في قريتنا تتلاصق البيوت في مساحة محددة من جلد الأرض، تحيط بها النخيل من كل جهة: نخيل صغيرة تثمر بلحاً أحمر. يأكل منه الناس طوال الأزمنة. الكبار، يحذرون الصغار من الاقتراب من سور عظيم يحيط بالمزارع ... فننصاع ولا نقترب. يتكرر ذلك في كل خطبة أو مناسبة، إذ يردد الإمام تلك التحذيرات فيلتفت الناس بحذر ويهزون رؤوسهم. * * * في ظهر يوم حار وصل مسافر فوق دابته إلى مدخل قريتنا، وكانت مفاجأة خاف منها المفتشون، وهم يجدون عذق بلح أصفر في متاعه. ألقي القبض عليه بسرعة، وقيّد، وتمّ تحريز العذق، ووضعه في كيس متين ومختوم، وأرسل مع رجلين جسورين... سبقهما صياح نذير فزع إلى حيث مجلس الكبار. جيء بالرجل المقيد وأركع على ركبتيه وسط دائرة ترابية كبيرة. وبالقرب منه وضع كيس البلح الأصفر بكل حرص، وأحاط بالرجل وكيسه أربعة أشداء لا يطرفون. تجمع أناس كثيرون تملأ عيونهم الصرخات. تقدم كبير... وأشار بيده إلى الجموع الزاعقة. فصمتوا. قال بما يشبه الضحك المقيت: إيه أيها الجاسوس.. ها أنت هنا. قل من أرسلك؟ ما الذي كنت ستفعله في هذه القرية الآمنة؟ ولكز الرجل المقيد في خاصرته. فتلوى متأوهاً. لكن آهته غابت وسط زعيق الناس. رفع الكبير يده بجذل فصمت الناس. قل أيها الحقير. أخبرنا عن قصتك كاملة قبل أن ندحرج رأسك أمام جسدك هنا. رفع المكبّل عينين مذعورتين، وقال بصوت أشبه بالبكاء: أنا رجل مسكين مسافر! زمجر الكبير، وأشار للأشداء: اقلعوا عينيه. واقطعوا رقبته. وفيما الأشداء يذودون عن الرجل المقيد المنكمش من صخب الناس، حائلين من دون الوصول إليه وتمزيقه. شق الضجيج صوت صارخ، وصل صاحبه إلى وسط الدائرة .التفت الكبير وسأل بدهشة: أهذا أنت يا غسان؟ نعم. لم نرك منذ فترة أيها الشاب... أين كنت؟ سأقول لكم . لكن دعوني أخبركم أن هذا الرجل لم يخطئ. علا الضجيج، وارتفعت الأيادي، وساد الصمت: أوضح لنا. ما يحمله هذا الرجل بلح أصفر يؤكل! لا . لا يوجد ما هو صالح غير بلحنا الأحمر. لكن ما أدراك عن ذلك يا غسان؟ كنت أغيب في المزارع أياماً. فكنت أخرج إلى الفضاء و أمشي إلى تلك القرية خلف التلال البيضاء. وأقابل أصدقائي هناك فيقدمون لي بلح قريتهم الأصفر. تعالت أصوات كثيرة: إنه يأكل بلحاً آخر.. لقد سُحِرَ الفتى أيضاً! اقتلوه وساحره ... سُمع صوت ينطلق وسط الناس: ربما يكون ما يقولانه صحيحاً! هدأ الناس قليلاً وتلفتوا، لكنهم لم يعرفوا من قائله. اقتلوهما هنا ... الآن! اقترب الكبار من بعضهم. هزّوا رؤوسهم. و خرج رجل يشبه قطعة أرض وقال بوضوح: دعوا البلح الأصفر هنا. فكوا قيد الرجل وزودوه ببلح أحمر وأرسلوه إلى القرية الأخرى. وانظروا ما يحدث! هزّ كثيرون رؤوسهم. ابتسم الكبير وقال: نفذوا ذلك. وليستعد المقاتلون تحسباً لأي طارئ. صرخ غسان: سأذهب معه. تعالت أصوات كثيرة: ساحر مع ساحر! * * * في أطراف القرية تمّ اعتقالهما وإخضاعهما لاستجواب مرير: هذان جاسوسان. ساحران. يجب أن نقتلهما. و فيما هما يقيدان وسط دائرة ترابية كبيرة جاء صديق غسان، وقال: مهلاً يا كبار. هذا صديقي من قرية البلح الأحمر. لقد سحر هذا الفتى! اقتلوه معهما. مهلاً : فما يقوله الاثنان صحيح. لقد زرت صديقي غسان في قريته المجاورة! وكيف تخطيت سور قريتنا؟ تقولون أن سوراً عظيماً يحيط بنا . لكنني لم أجد أي سور. ذهبت إلى القرية الأخرى مرات ومرات، وأكلت من بلحها الأحمر! أتأكل بلحاً غير بلحنا ؟ الفتى مسحور. اقتلوه! يسمعون صوتاً هادئاً: ربما يكون صحيحاً ما يقول! الفتى يقول: يا كبار، على مسافة غير بعيدة عن تلالناw البيضاء توجد قرية ثالثة مليئة بالنخيل التي تثمر البلح الأصفر والأحمر. يضج الجمع حول الدائرة: لا يوجد غير بلحنا الأصفر. اقتلوا السحرة. اقتلوهم. يشق الصفوف رجل نذير. يزعق: يا كبار: رأيت جيشين يقتربان! وجيشنا! يرابط في الفضاء أمام القريتين. غسان وصديقه يقولان: يا قوم. لا داعي للحرب. دعونا ننطلق مع هذا الرجل المقيد إلى حيث صديقنا من قرية البلح الأحمر والأصفر. سنقابله في الأرض الواسعة بين الجيوش الثلاثة. سنأكل من بلح القرى أمام أبصاركم. إن أصابنا شيء تقاتلوا ...لا تصدقوهم. هي فكرة... ربما يكون صحيحاً ما يقولون. تزاحمت الجموع الهائجة على الأرض الواسعة من جهات ثلاث، يتقدمها المدججون بالرماح والسيوف والعصي. تحلق غسان وصديقاه والرجل المسافر، حول عذوق النخل وبدأوا يأكلون بهدوء ... الجماهير تترقب صامتة. يلتفت القادة والكبار إلى بعضهم. يهزون رؤوسهم. وينقلبون إلى القرى مشيرين إلى الناس بالعودة. يعلو ضجيج هائل: لا بد أنهم سحرة. كيف خدعونا. ربما يكون صحيحاً ما يقولون. أنت معهم. أنت ضدي... تنكفئ الجيوش إلى قراها، مشتبكة مع الناس. بينما يتوافد إلى الأصدقاء الثلاثة المتحلقين حول عذوق البلح عدد من الشباب وهم يضجون بالضحك. -12--03--2005 الدمام