقة أو بقيت مطمورة حتى جاء من يحييها بعد أزمان سحيقة من الإهمال والاستخفاف والرفض ،أو ربما اندثرت إلى الأبد. فما أكثر الرواد الخارقين الذين ماتوا واختفت آثارهم بسبب الرفض التلقائي للتغيير والمقاومة العنيدة المستمرة للأفكار الطارئة الخلاقة وربما جرى إحراق كتبهم وازهاق أرواحهم ومنع أفكارهم من الوصول إلى أسماع الناس أو التأثير على عقولهم أو استمالة عواطفهم... أما اليونانيون فقد كانوا فريدين في ذلك العصر فقد كانوا شعباً استثنائياً في حبه للحرية وحرصه على الفردية وإيمانه بالتفرد، وشغفه بالمعرفة، ومرانه على النقاش العام والحوار المفتوح، مما أكسبه ذلك التميز الخارق، وكانوا بذلك مغايرين لكل الأمم في تلك العصور، ففي الجزء السادس من كتاب (قصة الحضارة) يصف ويل ديورانت الشعوب التي كانت في ذلك الزمن تحيط باليونان أو تتحارب معها من أجل تدمير حضارة لا تفقه لها معنى ثم يقول: «وقلما كانت هذه الأمم المحيطة ببلاد اليونان تهتم بما كان يعده اليونانيون جوهر الحياة وأغلى ما فيها إنها الحرية: حرية الحياة الفكرية والقول والعمل وكان كل شعب من هذه الشعوب المحيطة باليونان يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين ويسلم أرواح بنيه إلى الخرافات والأوهام ولا يعرف إلا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية، وهذا هو السبب الذي جعل اليونانيين يطلقون عليهم اسم البرابرة أي الهمج، فالهمجي في اعتقادهم هو الذي يرضى بالاعتقاد دون تفكير والذي يعيش مسلوب الحرية»، إن الحرية كقيمة جوهرية عليا وكمحور أساسي للحياة الفردية والاجتماعية والسياسية هي التي ميزت اليونانيين عن غيرهم، فلقد افسحت المجال للجدل العقلاني المحتدم فأطلقت طاقات العقول وأججت الرغبة في المعرفة وفتحت للإنسان من الآفاق ما لم تعرفه الدنيا من قبل مما جعلهم في عصر ازدهارهم حالة استثنائية فريدة باهرة بين كل الأمم في جميع الأقطار فقد جسدت اليونان بحرياتها الناضجة الفريدة وباستجابتها للريادة الخارقة سطوعاً هائلاً وسط ظلمات الجهل والغبطة به والدفاع المستميت عنه فالجهل المركب هو الحائل الأكبر الذي يعوق إصلاح الدين والدنيا في كل الأزمان .لكن اليونانيين أتاحت لهم الحرية في عصر ندرت فيه الحرية أن يتعرفوا على طبيعة هذا الجهل التلقائي المزمن وأن يدركوا منابعه ففتحوا عقولهم للتخلص منه والعمل الجاد من أجل الحصول على الحقائق بالوسائل التي كانت متاحة، ولكن الأهم منهج التفكير وإدراك مصدر الخلل في الثقافات البشرية... وأكبر شاهد على أن سر التقدم يكمن في الحرية وسيادة القانون وأن الانغلاق يؤدي إلى التدهور أن أولئك اليونانيين الباهرين الذين انجزوا حضارة استثنائية مازال العالم يعيش امتداداتها، لكن هذا الشعب ذاته حين اعتنق الارثوذكسية وزهد بقيمة الحرية وتخلى عن الفردية وتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة فإنه قد انغلق عقله وانكمشت اهتماماته وتبددت طاقته الخلاقة وانحرفت عواطفه وانحسر نشاطه