تسع سنوات مرّت على رحيل المخرج السينمائي المصري رضوان الكاشف، الذي اختطفه الموت فجأة في ليلة من ليالي حزيران (يونيو) عام 2002. والكاشف، رغم مشواره الطويل، لم يتجاوز إنتاجه السينمائي أربعة أفلام روائية، منها فيلم قصير. والمتتبع لأفلام رضوان الكاشف («ليه يا بنفسج» 1992 - و «عرق البلح» 1997 - و «الساحر» 2001) ومن قبلها فيلم تخرُّجه، الروائي القصير («الجنوبية» 1984)، سيكتشف بسرعة أن رضوان كان مشغولاً بهمّ وحيد، ينحصر في البحث عن المعوِّقات الاجتماعية التي تقف حجر عثرة كبيراً أمام تطور مجتمعه، أو بتلك (الأطواق والأساور) التي تكبّل حركة المجتمع وتمنعه من النهوض، حسب تعبير عنوان رواية الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله، والتي استوحاها مخرج آخر من الجيل السابق لجيل رضوان، هو خيري بشارة في فيلمه الذي حمل عنوان الرواية نفسها. حقائق متعددة في «الجنوبية»، استلهم رضوان الكاشف خيوط القصة التقليدية، عن فتاة حرة تنضح بالجمال والأنوثة، ترفض تقاليد المجتمع الجاثمة فوق صدور أبنائه، والتي تجبرهم على فعل ما لا يرغبون. ولكن ها هي الآن تجبَر على الزواج ممن تكره، وتمارس (المحرَّم) مع مَن تحب، فيكون (القتل) هو العقاب الوحيد المنطقي، حيث (الشرف) يعادله الموت! تقليدية الحدوتة في هذا الفيلم لم تمنع رضوان، الشاب المتمرّد على تقاليد مجتمعه وسينماه، من أن يصنع منها فيلماً جذاباً، أهم ما يميزه تلك الطريقة المتفرّدة في السرد، حيث تقوم الحكاية على تعدّد الرواة، ومن ثم تعدّد وجهات النظر فيها وفي أحداثها، ليصبح المتلقي مشاركاً حقيقياً في صنع تفاصيل الرواية أو الفيلم. وهو أسلوب يعلن به رضوان منذ فيلمه الأول، والذي سيتطور بعد ذلك في «عرق البلح»، رفْضَه التام لما يمكن أن نسمّيه ب «الحقيقة المطلقة»، فليس هناك ما يسمى بالراوي حامل الحقيقة الوحيد، ولكن هناك رواة، قد تختلف نظرتهم أو شهاداتهم، تتكامل أو تتقاطع، لكن لا يدّعي أحد منهم - بمن فيهم صانع الفيلم - أنه وحده الذي يحمل الحقيقة الكاملة. وإذا كان هذا الأسلوب قد استوحاه رضوان من كتابات أدبية ستينية، إلا أنه من الإنصاف الإشارة إلى جذوره الأعمق والأشد دلالة، والتي سنجدها في الحكي الشفاهي لحواديت الجدات، والتي تبدأ عادة ب «كان يا ما كان» ولا تنتهي أبداً بحقيقة مؤكدة أو بحادثة بعينها. وفي «الجنوبية» - كما في «عرق البلح» بعده - يتأكد هذا الشكل، شكل الحكاية القديمة، فها هو الشاب المتعلم المثقف العائد إلى قريته في زيارة لأهله، يحمل الكاميرا ليسجل حكاياتهم، أو ليرى - هو ومن يمثلهم - تلك الحكايات بعيون أصحابها أو شهودها الحقيقيين. وفكرة أن يكون المستمع للحكاية أو المسجِّل لها مثقفاً، هي فكرة تحقق هدفين في وقت واحد: الأول درامي، بمعنى أنه سيجيب عن سؤال فحواه: ما مبرر إعادة سرد تلك الحكاية والنبش في جذورها الآن؟ وتأتي الإجابة منطقية، محققة للاتساق الدرامي: ... لأن السائل أو المستمع أو المسجل للحكاية غريبٌ عنها، وبالتالي فمِن المبرر أن تعاد روايتُها مرة أخرى. أما الهدف الآخر، فهو ثقافي اجتماعي - إن جاز الوصف -، حيث يضع رضوان المشكلة في مواجهة أولئك الذين سيشاهدون فيلمه، فهو يعلم جيداً أن أبطال فيلمه ومن هم على شاكلتهم، لن يشاهدوه، وإنما سيشاهده أقران بطله (المثقف)، وبالتالي فهو متوجه بالأساس لهذا المتلقي الذي يعرض عليه مشكلة القرية متضمِّنةً مشكلتَه هو كمثقف مبتعد من الواقع الحقيقي، متعال على مشاكله اليومية، التي يراها إما تافهة لا تستحق الالتفات. أو أنه لا يراها على الإطلاق، فيظل وللأبد