عُرِف علي عبد المحسن العلي، منذ أن كان صبياً صغيراً، بأنه أصغر مغسل موتى في المنطقة. وتعامله مع الأموات كان مبكراً جداً، إذ لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره حتى خاض أول تجربة فعلية في عالم هذه المهنة، التي كانت ولا تزال حكراً على جيل معين من المغسلين، أصبحوا في الآونة الأخيرة يتناقصون بسبب موت أكثرهم، ما استوجب خروج جيل جديد من المغسلين الجدد. ويصف العلي 20 عاماً بداية تجربته"كنت أتعجب من أقراني الذين يخافون من المقبرة والأموات، وكان الناس ينهروني ويبعدوني عن المغتسل، ظناً منهم أني سأتأثر بمشاهد الميت داخله". بيد أنه أصر على أن يصبح"رجلاً كبيراً، يضحي بطفولته في مهنة يهرب منها الكبار، فضلاً عن خوف الصغار منها". ولم تكن الطفولة وحيدة في عالم التضحيات، بل المكانة الاجتماعية، إذ إن المغسل يواجه من جانب البعض ب"التقزز وعدم الارتياح لمجالسته، والأكل والحديث معه، فهم يعتبرونه نذير شؤم وخوف". إلا أن العلي لم يبالِ بكل هذه المحاذير"مُنعت في البداية من الأصدقاء والأهل، خوفاً أن لا أجد من ترضى الزواج بي، لكنني وجدت زوجة لا أستطيع أن أصفها بكلمات". كسر بزواجه القاعدة السائدة، وأنجب طفلاً وينتظر آخر، وزوجته لا تجد حرجاً من عمله، بل تجده مدعاة للفخر والاعتزاز، ما جعلها تنال محبة الزوج الطموح، الذي يقول عنها"في كل مرة أرجع من المقبرة بملابسي الرثة تستقبلني بابتسامة وتقِّبل يديَّ، وتطلب أن أدعو لها، لاعتقادها أن هذه المهنة من أجَّل المهن التي ينال بها رضا الله، وان صاحبها مستجاب الدعاء". وشجعه إيمان الزوجة على الاستمرار، بيد أن هذه المهنة لم تتركه من دون قصص مؤلمة، جعلت النوم يهجره ليالي"مرت عليّ حكايات وقصص تجعل الإنسان يعيش ألماً دائماً، وكان أمرّها وأصعبها حين شاركت في تغسيل أربعة شبان قضوا نحبهم في حادثة مؤلمة، وكانوا من أصدقائي، لكنني آثرت إلا أن أكافئ صداقتهم بتغسيلهم". ومن القصص العالقة في ذاكرة العلي"طفل صغير مات على يد والده، ولم يقتل بسلاح أو آلة، ولا حتى بتسمم أو خنق، إنما قضت عليه عين والده، التي تعد من أقوى العيون حسداً، إذ كان الطفل، الذي يبلغ من العمر سنة، منشغلاً بالرضاعة فرمقه والده بعينه، فما أكمل رضعته، ونقل إليّ لأغسله، فكانت من أغرب حالات الموت التي مرت عليّ". ونال العلي احترام مجتمعه وتقديره، وأصبح من الوجوه المؤثرة فيه، حتى أن جده لأمه اشترط في وصيته أن لا يغسله سوى حفيده، الذي كان يراه"مفخرة للشبان واعتزازاً لنا". ومن الذكريات المؤلمة التي مرت عليه، حين جاء نبأ وفاة أخيه البكر، الذي كانت تربطه به علاقة قوية"جيء بجسده إلى المغتسل، إلا أن والدي ومن كانوا في المقبرة منعوني من تغسيله، خوفاً عليّ من التأثر، فالمتوفى لم يكن مجرد أخ بالنسبة لي"، مضيفاً"ما زلت أتذكر تلك اللحظات التي لم أستطع فيها تغسيل جسد أخي، وكلما تذكرت زدت ألماً وحرقة". قبل أسبوع وقف العلي أمام جسد شاب تعرض لحادثة مرورية أثناء توجهه لمقر دراسته في الجبيل، إلا أن هذا الجسد لم يكن اعتيادياً"كان جسد أعز أصدقائي، الذي كانت تربطني به صداقة منذ كنا أطفالاً واستمرت علاقتنا طوال السنوات الماضية". ويؤكد أنه أثناء تقليب جسد صديقه شعر بأن قلبه توقف عن النبض، لكنه تناسى كل شيء أمام واجبه، الذي يعده"مقدساً". وبعد أن فرغ من التغسيل وقع مغمىً عليه، متأثراً بفراق صديقه الحميم"هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها من دون رباطة جأش ومنهاراً، لأنني تعلمت الصبر والتحمل". ويكشف سبب حبه لممارسة التغسيل"سمعت كثيراً عن الأجر والثواب والمغفرة التي يحصل عليها من يُكرم الموتى، ولأنني مؤمن بقدسية عملي، لذا آثرت على نفسي أن أعمل لآخرتي". ولا يتذكر عدد الذين غسلهم"لو أردنا الوصول إلى عدد تقريبي ينبغي ان نحسب 14 عاماً من ممارسة التغسيل". ولا يقتصر عمل العلي في بلدته، إذ صار مطلوباً في المدن والقرى المجاورة، حتى ذاع صيته وأصبح من الوجوه المشهورة في محافظة الأحساء. ويطمح أن يقيم دورات تدريبية للشبان، من أجل استمرار هذه المهنة، التي ينظر إليها الآن بمنظار الاحترام والتقدير"ومن أجل تثقيف المجتمع، وبخاصة شريحة الشبان، الذين انصرفوا عن القيام بالخدمات الاجتماعية". ويطالب العلي الجهات الرسمية بتبني موهبته، ومنحه عملاً رسمياً، من أجل أن يشجع شباناً آخرين لا يجدون لهم عملاً، ووقعوا في براثن البطالة. وهو لا يتقاضى عن عمله مردوداً مالياً"سوى عبارات الشكر والثناء والدعاء، وهذا يكفي"، مضيفاً"لا أجد للمردود المادي أي أثر في نفسي، حين أزاول مهنتي هذه، التي نذرتها خالصة لمجتمعي، وفي كل مرة تقدم لي مبالغ أرفضها بغضب، طالباً من أصحابها أن يدعو لي فقط، وأن يرحم الله موتاهم". وينظر إلى مساعده، الذي يسكب الماء له، ويتذكر كيف كان في عامه العاشر، حين بدأ بمساعدة مغسل البلد العجوز، الذي كان له فضل في تشجيعه وحثه على الاستمرار. ولم يقف الوقت حاجزاً أمام تأدية واجبه، فيتذكر أنه غسل في يوم واحد أربعة موتى في مناطق مختلفة، ففي الصباح كان على موعد مع طفل، وفي الظهر مع عجوز، والعصر مع عجوز آخر، وفي المساء مع شاب مريض. بيد أنه لم يشكُ من التعب والإرهاق، بل لبّى"نداء الواجب"، مضيفاً"مهنتي هذه لا تعترف بدوام محدد، ويجب أن أكون مستعداً في أي وقت، ولأي سبب". وهذا ما جعل هذا الشاب مثالاً للتضحية وحب المجتمع، على رغم صعوبة مهنته، التي لا تروق للكثيرين، والقصص المؤلمة التي تواجهه كل يوم يسكب فيه الماء على جسدٍ هامد لصديق أو أحد أفراد العائلة أو جيرانه وأبناء مجتمعه.