يواجه الاعلام العربي ونحن على اعتاب الالفية الثالثة تحديات تتطلب أن نتعامل معها بطرق ووسائل تختلف عن الطرق والوسائل التقليدية. فالمجتمع الانساني مقبل على تغير كمي ونوعي، وهذا التغير يفرض علينا السعي نحو اكتساب مهارات ومواقف جديدة، والعمل على تجديد مناهج تفكيرنا السائدة بما يحافظ على القيم والتقاليد العربية الاصيلة وفي مقدمها الهوية القومية العربية. إن التكيف مع عالم يتسم بالتغير السريع يتطلب تقبل ما هو ايجابي يتفق مع تراث الأمة العربية وثقافتها، وعدم الانكفاء على أفكار مغلقة على الماضي، والحرص على أن تكون الافكار اكثر واقعية وشفافية، بحيث يشكل الاهتمام بالمستقبل واستشرافه نوعا من الانذار المبكر ينبهنا إلى ما نحن مقبلون عليه. ولا شك أن التشخيص الموضوعي والصريح لأبرز التحديات التي يجابهها الاعلام العربي تظل الهاجس الأكبر، الذي يتطلب المواءمة بين التقدم التقني الهائل في وسائل الاعلام والاتصال، وبين العمل على تشكيل البناء الفكري للجمهور العربي سواء كان مستمعاً أو مشاهداً، ومعالجة القضايا والأحداث التي توحد الأمة بشكل يعزز من قوة التلاحم العربي، والبعد ما أمكن عن إثارة المواضيع والقضايا والاحداث التي تزيد من أسباب الفرقة بين ابناء هذه الامة، وكل ذلك في اطار التعدد والتقدم غير المسبوق في قنوات البث الفضائي ومصادرها وتوجهاتها، وأثر ذلك على الهوية الثقافية العربية. لقد صار التدفق الاعلامي أحد مظاهر العولمة التي هي سمة هذا العصر، وذلك يدفعنا الى بيان ماهية العولمة وأثرها على الاعلام العربي. إن مفهوم العولمة، على رغم أن البعض مازال يعتبره حتى هذه اللحظة مشروعا قيد التنفيذ، يشير الى علاقات القوة والاقتصاد والاتصال، وينطوي على تفعيل تأثير التطورات العالمية على الأنظمة الوطنية كافة، ومنها النظام الاعلامي. ويذهب العالم الاقتصادي الأميركي فوكوياما الى القول إن العولمة أصبحت اليوم ظاهرة حتمية تعتمد على ثلاثة أسس: 1 - تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. 2 - حرية التجارة الدولية. 3 - التوسع في الأسواق العالمية. وأحدثت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ثورة في المجالات كافة، وأدت الى حدوث نوع من التكامل بين التجارة الحرة، وارتفاع أداء القطاع الاقتصادي بعد التحرر من التنظيمات الحكومية. كما أدت ظاهرة العولمة الى إحداث تطور سريع في وسائل الاتصال أدى بدوره الى زيادة الترابط بين المجتمعات والمؤسسات والأفراد على نطاق العالم، الأمر الذي جعل المسافات الجغرافية أقصر والشعور الانساني أقرب، كما أدى الى التوسع في نطاق العلاقات الاجتماعية التي تحكم حياتنا اليومية وعبرت بها من السياق المحلي الضيق الى السياق الدولي الشامل. أما التأثير الأقوى لتقنيات الاتصال فكان أكثر وضوحاً في نمو العديد من وسائل الاعلام التقليدية. ففي سنوات السبعينات وما قبلها، كان التلفزيون يكاد أن يكون وسيلة الاتصال المحلية في الغالب، وكان جمهوره ضخما الى حد بعيد. أما اليوم فان التلفزيون يتجه في أنحاء العالم الى اكتساب شخصية دولية بفعل تقنية البث الجديدة وزيادة عدد قنواته، الأمر الذي أدى الى تزايد اعداد المشاهدين. ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير الى أن شعوب أكثر من 67 دولة كانت في نهاية الستينات لا تستطيع أن ترى سوى قناة واحدة أو اثنتين، واليوم لم يتبق من هذه الدول دولة واحدة إلا وفيها العديد من القنوات. ونشير أيضا الى أن أوروبا شهدت نموا متزايدا في عدد الشبكات والقنوات التجارية، من 26 العام 1980 الى 90 قناة في العام 1995. وخلال العام المقبل فإن 6،72 مليون منزل من اجمالي 152 مليون منزل في اوروبا ستتمكن من استقبال محطات نظام "استرا" منها 56 في المئة عبر شبكات الكيبل