وتوقف الإبداع عنده فانشغل بالتكرار والتبرير فتدهورت أوضاعه تدهوراً فظيعاً وهذه الحقيقة تنفي دعاوي التميز العرقي وتحصر عوامل التفاوت بين الأمم بالاختلاف الثقافي، فالثقافات المنغلقة التي تدعي الكمال وتكتفي بالاجترار تبقى ثقافات معاقة حضارياً وتظل تدور في ذات المسارات العتيقة فالشعب اليوناني الذي كان ضوءاً باهراً في عهد الانفتاح صار منطفئاً تماماً حين تحجّر بالانغلاق. إن أوهام الكمال التي تؤدي إلى الانغلاق في كل الأزمنة والأمكنة تمنع المتخلفين تلقائياً من أن يستجيبوا للأفكار الطارئة الخلاقة فحين فوجئت الصين بطلائع الحضارة الحديثة الظافرة عن سواحلها لم يكن هذا الحدث المدوي قادراً على إيقاظ الامبراطور الصيني الممتلئ بأوهام الكمال والاكتفاء فلم يكن ذلك الحدث الضخم المفاجئ كافياً لإشعاره بأن تغيرات مهمة نوعية قد حدثت في العالم بل بقي غارقاً في أوهام الكمال والاكتفاء فقد اعتقد أن أولئك الطلائع قد جاءوا للتعلم من الصين ولم يكن مستعداً بأن يبذل لهم حكمة الصين التي كانت في نظره أثمن من أن تبذل للأغراب لأنه يعتبرهم من الهمج الذين لا ترغب الصين في تعليمهم ما تعده امتيازاً تنفرد به عن غيرها من الأمم فحكمة الصين هي في نظرهم أعصى على الأغراب وأعلى من أن يفهموها وأثمن من أن تبذل لغير أهلها، كما أن هؤلاء الذين يعتقد الامبراطور أنهم همج لن يستطيعوا استيعاب حكمة الصين أو الارتقاء إليها... ولم يكن الوهم الصيني نشازاً وإنما هذه طبيعة الثقافات التقليدية المغلقة فهي في كل زمان ومكان تتوهم أنها كاملة كمالاً مطلقاً وأنها ليست بحاجة إلى أي فكر من خارجها لذلك اعتادت أن تغلق وأن تسخر من الثقافات الأخرى، فحين زار الحكيم الإغريقي الشهير صولون مصر في القرن السادس قبل الميلاد سخر منه أحد الكهنة المصريين وقال له: (إنكم أيها الإغريق لا تزالون أطفالاً ثرثارين مغرورين لا تعرفون شيئاً عن الماضي» هكذا يفكر التقليديون في كل الأزمان والأوطان إنهم يريدون أن يستمر الدوران على نفس النمط وبنفس الوتيرة في تعاقب يتكرر كتعاقب الليل والنهار وانتظام لا يتغير كانتظام شروق الشمس وغروبها، أما التطور والتقدم والتغيير فهي في نظرهم ثرثرة الفارغين وعبث الأغرار المغرورين... ولكن الإغريق الأحرار كان لهم مع الريادات الخارقة شأن مختلف كلياً، فمع ظهور رائد الفكر الحر ومؤسس الفلسفة (طاليس الملطي) الذي عاش في الفترة (640 - 546) قبل الميلاد فإن الإغريق بالتفاعل الجياش مع أفكاره وبالاستجابة له صاروا موعودين للنهوض بدور المؤسس العظيم للحضارة الغربية وامتداداتها المعاصرة ثم إلى بقية أقطار الأرض، وهكذا تأهلوا باستجابتهم العارمة لدور عالمي مجيد فكانوا طليعة هذه التطورات الحضارية المدهشة بسبب قدرتهم على الاستجابة الايجابية للريادة الفردية الخارقة. فبهذه الاستجابة تحقق التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة... كان طاليس رائداً في التفكير الحر الخارق وكان اليونانيون الأحرار رواداً