"نحن لا نعلّم أولادنا القتل فحسب... بل نجعلهم يتلذذون به". عبارة واحدة تختصر معضلة القرن العشرين منذ اختراع التلفزيون وظهور انعكاساته السلبية على الأطفال. فالطفل يشاهد قبل الثالثة عشرة من عمره أكثر من 8 آلاف جريمة قتل متلفزة و100 ألف عمل عنيف... تغلّفه بحصانة ضد فظاعة الإجرام فتجعله يقتل ويبتر ويؤذي من دون أن يرفّ له جفن لأنه لا يستوعب أبعاد ما يقوم به. أكثر من ألف دراسة أجريت في الأعوام الأربعين الأخيرة حول تأثير العنف التلفزيوني في الأولاد صبّت كلها في النتيجة نفسها: العنف الخيالي في وسائل الإعلام يقود حتماً إلى العنف الملموس في العالم الحقيقي. أما الجدل حول نتيجة مغايرة لهذا الواقع فعقيم، خصوصاً في أعقاب دراسة أجرتها جامعة كولومبيا البريطانية في السبعينات على مدينتين كنديتين، إحداهما من دون شبكة تلفزيون وأخرى موصولة بهذه الشبكة. تبين أن أولاد المدينة الأولى سجلوا ارتفاعاً في نسبة تصرفاتهم العدوانية بلغ 160 في المئة بعد إيصال التلفزيون إليهم. وفي العمر الذي يسبق المدرسة مباشرة بين الثالثة والخامسة يبدأون بمشاهدة التلفزيون مكتشفين رموز الصور وباحثين عن معناها... مع استمرار تأثرهم العميق بالصور القصيرة المتمثلة بالإعلانات والأصوات وتفاوت الأضواء القوية. وتكمن المرحلة الأساسية لفهم تأثير التلفزيون وإثارته العدوانية في الشخصية في العمر الذي يتراوح بين السادسة والحادية عشرة حيث يركز الأولاد على متابعة مراحل القصة التلفزيونية وعلى اكتشاف دوافع تصرفات شخصياتها ونتائجها. فينمّون ميلاً كبيراً لأفلام الرعب التي تساعدهم على تخطي خوفهم الداخلي. إلا أنهم لا يستعينون بقدرة ذهنية كبيرة لتحليل ما يرون. وهذه القدرة بالذات هي التي تحدد مدى تأثرهم بالعمق بالعنف المتلفز. فالولد في الثامنة من عمره لا يتأثر بالعنف الذي يراه متى كان هذا العنف مرتبطاً بمفهوم الشر ويؤدي إلى الألم البشري وينجم عنه عقاب وقصاص. إلا أن النتيجة تصبح معكوسة عندما يعتقد أن العنف هو انعكاس للحياة الحقيقية أو عندما يتماثل مع البطل العنيف الذي يتابع مغامراته من دون أن يميز بين الواقع والخيال. أما في عمر المراهقة بين 12 و17 عاماً فيصبح الولد أكثر تعمقاً في تحليله مع استمراره في مشاهدة التلفزيون بأقل مجهود ذهني ممكن، خصوصاً أنه يعتاد على متابعة الأفلام التي يريد، بعيداً عن أفراد العائلة. وهو لا "يجادل" الحقيقة التي يكتشفها على الشاشة لا بل يغوص فيها أحياناً ويتمثل بأبطالها ليسير سريعاً في طريق الجنوح. أرقام مخيفة كشفت المنظمات الحكومية الأميركية أن العام 1999 وحده شهد توقيف 2.4 مليون جانح دون الثامنة عشرة من عمرهم، من بينهم 2500 بتهمة القتل و104 آلاف بتهم عنف أخرى. وأفادت دائرة ال"إف بي آي" بأن الأولاد يشكلون 19 في المئة من كل الموقوفين في تلك السنة، كما نسبة 14 في المئة من تهم القتل و17 في المئة من تهم العنف. وسجلت