والبقية عبر اطباق الاستقبال. وتشهد معدلات الاشتراك في أنظمة الكيبل توسعاً ملحوظاً في بلجيكا والسويد وفرنسا، ومعدلات نمو آخذة في التزايد في البرتغال وايطاليا واليونان وأسبانيا. أما في الولاياتالمتحدة الاميركية فإن معدلات الزيادة تنذر بالاقتراب من درجة التشبع. وفي اوروبا الشرقية ساهم انهيار النظام الشيوعي في توسع قنوات التلفزيون على أساس تجاري، كما في توسع هائل في الاصدارات الصحافية. وشهدت آسيا واميركا اللاتينية توسعا هائلا في وسائل الاعلام بفضل عوامل كثيرة، منها النمو الاقتصادي الذي شهدته آسيا قبل أن تعصف بها الأزمة الاقتصادية التي واجهتها أخيراً. صار مفهوم العولمة إذن مرتبطا بالتطور الهائل في وسائل الاتصال والثورة الاعلامية، وشبكة المعلومات والانترنت، وبدأت العولمة تمارس فعلاً دورها ولم تعد مجرد مفهوم، بل صارت ممارسة وسلوكا يوميا وعملية مستمرة تنمو وتتطور على الدوام، الأمر الذي أدى بالبعض الى القول أن العولمة ظاهرة حضارية أسهمت في تحويل العالم الى قرية كبيرة تتلقى التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاعلامية نفسها بشكل آني. وتشَّبه العولمة بشبكة الانترنت لجهة أن أية دولة وأية مؤسسة، بل وأي شخص على وجه الأرض، يمكن أن يستفيد من المعلومات والمعطيات الموجودة على الشبكة، ويستطيع في الوقت ذاته أن يضخ في الشبكة ما يشاء من المعلومات والمعطيات. ويأمل البعض بأن تصبح العولمة عملية تبادل منافع عندما يتطور العالم إلى مرحلة تعدد الأقطاب المتكافئة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. ووسائل الاعلام العربية تأثرت بظاهرة العولمة، وشهدت صناعة التلفزيون، على سبيل المثال، نمواً كبيراً في عدد المحطات التلفزيونية، خصوصاً الفضائية خلال التسعينات، بحيث أصبح لكل دولة عربية تقريبا قناة فضائية على الأقل، بالاضافة الى القنوات الفضائية العربية الخاصة. وحرصت جامعة الدول العربية على أن تنشئ في اطارها منظومة متكاملة من الفضائيات تكفل للاعلام العربي البقاء الواثق في ساحة الاعلام الدولي، فكانت مجموعة اقمار "عربسات" التي انطلق أول أقمار جيلها الثالث في شهر شباط فبراير الماضي مستخدما تكنولوجيا الضغط الرقمي ومتكاملاً في هذا مع القمر المصري "نايل سات 101" الذي شكل اضافة مهمة، ليوفرا للمشاهد العربي داخل عالمه وخارجه بديلا عربيا متنوعا. وعلى رغم هذه المحاولات الجادة والحثيثة والرامية الى زيادة عدد الأقمار الاصطناعية العربية في مجال قدرة الاعلام العربي على دخول عصر الفضائيات الكبرى لتغطي المنطقة العربية في مواجهة حوالي 21 قمراً اصطناعياً أجنبيا تبث حوالي 145 قناة، يتم التقاطها في العالم العربي، إذ لوحظ أن الازدياد الكبير في عدد القنوات التلفزيونية العربية، خصوصاً القنوات الفضائية الحكومية والخاصة، لم يواكبه ازدياد مماثل في حجم الانتاج السينمائي العربي الذي تراجع بشكل كبير العام 1998، بحيث لم يتجاوز 33 فيلماً، منها 16 فيلماً مصرياً، ويعود هذا التراجع الى أسباب عدة منها الكلفة العالية للانتاج السينمائي العربي، وارتفاع أجور الفنيين والفنانين خصوصاً النجوم، فضلاً عن عدم وجود الموازنات الكافية للانتاج السينمائي، لدى القطاع العام أو القطاع الخاص، وعدم وجود تشريعات كافية في البلدان العربية لحماية صناعة السينما وتشجيعها على الانتاج، وحمايتها من القرصنة، وغياب الأسس والضوابط المتعلقة بتوزيع الافلام. وترتب على ذلك أن دعا الاجتماع المشترك للجنة العربية العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية والجهات المعنية بالانتاج السينمائي العربي الى ضرورة العمل على تنشيط الانتاج السينمائي العربي وحمايته. وناشد الاجتماع اللجنة الدائمة للاعلام العربي ومجلس وزراء الاعلام العربي ايلاء