في الاستجابة الايجابية الخارقة وبهذا التكامل العضوي بين الريادة الفردية والاستجابة الاجتماعية صار اليونانيون طليعة التطور الحضاري الذي يعيشه العالم اليوم ومع أن هذا الدور الطليعي العالمي الاستثنائي تأخر تأثيره الحاسم على عموم العالم تأخراً شديداً بسبب أنه سابق لعصره سبقاً لا يمكن اجتيازه إلا أنه ظل يتفاعل تحت رماد العصور الوسطى حتى اشتعل عصر النهضة في إيطاليا ثم امتد منها إلى بقية القارة الأوروبية كان عصر النهضة الذي جسده بترارك ودافنشي وانجيلو ورافايل وغيرهم يمثل ولادة جديدة لجوانب من الإبداع الإغريقي ،ثم تحقق استكمال الجوانب الأخرى في أقطار أوروبية أخرى. لقد استيقظ الإيطاليون من سباتهم الذي فرضته عليهم الكنيسة فأدركوا بأن جذوراً مطمورة كانت تصلهم بإشعاع عظيم باهر أخمده استبداد وانغلاق العصور الوسطى فراحوا بعد اليقظة ينبشون التاريخ ويزيحون الركام عن تلك الجذور العظيمة ولكن هذه قصة أخرى سيكون لها حديث آخر لأننا الآن بصدد الحديث عن رائد الرواد في الفكر الفلسفي وعن التفاعل الجياش الذي أحدثه هذا الرائد في المجتمع الأغريقي ثم عن الاستجابة العارمة التي قوبلت بها هذه الريادة فأثمرت تلك الطفرة الحضارية الاستثنائية الفذة غير المسبوقة... إن إشراق الفكر الفلسفي في القرن السادس قبل الميلاد ثم نجاحه الباهر في صبغ حياة المجتمع الأثيني والمدن التي تدور في فلكه كان حدثاً حضارياً استثنائياً فريداً ولقد بلغ من فرادته أن عدّه الكثيرون بحق معجزة ذات تركيب نوعي مذهل يصعب تفسيرها أو تحديد أسبابها أو حصر العوامل التي أسهمت في انبثاقها بكل ذلك الثراء والتنوع والنضج والإبهار... وقد انطلقت شرارة ذلك الضوء الباهر بفرد رائد استيقظ عقله فاتجه إلى إيقاظ قومه واستخدم في سبيل هذا الإيقاظ وسائل مقنعة، إن طاليس أثبت للناس أنه بالاستخدام السليم للعقل البشري وبكسر تلقائية الغبطة بما هو سائد وبوضع البداهات التلقائية موضع المساءلة والتحقق وبتنظيم الفكر والجهد والوقت يستطيع الإنسان أن يطور قدراته وأن يحصل على مكاسب كبرى في حياته ومعاشه كما أنه بذلك يستطيع أن يعرف الكثير من الظواهر التي كانت تربكه وتحيره ،وواتاه الحظ بمثال حي وضخم ونموذجي ،فعن طريق الرصد والحساب الدقيق عرف بأن الشمس سوف تكسف عام 585 قبل الميلاد وحدد الموعد باليوم والشهر والسنة وأعلن ذلك للناس كما أعلن أن مثل هذه المعرفة سهلة ومتاحة لكل متابع مهتم وعن ذلك يقول هرنشو في كتابه (علم التاريخ): «.. والحق أنه عندما قام طاليس الملكي فتنبأ بكسوف الشمس في عام 585 قبل الميلاد وتحقق تنبؤه كان ذلك إيذاناً بمفتتح عصر جديد في تاريخ تحرر العقل البشري لقد تملك الإغريق من ذلك اليوم شغف بالحقيقة وكانت شؤون الجنس البشري أول موضوع انصب عليه ظمؤهم الذي لا يرتوي إلى الاستطلاع فطوفوا في الآفاق ودرسوا مدنيات الشرق القديمة واستثاروا أسرار الماضي ولم يقر لهم قرار دون الوصول إلى تفسير معقول للأشياء...» لم يستخدم معرفته للدجل والإيهام