ابن خلدون ومالك بن نبي رحمهما الله علمان بارزان في فكرنا الإسلامي، ولكن يبدو أنهما جاءا في غير وقتهما فلم تستفد منهما الأمة. وكلاهما درس الوضع الاجتماعي للأمة وحاول تشخيصه واستخلاص السنن والقواعد الحاكمة للسلوك البشري الاجتماعي. ابن خلدون جاء في زمن ضعف فيه الفكر الإسلامي وانتشرت فيه بعض التيارات التي تنصر الخرافة تحت اسم الكرامات وخوارق العادات، وتعطل الأسباب، فلم يكن لرؤيته المبدعة التي تدرس السلوك الاجتماعي دراسة موضوعية نصيب من النظر والدراسة والتطوير، ولهذا أهملت مقدمة ابن خلدون التي أسس بها لعلم الاجتماع إلى أن اكتشفتها أوروبا. أما مالك بن نبي فكان حظه من عناية أبناء عصره أفضل من نصيب ابن خلدون في وقته إلا أن ما ناله من الدراسة أقل مما يستحقه، ولعل سبب ذلك بعض الظروف السياسية وربما خلافه مع سيد قطب في مفهوم الحضارة وهو ما جعل كثيراً من أبناء الصحوة في المشرق يزهدون فيه إلى وقت قريب. كلا العلمين ناقش ضعف الأمة وهزيمتها، ورؤيتاهما تكمل إحداهما الأخرى، ابن خلدون تحدث عن تقليد المغلوب للغالب وجعل ذلك قاعدة من قواعد السلوك التي تتبعها أي أمة مغلوبة فهو يقول في مقدمته"الفصل الثالث والعشرون"ان المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه... أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب.."ص 133، طبعة دار الشعب. ربما يكون تحليل ابن خلدون ليس محيطاً بالظاهرة من جميع جوانبها، فليس كل مغلوب مولعاً أبداً بتقليد الغالب، فهناك من المغلوبين من يقاوم الغالب ويغالبه حتى ينتصر عليه ويتحرر من ربقته. وهذا ينقض اطّراد القاعدة عند ابن خلدون وشموليتها. ولكن يمكن القول باطراد النظرية لو أن باحثاً حرر مقصد ابن خلدون من الغلبة، فإذا كان مقصده بالغلبة الهزيمة الداخلية فلاشك أن نظريته تطّرد، وهنا يلتقي مع ماذكره مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار. والقابلية للاستعمار ? كما يراها بن نبي - حالة خاصة تصيب بعض الشعوب فتستخذي للهزيمة وتقبل الاستسلام للخصم والوقوع تحت سلطته، وهي تصيب بعض الشعوب حتى ولو لم تكن استعمرت قط. والقابلية للاستعمار هي أسوأ ما يمكن أن ينتج بسبب الصراع بين الأمم والحضارات، ذلك أن الشعب القابل للاستعمار يعيد تعريف حضارته وأدبه وتاريخه وثقافته وفق رؤية المستعمر فيستقبح من ذلك ما يستقبحه المستعمر، ويستحسن منه ما يستحسنه المستعمر. وخلال هذه العملية يتخلص من مظاهر القوة في ثقافته ومن كل ما يميزه عن مستعمره. ولو أردنا أن نجمع بين ابن خلدون ومالك بن نبي لقلنا إن القابلية للاستعمار دفعت الشعب أو فئات من الشعب إلى أن يقلد المستعمر. ولكن ما القابلية للاستعمار؟ يجيبنا مالك بن نبي بأنها هزيمة داخلية. ولكن ماذا يعني ذلك؟ يعني أن طائفة من الناس تشعر أن بقاءها مرهون بوجود المستعمر وتأييده، فهي إذن ترضى أن تسير في ركابه وتعيش في كنفه وتدافع عنه وتحسن ما يستحسنه وتقبح ما يستقبحه لتستمتع بالبقاء تحت سيادته. والمستعمر يبحث عن هذه الفئة من الناس التي لديها القابلية للاستعمار والتي تعيش هزيمة داخلية لأنهم رسله الذين يوطئون الوطن لمقدمه ويمهدون البلاد له. وإذا لم يجدهم فإنه يسعى لإنشاء ظاهرة القابلية للاستعمار عند من يريد استعماره مستخدماً عدداً من الوسائل الإعلامية والسياسية والعسكرية، فالقوة المفرطة والاعتداء على كرامة الشعب والسخرية بثقافته وهويته وخياراته، القصد منها كسر إرادة الشعب، وتحطيم خيار المقاومة عنده وهزيمته النفسية. * أكاديمي وكاتب سعودي