بعيداً من أولئك الذين يتحدث عنهم ليل نهار. البهجة رغم الحزن «ليه يا بنفسج» هو فيلم رضوان الكاشف الروائي الطويل الأول، الذي اختار له عنواناً يثير في الأذهان أغنية صالح عبدالحي التي كتبها بيرم التونسي ولحّنها رياض السنباطي، والتي تقول كلماتها «ليه يا بنفسج بتبهِج وانت زهر حزين». في هذا الفيلم كان من الواضح ان البحث عن البهجة وسط الحزن، أو البهجة رغم الحزن، هو مشروع رضوان الأول، وهو أيضاً ما سيحاوله في آخر أفلامه «الساحر» الذي كان اسمه الأصلي «نظرية البهجة»، لكن هذا الاسم انزوى ليكون عنواناً ثانوياً تحت ضغوط تجارية! في «ليه يا بنفسج» يتحدث رضوان عن الناس الحقيقيين، عن أولئك الذين همّشتهم ضغوط الحياة وصعود طبقات طفيلية على أكتافهم واندلاع صراعات أقرب إلى صراعات الغابات الأولى، الى الدرجة التي جعلتهم ينزوون في حارات ضيقة، ويغرقون في محاولات البحث عن وسائل تحقق أحلامهم البسيطة في الخروج من أسر هذا الواقع الكئيب بمحاولات ابتهاج صغيرة، أو حسب تعبير عنوان فيلم داود عبدالسيد الملائم «سارق الفرح»، فهم يسرقون لحظات فرح يزيّنون بها أيامهم الحزينة! في «ليه يا بنفسج»، يحصر رضوان أبطاله داخل حاراتهم الضيقة، التي يسعى كل منهم للخروج منها إلى عالم قصد رضوان أن يبقيه غائباً، إلا في ما ندر من لقطات، ليؤكد على إحساس هؤلاء ورغبتهم في الخروج إلى حيث الأجمل والأرحب، لكنهم لا ينجحون في الخروج، ومَن خرج منهم خرج بجراح دامية. وكأن رضوان يقول - كما عاد وقال في «عرق البلح» - إن الحل ليس في الخروج ولكن في الدخول، أو بالأحرى في البقاء والمقاومة والعمل على تغيير الواقع من داخله. حكايات الجدات بعد ذلك، ها هو فيلم «عرق البلح» (1997) يأتي خطوة متقدمة على درب «الجنوبية»، حيث العودة إلى شخصية المثقف العائد إلى قريته يسمع من الجدة والحفيدة بداية الحكاية التي سنراها معه مجسّدة على الشاشة. وعلى طريقة حكايات الجدات، يأتي الحوار بين الشاب والجدة وحفيدتها باللغة العربية الفصحى، لتنقطع مع بدايات مشاهد تجسيد الحكاية وتتحول إلى اللهجة العامية. ليس في الأمر أي تناقض، بل على العكس، هناك اتساق تام مع الأسلوب المختار، فحكايات الجدات تبدأ دوماً باللغة العربية الفصحى، وإن كُن لا يُجِدْن التحدث بها، ولنتذكر معاً بدايات أي (حدوتة)، والتي تقول: (كان يا ما كان.. في سالف العصر والأوان)... هكذا تبدأ الحكايات، وهكذا بدأ فيلم «عرق البلح»، حيث يعلن رضوان الكاشف لمتلقيه، منذ مَشاهده الأولى، أنه لن يقص عليه حدوتة درامية تبدأ بداية منطقية وتنتهي نهاية منطقية، ولكنه سيعرض عليه تفاصيل حكاية قديمة شهدتها الجدة، بكل ما تعنيه من خبرة وخيال وقدرة على استيعاب وحفظ التفاصيل، لتكون مُعيناً على فهم واقع مكبَّل بأطواق وأساور كثيرة، أهمها تفاصيل تلك الحكاية. إذن، فاختيار المخرج للشاب العائد كمفتتح للفيلم، هو اختيار يؤكد طريقته التي بدأها في «الجنوبية» من ناحية، ويؤكد من ناحية أخرى، إيمانَه بأن المشكلة تكمن في ذلك الانفصال بين المثقف والواقع، وأن حل هذه المعضلة يكمن في ضرورة الدخول في جدل بينهما، على المثقف أن يبدأه باعتباره الأقدر عليه. على المثقف أن يعود ليفهم ويتعلم ويصبح بعدها ممتلكاً لأدوات التغيير المناسبة. لكن عليه أولاً أن يتعرّى من غروره وتعاليه وإحساسه بأنه الأقدر والأكثر فهماً! سحر الواقع في «عرق البلح» تتبدل أدوار أبطال حكاية «الجنوبية» الرئيسيين، فإذا كان «الجنوبية» يبحث في أسباب مقتل أجمل فتيات القرية، ففي «عرق البلح» تصبح (هي) ذلك الفتى الرافض للخروج مع كل الرجال الخارجين