بأنه يمتلك الأسرار دون غيره بل دعا الجميع إلى إعمال عقولهم من أجل التخلص من الاستسلام لما نشأوا عليه من تصورات خاطئة وخرافات تشل العقل والفعل ولن يكون ذلك إلا بملاحظة الظواهر والبحث عن الأسباب والتعرف على العلل والتوصل إلى القوانين التي أقامها الله لتحكم حركة الكون والحياة والإنسان والمجتمع... لكن الناس لاحظوا أنه غير مهتم بما يتكالبون عليه من ثراء ونفوذ وسلطة وملذات وبلغ من استغراقه بالتأمل وانشغاله بالمعرفة أنه عزف عن الزواج فكان لا بد أن يثبت لهم عملياً بأنه لم يترك كل ذلك عجزاً وإنما تركه لأنه يراه لا يستحق الاهتمام ،أما الملذات فإن المعرفة هي اللذة الحقيقية الدائمة المتجددة ولكن عنايته بالتغيير جعلته يثبت لهم عملياً أنه قادر على المنافسة والكسب وتحصيل الثراء لو أراد فانتهز فرصة لم ينتبه لها غيره واستأجر كل معاصر الزيتون فجاء الموسم وفيراً فحقق كسباً كبيراً لفت نظر الجميع وبذلك أثبت لهم أن المعرفة ليست فقط مطلوبة لذاتها أو لكشف قوانين النفس والكون والمجتمع وإنما أيضاً هي السبيل للكسب والثراء فجاء التأثير عاماً وقوياً امتد إلى كل جوانب الحياة المعرفية والاجتماعية والسياسية والأدبية والتشريعية والسلوكية مما سوف نتناوله في مقالات لاحقة وبذلك تحقق ذلك التغير النوعي الذي عاشته اليونان في القرن السادس والخامس قبل الميلاد... إن ذلك التأسيس المتين الرائع لحضارة الغرب القائم على البحث والاستقصاء والتحقق والانفتاح الدائم والتصحيح المستمر هو الذي جعلهم يثقون بقدرة الإنسان على التعلم والتقدم كما آمنوا بقدرته على الكشف عن أعقد الظواهر بشرط أن يتوفر الاهتمام القوي المستغرق وأن يستخدم الإنسان عقله استخداماً منظماً ومنهجياً مضبوط الخطوات، كما صاروا يؤمنون بأن كل جيل لاحق ينبغي أن يكون أعلم من الأجيال السابقة له فكل جيل يستوعب ويهضم معرفة السابقين ويضيف إليها ما اكتسبه هو من معرفة وبذلك يكون كل جيل قادراً على أن يصير أعلم من الجيل الذي سبقه فتتراكم المعرفة، وينمو العلم، وبهذا التكوين الثقافي العلمي اعتاد الأوروبيون أن يبحثوا عن علل مفهومة للظواهر ،كما اعتادوا الجهر بما يتوصلون إليه من نتائج، فإذا عثر الباحث على أي كشف فإنه لا يخفيه أو يدعي أنه وحده يعرف الأسرار الكونية، بل يتواصل مع غيره من أجل التشاور ولا يخفي كشفه مهما بلغت أهميته، بل يعلنه للناس ويجهر بالمصدر الذي هداه إليه ويشرح المنهج الذي استعان به ،وينوه بالناس الذين سبقوه أو أعانوه ولا يدعي أنه يملك سراً خاصاً به لا يستطيع الآخرون امتلاكه،بل بالعكس يؤكد للناس بأنهم قادرون بالاهتمام القوي المستغرق وبالمران وبدقة الملاحظة وبتنظيم الجهد على الاكتشاف والفهم المغاير للمألوف فالعلم البشري سلسلة من الفتوحات المتاحة للجميع ولا تتطلب سوى نبذ التفكير الخرافي والتوجه لفحص الأشياء والأوضاع وبهذا التكوين الثقافي المفتوح والنامي والواثق استطاع الغرب أن ينمو وأن يحقق هذا السبق الهائل في كل المجالات...