الفترة بين عامي 1985 و1992 ارتفاعاً في جرائم القتل من الأولاد الذين يبلغ عمرهم 16 عاماً بنسبة 138 في المئة. أما السلاح الناري فهو وسيلة العنف الأكثر شيوعاً، ويتحول الوضع مأسوياً متى تم الكشف أن ثلثي مراهقي أميركا يؤكدون أنهم يستطيعون الحصول على مسدس في أقل من ساعة واحدة. وقد أفادت صحيفة جمعية الأطباء الأميركية بأن 1.2 مليون تلميذ من المرحلة الابتدائية المدرسية يحصلون على هذا السلاح من المنزل فيما سجل العام 1999 تعرض 186 ألف تلميذ أميركي بين الثانية عشرة والثامنة عشرة لاعتداءات بقوة السلاح. من جهتها، أفادت مديرية العدل الأميركية بأن 57 في المئة من العنف الطالبي يتم في فترة بعد الظهر من الأيام المدرسية وفي أمسيات أيام العطلة بعد مشاهدة التلفزيون. وتكفي الإشارة إلى أن كل يوم يشهد طرد 13.076 تلميذاً أميركياً من المدرسة الرسمية بسبب تصرفاتهم العنيفة. عندما ينتقل التلاميذ إلى المرحلة المتوسطة في المدرسة يكونون قد شاهدوا على التلفزيون ما يقارب ال8000 جريمة قتل وأكثر من 100 ألف مشهد عنف تنطبع في ذهنهم. وهم لن يستطيعوا دوماً تمييز الحقيقة عن الخيال ولا التأثر بالألم الناجم عن العنف، خصوصاً أنهم لا يستطيعون التماس نتيجة العنف في عمر مبكر، بحيث لن يتمكنوا من الربط بين الجريمة ووضع المجرم في السجن متى كان هذان العملان بعيدين من بعضهما بعضاً في أول الفيلم وفي آخره. 20 مشهد عنف في ساعة بات التلفزيون من أكثر وسائل الإعلام تأثيراً في الأولاد، خصوصاً أن نمط الحياة العصرية جعل أكثر من 28 مليون تلميذ أميركي يبقون وحدهم بعد دوام المدرسة فيما أهلهم يعملون خارج المنزل. كما أن 87 في المئة منهم يملكون جهازاً خاصاً في غرفتهم، أي من دون مراقبة فاعلة من الأهل. ويمضي 17 في المئة منهم بمعدل خمس ساعات يومياً أمام الشاشة الصغيرة مع كل ما تحمله من مشاهد عنف. وفي هذا الإطار، كشف تحقيق علمي أجرته جامعة بنسلفانيا الأميركية أن برامج الأطفال تحتوي على 20 مشهداً عنيفاً في الساعة الواحدة. وقد أثبتت دراسة أخرى أجريت على 100 ولد دون السادسة من عمرهم، نصفهم تابع رسوماً متحركة عنيفة للأطفال، أن هؤلاء يتصرفون في شكل عنيف وعدائي مع النصف المتبقي الذي شاهد برامج خالية من أي مشاهد عنيفة. والعنف يبدأ كلاماً قاسياً في الخامسة من عمر الولد. ولا يلبث أن يتحول ركلاً وضرباً حتى عمر الثانية عشرة الذي يشهد تحولاً جذرياً في الشخصية. في هذه المرحلة، يصبح أكثر عدوانية ويميل إلى استعمال السلاح. والولد الذي سيصبح جانحاً في المراهقة تظهر بوادره باكراً: يكون عدوانياً وقاسياً تجاه الحيوانات والأولاد الأصغر سناً، مهووساً بالموت العنيف، له تاريخ من التبوّل في السرير طفلاً، يسحره السلاح بكل أنواعه، يهدد دوماً بإلحاق الأذى بالآخرين، يعتبره الأولاد غريباً عنهم ومخيفاً، يعتبر أن الحق معه دوماً... وهل سيكون للآخرين أي حقوق معه؟