بحثاً عن عمل خارج قريته إيماناً منه بضرورة البقاء والحصول على البلح (الأبيض) الذي سيصنع منه عرقاً يظنه (الإكسير) الذي سيعيد لجده القعيد الصامت حيوية فقدها وفقدت معه القرية بأكملها حيويتها وقدرتها على الفعل والمقاومة. الفانتازيا الساخرة لمشهد الدعوة للخروج، حيث العربة الكبيرة والرجال ذوو الملابس والأقنعة الغريبة والصوت مجهول المصدر، هي فانتازيا تتسق وغرائبية أي حكاية قديمة ترويها الجدات، وتشير من جانب آخر إلى غرابة هؤلاء البشر الداعين رجال القرية إلى الهجرة للخارج، وكأنهم كائنات هبطت عليهم من عالم آخر، في إشارة خفية إلى الهدف الذي يستهدفه كل الداعين إلى خروج رجال المجتمعات النامية بحثاً عن وسائل تحقيق أحلام فردية خاصة ستنتهي حتماً إلى سراب ومن بعده خراب! ستنتهي الى عودة الرجال يجرّون أذيال الخيبة، تدفعهم إلى البحث عن سبب يُسقطون عليه عجزهم، ولا يجدون إلا ذلك الفتى الذي بقي رجلاً وحيداً يحمي القرية ونساءها وينجح في الحصول على عرق البلح (الإكسير). لكن الرجال لن يقبلوا هزيمة داخلية بعد هزائمهم الخارجية، فيسقطون عليه هزيمتهم الكبرى ويحمّلونه أوزارها ويحكمون عليه - في خدعة دنيئة - بالصعود مرة أخرى إلى النخلة العالية ليثبت لهم أنه قادر على الحصول على البلح الأبيض. وحين يصل إلى قمتها، في مشهد جليل، يشتركون جميعاً في ضرب جذورها بالفؤوس لتنهار النخلة - مانحة الحياة - ويسقط معها الفتى مقتولاً بأيدي مَن حاول الحفاظ لهم على ما يملكون حتى يعودون! فانتازية المشاهد وتداخُل أحداثها بين ما هو واقعي وما هو خيالي إلى جانب لغة الحوار الشاعرية، تغلف الفيلم بهالة ساحرية جعلت بعض النقاد يصفون الفيلم وأسلوبه بتعبير أدبي سبق أن أطلق على كتابات أميركا اللاتينية ممثلة في أبرز كتّابها (غابرييل غارسيا ماركيز)، وهو تعبير (الواقعية السحرية)، فمن الصعب أن نصف فيلم الكاشف ب (الواقعية)، ومن الصعب أيضاً أن نصفه ب (الفانتازيا)، فتكون (الواقعية السحرية) هي التعبير الأوفق في وصف ما صنعه رضوان بجمال وجلال. مقاومة أبطال الكاشف في فيلميه «ليه يا بنفسج» و «عرق البلح»، هي انعكاس لمقاومته وأقرانه في الواقع، من أجل صنع سينما جديدة مختلفة، جماهيرية رغم أنها جادة. وعلى الرغم من نجاحهم في صنع هذه الأفلام (الأحلام)، فإن المسيطرين على تجارة السينما الجدد لا يتركون لهم هذه الفرصة كثيراً، بل يسعون إلى إحباط تجاربهم، إما برفض الإنتاج، أو بسحب الأفلام من دور العرض بعد أيام قليلة قبيل أن تثبت صحة نظريتهم في إمكان صنع أفلام جادّة ومربحة. وانفطر القلب وسط هذا الواقع الذي يزداد تردياً يوماً بعد يوم، سواء بإخفاء وقتل كل ما هو جاد ونفيه، أو بإعلاء كل ما هو تافه ومزيف والاحتفاء به، لم يكن غريباً أن يأتي فيلم رضوان الكاشف الأخير «الساحر» متأرجحاً بين محاولة الاستمرار على درب بدأ ب «الجنوبية» وترسّخ ب «ليه يا بنفسج» ثم ب «عرق البلح»، وبين أن يكون قادراً على الوقوف أمام تيار التفاهة الكاسح بالتخفيف من صرامة الطرح وجدية البحث السينمائي، ليقف في المنطقة الوسطى بين ما يريدون وما يريد هو كصانع لأفلام ذات مغزى وهدف. ولأن محاولات التوفيق لا تنجح عادة، جاء «الساحر» غير قادر على التعبير عن خط رضوان الأصيل، كما لا يعبر أيضاً عن خط التجار الجدد، فيسقط في مكانه مصيباً رضوان في مقتل ويتوقف قلبه عن الخفقان فجأة قبيل سويعات من سفره للبحث عن فرصة توزيع الفيلم خارج مصر، لعله يحقق ما لم يستطعه داخلها، ويسقط رضوان شهيد البحث عن البهجة الجادة في زمن سخر ويسخر من كل بحث جاد عن سبل حياة أفضل وأجمل.