في الواقع، ليست المسألة أن نكون مع أو ضدّ اليسار، لكن المسألة أيّ يسار نعني، وأيّ يسار تحتاج إليه الثورات العربية بالنظر إلى مكامن النكوص؟ تقولون إن ماركس لا يزال ضرورياً. أقول وهو كذلك، لكن ماركس وإن كان لا يزال ضرورياً لأجل نقد الاقتصاد السياسي وبناء الممارسة النقدية والثورية، إلاّ أنه لم يعد كافياً. الحس السليم يقول: إن بعد ماركس مياهاً كثيرة جرفتها مياه أخرى. يصدق هذا القول حتى على ما يسمّى بالماركسية الكلاسيكية نفسها اللينينية، التروتسكية، الماوية، الشيوعية الأوروبية، إلخ. بعد هذا، أليس الحكيم هيراقليطس هو من أخبرنا أننا لا نسبح في النهر الواحد مرّتين؟ نعم، هناك مياه نظرية جرفت مياه اليسار العالمي منذ أزيد من نصف قرن، وبدأت روافد جديدة ومتنوعة تصب في النهر اليساري الكبير، بعيداً من أهوال إمبراطوريات الرّعب الشيوعي. ما الجديد؟ بعض الرّوافد ينبع من فلسفة نيتشه جان بودريار ومشيل أونفراي، مثلاً، وبعضها يعود إلى فرويد وليام رايخ وإريك فروم، مثلاً، وبعضها يعود إلى ما يسمى بقيم ما بعد الحداثة ميشيل فوكو وجاك ديريدا وإدوارد سعيد، مثلاً، إلخ. وكل هذا طبيعي"فداخل اليسار لا توجد وصايا مقدسة. أما عن الحركات الاجتماعية التي التحقت بركب اليسار العالمي، وبمعزل عن المتن الماركسي الذي لا يزال يحظى بقداسة اليساريين الأرثودوكس، فإنها أكثر من أن تحصى: البيئيون، مناهضو العولمة، مناهضو الحروب، مناهضو الجنات الضريبية، المثليون، لاهوت التحرير، اللاهوت النسائي، إلغاء عقوبة الإعدام، حقوق الحيوانات... إلخ. سؤالي على وجه التحديد، أي يسار يحتاجه الرّاهن العربي؟ يسار العقل الأداتي أم يسار العقل التواصلي إذا استلهمنا بعض مفاهيم هابرماس؟ يسار المجتمع المفتوح أم يسار المجتمع المغلق إذا استلهمنا بعض مفاهيم كارل بوبر؟ يسار الوعي الخطي أم يسار الوعي المركب إذا استلهمنا بعض مفاهيم إدغار موران؟ يسار الإنسان المتعدد الأبعاد أم يسار الإنسان ذي البُعد الواحد إذا استلهمنا بعض مفاهيم هربيرت ماركيوز؟ وإجمالاً يسار"النصوص المقدسة"أم يسار إرادة الحياة إذا استلهمنا المنظور النيتشوي؟ واضح أننا نحتاج إلى يسار أكثر فاعلية، أكثر جرأة، وأكثر تنوعاً وانفتاحاً على الحياة بكل أبعادها. نحتاج إلى يسار مركب، ومفتوح، ومتعدد الأبعاد. أي إلى ما يُسمى باليسار الاجتماعي والقادر على تطوير العمل النقابي والكفاح المطلبي وتحسين شروط العمل والإنتاج والخدمات الاجتماعية وظروف الحياة وسط بيئة غارقة في الفقر والبؤس والتفاوت. لكننا أيضاً نحتاج إلى ما يُسمى باليسار الليبرالي والقادر على النضال من أجل الحريات الفردية بكافة ابعادها الدينية والجنسية والسياسية وداخل بيئة غارقة في المحافظة والتقليد. نحتاج إلى ما يسمى باليسار الجمهوري لأجل ترسيخ قيم المواطنة والعيش المشترك. لكننا نحتاج في المقابل إلى ما يسمى ب"يسار الأقليات"لأجل حماية حقوق الأقليات في العيش المختلف. نعم، نحتاج إلى يسار يستلهم ماركس لأجل المحافظة على ما يسميه ألان باديو ب"الفرضية الشيوعية"، لكنه يؤمن تبعاً لهذا بأن التغيير هو الحقيقة الوحيدة الباقية. وذلك لغاية ترسيخ قيم المساواة بكل أبعادها وسياقاتها ومتغيراتها، لكننا نحتاج أيضاً إلى يسار يستلهم نيتشه لأجل ترسيخ قيم المبادرة والإبداع، وروح المغامرة والاندفاع، والطموح الإنساني نحو السمو ونحو الأفضل. يحتاج العالم العربي وعلى حد سواء، إلى يسار حداثي، وإلى يسار ما بعد حداثي، وإلى يسار إسلامي أيضاً: - يسار حداثي، على طريقة سمير أمين ومهدي عامل وغازي الصوراني"لأننا مجتمعات لم تبلغ بعد عتبة الحداثة. - يسار ما بعد حداثي على طريقة إدوارد سعيد وعبدالكبير الخطيبي وعلي حرب"لأننا لا نريد أن نعيد إنتاج التجارب الفاشية والنازية والتي صعدت باسم بعض مفاهيم الحداثة نفسها. - يسار إسلامي على طريقة عبدالفتاح مورو وصلاح الدين الجورشي ومحمد خاتمي وعبدالكريم سروش"لأننا لم ننجز بعد مهام الإصلاح الديني. نحتاج إلى يسار بأبعاد متعددة، بل بكل الابعاد. تلك هي خلاصة المسألة اليسارية اليوم. * كاتب مغربي