العولمة الإعلامية تعني ببساطة ذوبان الحدود الفاصلة بين مجتمعات العالم المختلفة، التي تحول دون تدفق المعلومات من وإلى أي مكان على سطح الكرة الأرضية. اختلفت وجهات النظر المطروحة في عالمنا العربي في تقويم العولمة الإعلامية. البعض ينظر إليها ايجابياً، مشيراً إلى دورها في تيسير سبل الحصول على المعلومات من الاتجاهات كافة، بعد زمان تعاملت فيه وسائل الإعلام الحكومية بمنتهى البخل المعلوماتي. أضف إلى ذلك تعدد وجهات النظر المختلفة، وإتاحة الفرصة لبعض القوى الاقتصادية والسياسية في أرض العرب بامتلاك قنوات تلفزيونية خاصة. والذين يهاجمون الأوضاع المعاصرة للعولمة الإعلامية يرون أنها عولمة الغرب، أو بعبارة أخرى إعلان تتويج للإعلام الأميركي بقيمه الغربية على رأس هذا العصر. وكشأن النقاشات والمجادلات العربية تضيع الحقيقة في النهاية ما بين وجهتي نظر متناقضتين من دون بذل الجهد في التحليل المنثني للظواهر! وأول العوامل الذي يجب أخذه في الاعتبار عند تحليل موقع العرب على خريطة الإعلام المتعولم تتمثل في العامل التكنولوجي، ويتحدد في التطورات التي وقعت في تكنولوجيا البث الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية. وأتاحت هذه التطورات فرصاً متنوعة لتملك قنوات فضائية لكل من الحكومات والأفراد في العالم العربي. وأسهمت في حدوث تحول في العلاقة بين حجم المعروض من القنوات التلفزيونية من ناحية وحجم الطلب عليها من ناحية أخرى، ما تطلب إعادة هيكلة السوق التلفزيوني العربي في اتجاه منح القطاع الخاص فرصة تملك قنوات فضائية. وبالتالي فعند النظر في موقع العرب على خريطة الإعلام في عصر العولمة لا بد من النظر بعين الاعتبار إلى جهود الحكومات العربية جنباً إلى جنب مع جهود الأفراد والقوى المختلفة التي تعج بها الساحة العربية. وارتبط دخول الأفراد إلى سوق ملكية وسائل الإعلام في المنطقة العربية بعامل آخر شديد الأهمية يتمثل في العامل الاقتصادي، ويتجلى أثر هذا العمل في إطار النمو المتزايد في الاستثمارات المطلوبة لإنشاء المشروع الإعلامي، خصوصاً في المجال التلفزيوني، وعدم قدرة الحكومات على التمويل، ما فرض ضرورة إتاحة الفرصة لرؤوس الأموال الخاصة للمشاركة في ملكية القنوات. هناك عامل ثالث أقل تأثيراً في تحديد موقع الإعلام العربي على خريطة العولمة العامل السياسي، يتمثل في زيادة الاتجاه نحو التعددية السياسية وهو اتجاه دولي يختلف في درجة ايجابيته من مجتمع إلى آخر. وتعد مسألة التعددية من المعايير الأساسية التي ينبغي الالتفات إليها عند تحليل الأوضاع الديموقراطية للممارسة الإعلامية، سواء نظرنا إلى التعددية في علاقتها بمسألة الاحتكار في السوق الإعلامي أو في تأكيد عملية التنوع في المضمون الإعلامي، فالتعددية تضمن عدم تركيز ملكية وسائل الإعلام وكذلك عدم التوحد أو التشابه في المضمون الإعلامي. يمكن إذاً القول إن العاملين التكنولوجي والاقتصادي تميزا بفعالية أكبر في دفع التحول ودعم الاتجاه نحو رسملة الإعلام العربي، خصوصاً التلفزيوني، ومع صعود دور رجال الأعمال في الاقتصاد العربي في ظل تبني سياسة الخصخصة في العديد من الدول العربية منذ بداية التسعينات، ومنح القطاع الخاص فرصة أكبر لمشاركة الدولة في إدارة المشروع الاقتصادي، أما العامل السياسي فغاب تأثيره تماماً كأحد العوامل الدافعة والمدعمة لتطور الإعلام في عصر العولمة، إذ لم تظهر حتى الآن قنوات معبرة عن صوت سياسي مغاير لصوت الدولة في العديد من المجتمعات العربية. يضاف إلى ذلك أن غالبية القنوات الفضائية العربية لا تحاول في ممارساتها تجاوز الخط العام الذي تتبناه الدولة. وفي الوقت نفسه لا تزال الدولة في العديد من النماذج منها شريكاً في ملكيتها، فعند النظر إلى القنوات الخاصة على مستوى العالم العربي ككل لا بد من الانتباه إلى أن الخطوط الفاصلة بين هذه القنوات والحكومات لا تظهر بوضوح، إذ يحظى معظمها بدعم حكومي تختلف أشكاله. وترتيباً على ما سبق يصعب أن نقول إن الإعلام العربي أصبح يعبر عن حالة تعددية بالمفهوم السياسي، إذ لم يسمح لأية قوة سياسية أو حزبية - في أي مجتمع عربي - بأن تتملك قناة تلفزيونية فضائية، باستثناء لبنان. ومفهوم التعددية من المفاهيم الأساسية التي تقف وراء دعم دور أية آلة إعلامية في عصر العولمة، وترتبط بإشكالية التعددية إشكالية أخرى تتمثل في التنوع، فمن المفترض أن تنوع أنماط ملكية وسائل الإعلام يحتم ضرورة دعم فكرة الاختلاف والتباين في وجهات النظر. والمشاهد أن ما تقدمه القنوات الفضائية، خصوصاً الخاصة منها، يحاول التركيز على أداء وظيفة التسلية بصورة أساسية مع البعد عن التركيز على الأدوار التثقيفية والتربوية من خلال البرامج الإخبارية والسياسية التي تحتل مساحة محدودة من الخرائط البرامجية العربية، ويؤدي ذلك إلى تضاؤل حضور مفهوم التنوع في إطار الممارسة التلفزيونية حتى بعد تعدد أنماط الملكية. وإضافة إلى التعددية هناك إشكالية العوائد الاقتصادية للمشروع الإعلامي، وتؤدي هذه العوائد إلى دعم قدرته، خصوصاً القنوات التلفزيونية، على الاستمرار والتوسع، ومن المعلوم أن الإعلان يمثل المصدر الأول للتمويل التلفزيوني، وفي هذا الإطار تعاني العديد من القنوات الفضائية العربية من مشكلات اقتصادية تتفاوت في حدتها نتيجة بطء التدفق الإعلاني إليها. إن أي فهم لموقع الإعلام العربي بعيداً من المعطيات السابقة يؤدي إلى المزيد من العمى الثقافي والتضليل الفكري. عبدالرحمن المشايخ