طفل في العاشرة من عمره، يضع نظارة طبية على عينيه، ويحمل شنطته المدرسية على ظهره، بيده منديل يمسح به عرقه المتصبب على وجهه من شدة الحرارة والرطوبة في الجو، لا أدري لماذا تابعته بنظري من خلف زجاج السيارة، وأنا انتظر صغيري للخروج من المدرسة، عند منعطف الشارع وإذا بولدين من عمره يثبان عليه ويرميانه أرضاً، اختطف أحدهما نظارته بعنف ولف الآخر ذراعه خلف ظهره، وتناوب الشقيان على ركله ورفسه وهو ملقى على الأرض مذعوراً يحاول حماية وجهه والتمسك بحقيبته! ولما اقترب معلم المدرسة فر الشقيان تاركان المسكين متكوماً على الأرض وهو يتشنج. دفعني ذلك المشهد المؤلم للبحث والسؤال حول أسباب العنف والتعدي لدى بعض الأطفال والصبية الكبار، خصوصاً في المدارس. وجدت أن اعتداءات كهذه تحدث يومياً في أروقة المدارس عندنا وفي أنحاء كثيرة من العالم، فهي مشكلة مؤرقة للطفل والطالب والأهل، ولكن أحياناً ينزع بعض المعلمين إلى التغاضي عنها بحجة أن الاستئساد ليس إلا طوراً يمر به الأولاد داخل او خارج المدرسة، وفي الحقيقة أن الاستئساد ليس إلا خطوة أولى قوية للتصرف الإجرامي والمشكلات في المستقبل. يؤكد علماء النفس والباحثون في علم التربية ومشكلات الأولاد المدرسية خصوصاً العنف بين الطلاب أن للعنف نتائج مدمرة تتجاوز سن الطفولة والمراهقة، إذ وضع الباحثون مجموعة من الأطفال العنيفين والمستأسدين تحت الملاحظة وتابعوا أوضاعهم لسن معينة، كانت النتيجة فظيعة ومدمرة! في سن ال 19 ترك التلاميذ الذين كانوا أكثر تعدياً من سواهم المدرسة وهم أطفال، وكانت لهم سجلات إجرامية، وفي سن ال30 نزع الذين كانوا إعتدائيين وهم في الثامنة من العمر إلى تنشئة أطفال إعتدائيين أيضاً محدثين حلقات موسعة من الفساد. إن النتيجة هي دمار للضحايا والمستأسدين بالتساوي، ولابد من الإشارة هنا ليس كل نزاع بين الأطفال استئساداً، الاستئساد هو مضايقة شخص واحد أو أكثر للآخرين تكراراً ومراراً وعلى مدى طويل والأسباب التي تجعل الصغير مستأسداً، بحسب رأي الكثيرين من المربين خصوصاً معلمي المدارس، أولاً: الطريقة التي يعامل بها الطفل في البيت، إذا عُومل بإهمال من والديه، أو لم يضع الأهل قواعد واضحة تحدد تصرف أولادهم المقبولة وغير المقبولة اجتماعياً، ثانياً: القصاص الجسماني العنيف من الوالدين، فهم بذلك يزيدون من احتمال صيرورة ولدهم مستأسداً. ثالثاً: البرامج التلفزيونية العنيفة وأفلام الفيديو وأثرها في توليد العنف لدى الأولاد. لقد تلاحظ أن الولد الضحية غالباً ما يكون أضعف جسماً وبنية من نظرائه من الأطفال، أو يكون غالباً من الأطفال القلقين غير المستقرين والواثقين من أنفسهم، ولاحظ الباحثون والمعلمون كأن الطفل الضحية يبعث بإشارة صامتة للمستأسد تقول له أنا غير خطير وبإمكانك مهاجمتي...! ما العمل لمساعدة أبنائنا الضحايا؟ لنبدأ بالمنزل أولاً: لا بد من وجود جو عائلي يسوده الاحترام بين الأبناء والآباء، فمتى اتبع الأبناء القواعد الجيدة لا بد من استحسانهم ومكافأتهم، وإذا لم يتبعوها فلا بد من العقاب، وبعض القصاص غير الجسماني"كحرمان امتياز أو خفض مصروف جيبهم". ثانياً: تشجيع الطفل الخجول والهادئ على ممارسة نشاط، خصوصاً الرياضة البدنية، فالتدريب الجسماني يرفع الثقة بالنفس، ثالثاً: على ذوي الضحايا مساعدة أولادهم على التفاعل مع أقرانهم ومقاومة النزاع على أن يكونوا وقائيين وحماة لأولادهم، بل يجب دعم الابن إلى الاستقلال. يقول مفكر هندي ربوا أبناءكم عميقي الجذور قادرين على الطيران. أما في المدرسة فيجب أن تكون هناك برامج اجتماعية لتوجيه الأبناء ومساعدتهم لمجابهة مشكلاتهم البيئية والاجتماعية. ولا بد من بحث موضوع الاستئساد ورفضه اجتماعياً، إن هذه البرامج تضغط اجتماعياً على المستأسدين ليوقفوا تصرفاتهم، ومن الضروري أن يوضح المعلم والمشرف أن الاستئساد غير مسموح به لا داخل حرم المدرسة ولا خارجه، وإذا ما حدث فهناك عقاب غير جسماني. من المعروف أن النشاط المدرسي له أثر إيجابي على الطلاب، فالواجب يحتم على المسؤولين إيجاد ملاعب مدرسية مجهزة ومنظمة لتكون أكثر تشويقاً للطلاب لممارسة نشاطهم البدني، فالاستئساد يزداد مع الملل. وأسوة بالدول المتحضرة يجب توافر خط هاتف خاص للاتصال بمرشدين نفسيين واجتماعيين يساعدون ضحايا الاستئساد وذويهم ويرشدونهم للطرق الصحيحة لرد العداء وتجنبه، فلا بد من تكاتف الأهل ومسؤولي التعليم لحل هذه المشكلة وحصر آثارها السلبية على الضحية والمجتمع ككل. فإذا ما عمل الجميع معاً سيكون هناك أمل إن شاء الله في إعادة الحياة السعيدة إلى الكثير من الأولاد صغاراً وكباراً في المدارس. - جدة