لولا هيبة المكان، لما تردد مغسلو الموتى في إطلاق النكات، فعلى رغم أن عملهم ارتبط بالحزن، إلا أنهم يمتلكون حساً عالياً من الدعابة والمرح، بيد أنهم يشعرون في المقابل بإحباط شديد وألم لا ينفك يطاردهم أينما توجهوا، والسبب في ذلك ما يلقونه من جفاء اجتماعي، وفي المقابل يرون في مهنتهم"تكريماً وشرفاً لا يضاهيه شرف". ويروي باقر طاهر مغسل موتى، حكاية صراعه مع ما يؤمن به ويواجهه"أشعر بسعادة كبيرة حين أكرّم ميتاً، بتطهيره وتغسيله، وألاقي على ذلك ثواباً كبيراً من الله تعالى، وشكراً وتقديراً من الناس داخل المقبرة، لكن الوضع ينقلب ما أن نغادر أسوار المقبرة، فيرجع الاشمئزاز مني، كما ولو أنني شيء بغيض لا يجب الاقتراب منه". ويشعر باقر بالحزن لأن"كثيرين لا يستجيبون لدعواتي حين أقيم حفلة في أي مناسبة، لأنهم لا يأكلون من يد مغسل موتى، ولا يجلسون معه على مائدة، وهذا أمر يصيبني بالإحباط، والأمر يزداد سوءاً حين أكون على مائدة في تجمع ما، لأجد من حولي يتفرقون الواحد تلو الآخر، أو بعضهم يأكل قليلاً لينتهي مبكراً، خوفاً من أن أحمل لهم رائحة الموت أو طعمه". وتتركز هذه النظرة أكثر في الجيل الجديد، بحسب ما ينقل مغسل الموتى صالح الحميدان، الذي يقول:"الجيل الحالي أكثر قساوة في نظرته لنا، بخلاف الجيل القديم، الذي كنا نرى منه تكريماً وتقديراً ومكانة مرموقة، وكان المشمئزون قلة، لكنهم كثروا الآن"، متسائلاً"لماذا هذه النظرة الغريبة؟"، مضيفاً"هل يريد هؤلاء أن يأتي عمال أجانب ليقوموا بهذه المهمة بدلاً عنّا؟، فنحن نغسّل آباءهم وأقاربهم وجيرانهم"، مشيراً إلى أن هذه الشريحة"يهينون موتاهم قبل أن يهينونا، وأنا أتعجب من عدم تصدي أئمة المساجد والوعّاظ، وأرى أن يلقوا محاضرات لتصحيح هذا النظرة لنا". ويمكن أن يحتمل الرجل الذي يمتهن هذه المهنة هذه النظرات، والسؤال ما لذي يمكن أن تواجهه المغسِّلة الأنثى؟، فالنساء هن الأكثر اشمئزازاً من هذه المهنة. وتقول مغسلة الموتى"أم أحمد":"عانيت كثيراً، وعلى مدى أكثر من 17 سنة من مواقف محرجة بسبب عملي في تغسيل الموتى، وتنوعت بين الهرب مني، أو عدم مصافحتي، وحتى الامتناع عن دخول منزلي، وكل هذا بسبب تقليبي الموتى وتنظيفهم، وتهيئتهم للدفن"، مضيفة"قلة من يدعونني لأي احتفال أو مناسبة". وتختزن ذاكرتها موقفاً حصل قبل ثلاثة أعوام، إذ بقيت بمفردها على مائدة طعام، بعد أن رفضت المدعوات الجلوس على السفرة التي كانت تجلس إليها، وتقول:"لم يكن منّي إلا أن أكملت طعامي، وذهبت لفراشي، كي أنسى مثل هذه المواقف المؤلمة". وفي المقابل فإن"أم أحمد"تُعامل باحترام من طالبي خدماتها في تغسيل موتى القرى المجاورة، بسبب قلة من يعملن في هذا المجال. وتضيف"أنا على يقين بأن الأجر والتكريم والتقدير من عند الله، ولا أنتظر جزاءً من مخلوق، لكنني أطمح في أن تُصحح هذه النظرة". ويرى صالح، الذي يُعرف بخبرته في طبخ"المندي"، أن الأمر"فيه ظلم كبير على أصحاب هذه المهنة، فأنا مثلاً حاولت مزاولة هوايتي في الطبخ، لأحصل على دخل أُعيل به أسرتي، وقررت طبخ المندي المطلوب بكثرة في الأحساء، وعلى رغم شهادة الكثيرين بتميزي في ذلك، إلا أن المجتمع رفض أن يأكل من يد مُغسل موتى"، ويصف ذلك ب"الأمر المحبط والمحطم"، مضيفاً"اقتصر طبخي لعائلتي وأصدقائي الذين يفتخرون بي". واقترح صالح"أن تمنح الدولة تميزاً للمغسلين، بأن تعطيهم رواتب شهرية، تدعم مهنتهم، وتسجلهم في الضمان الاجتماعي، تحت مسمى"مغسلين"، وبها يمكن أن يكفل المغسل حياة كريمة لأبنائه، فهو يعمل لخدمة المجتمع والوطن بالدرجة الأولى".