موضوع دعم الانتاج السينمائي العربي، وحل مشاكله اهتماما أكبر. ويأتي ذلك في اطار الجهود العربية التي تبذل من خلال جامعة الدول العربية للارتقاء بالانتاج السينمائي العربي. ولا شك أن ذلك يأتي في وقت تزايد عدد مستخدمي القنوات الفضائية، إذ يقدر البعض عدد مستخدمي هذه القنوات بنحو عشرة ملايين مشاهد عربي داخل العالم العربي وخارجها في حين يقدر هذا البعض أن هناك نحو 5،2 - 3 ملايين طبق العام 1994، منها 000،400 - 000،500 في مصر، ومليون وثلاثمئة ألف في منطقة الخليج. وصاحب هذا النمو في عدد المحطات التلفزيونية العربية نمو آخر في معدلات ملكية اجهزة التلفزيون في العالم العربي، إذ حقق نمو ملكية اجهزة التلفزيون في منطقة الشرق الاوسط 3،43 في المئة خلال عقد الثمانينات، ومن المتوقع ان يصل معدل النمو في هذا العقد الى 7،34 في المئة مقارنة بالمعدل العالمي لنمو ملكية اجهزة التلفزيون، وهو 4،48 في المئة خلال الثمانينات، 7،31 في المئة خلال التسعينات. وبالنسبة الى الصحف والمجلات العربية فهي الأكثر تأثرا حتى الآن بظاهرة العولمة. وحققت وسائل الاعلام المطبوعة عالميا نموا يتراوح بين 32-34 في المئة في التسعينات. وينتمي الكثير من الاصدارات الصحافية الجديدة الى تلك النوعية من الصحف التي تصدر من خارج العالم العربي، وبلغ عدد هذه الصحف والمجلات نحو 54 مجلة وصحيفة العام 1991 ما بين يومية وأسبوعية وشهرية وربع سنوية. في الختام نستطيع ان نؤكد أن وسائل الاعلام في عصرنا تعددت وحملت معها التعدد في الافكار بين الشرق والغرب وما تبع ذلك من مصالح اقتصادية للتكتلات الدولية، وما افرزته من اشكال في التبعية الاقتصادية أو الاعلامية أو السياسية. وشكل انتشار الفضائيات الاذاعية والتلفزيونية تحدياً ثقافياً وحضارياً لأمتنا العربية، الأمر الذي يضع على عاتق الاعلام العربي مسؤولية كبرى تتطلب منه العمل على امتلاك التقنية المتطورة، ونشر الوعي لدى الانسان العربي، وتعريفه بأهم وأبرز قضايا العالم العربي والقضايا الدولية وما يدور حوله بموضوعية مؤثرة وبما يعزز انتماءه الى الأمة، وصقله بتراث أمته وثقافتها وقيمها، والارتقاء بوسائل الاعلام لتتفاعل مع ظاهرة العولمة، وبما يحافظ على الهوية القومية العربية، وصيانة مصالحها وأهدافها الاساسية. ان ذلك يتطلب توفير الاجهزة التقنية التي تواكب تطور وسائل الاتصال العالمية عن طريق التحديث المتواصل للمؤسسات الاعلامية العربية، واعداد العاملين في الحقل الاعلامي سياسياً وثقافياً وفكرياً ومهنياً، حتى تتمكن وسائل الاعلام من القيام بالدور المنوط، بها، وتوثيق التعاون بين اجهزة الاعلام العربية كافة للارتقاء بمستوى الانتاج الاعلامي العربي كي يتعامل ايجابياً مع ظاهرة العولمة. ولا شك ان ذلك يتطلب تحسين الاداء العام لاجهزة الاعلام العربية، ووضع اعمالها في المسارات الصحيحة لمواجهة أية سلبيات قد تنتج عن العولمة. وتوسيع التعاون بين اجهزة الاعلام العربية، وتفعيل حضور اجهزتها الاعلامية العربية وتوسيع انتشارها، وتكثيف حضورها بهدف تقديم صورة واقعية لتطور العالم العربي وثقافته الوطنية والقومية. فضلا عن توثيق التعاون الاعلامي العربي الثنائي والجماعي، وتوظيف الامكانيات لتحقيق الحد الادنى من العولمة العربية التي تحصن المواطن العربي إزاء الافكار والقيم والسلوكيات الوافدة عبر الفضائيات الدولية والتي هي بعيدة عن قيمنا ومعتقداتنا. اننا نؤكد على ان مهمة الفضائيات العربية في عصر التدفق الاعلامي كبيرة وصعبة وتتطلب العمل على شرح وجهة النظر العربية بموضوعية بغية تشكيل رأي عام لدى شعوب العالم يتعاطف مع قضايانا المصيرية، ولنكون حاضرين على الساحة الثقافية الدولية ونملك أدوات التأثير بقوة وفاعلية. * مستشار الامين العام لجامعة الدول العربية