هناك بالتأكيد في الحياة الثقافية والاقتصادية في عالم اليوم، نوع من إعادة الاعتبار لكارل ماركس، ولاسيما - على ضوء الأزمة المالية الاقتصادية التي تضرب العالم منذ أسابيع - إعادة اعتبار لكتابه الأساس"رأس المال". وإذا كان هذا الواقع يبدو للبعض جديداً ومفاجئاً، فإنه في الحقيقة ليس جديداً على الإطلاق، بل هو ملحوظ منذ ما يقرب من عشرين عاماً. وفي شكل أكثر تحديداً منذ سقوط جدار برلين عام 1989 كإشارة الى انهيار الأنظمة الشمولية الاشتراكية في شرق أوروبا، وبالتالي انهيار حكم الأحزاب الشيوعية التي لم يفتها ان تعلن، دائماً، انتسابها إلى فكر كارل ماركس. واللافت ان إعادة الاعتبار، منذ كُتُب جاك ديريدا والعدد الخاص من"الماركسية اليوم"لندن 1999، والعدد الخاص من مجلة"نوفيل أوبسرفاتور""ماركس مفكر القرن 21"- 2004، تتخذ طابع الفصل التام بين ماركس العالِم والفيلسوف والمفكر الاقتصادي، من جهة، وماركس الآخر الإيديولوجي المنظّر للشيوعية من جهة أخرى. وهو فصل لم يكن بدوره جديداً، إذ نعرف ان مفكرين كباراً، من اهل"اليمين"بخاصة، مارسوه، حتى في ذروة تألق الفكر الماركسي بشقّيه الإيديولوجي والفكري، وكان من بين هؤلاء، خصوصاً، المفكر الفرنسي ريمون آرون، الذي على رغم دراساته وكتبه ومحاضراته المناهضة للفكر الشيوعي، وضع بعض أفضل الدراسات عن الفكر الاقتصادي لكارل ماركس. وإذا كان ماركس المفكر الاقتصادي عاد الى الواجهة، كان من المتوقع ان يعود معه، في هذا المجال على الأقل فكر ريمون آرون، الناقد والمنصف في آن معاً. لكن عودة آرون لم تحصل حتى الآن، في شكل مباشر على الأقل. ونقول العبارة الأخيرة، لأننا نلاحظ، في فرنسا خصوصاً، ان عدداً من مفكري اليمين الذين يحاولون ان يتصدوا لپ"عودة ماركس"إنما يستخدمون في محاججاتهم، أفكاراً ومواقف منتزعة من كتب ريمون آرون ودراساته الأساسية، من دون حتى ان يشيروا الى ذلك، كما لو أن فكر آرون المناهض للستالينية اصبح مشاعاً عاماً، يمكن الغرف منه دون ذكره. أما كتاب ريمون آرون الأشهر في هذا المجال، والذي يُتكأ عليه كثيراً في أيامنا هذه راجع كتابات آلان منك، وسورمان، وفنكلرافت، وجاك آتالي بين آخرين، فهو بالطبع دراسة"أفيون المثقفين"، التي تعتبر من أكثر أعماله شعبية، وأكثرها تبسيطاً في آن معاً. ما يجعل الكتاب يبدو، على رغم علميته ودقة تحليله، وكأنه بيان يأتي رداً على نزعة ما. والحقيقة انه كذلك، الى حد ما. فآرون أصدر الكتاب عام 1955، في وقت كان فيه الفكر اليساري، الفرنسي خصوصاً، استعاد هيبته وسلطته - وخصوصاً على يد جان بول سارتر - بعد موت ستالين، وصار مالئ الدنيا وشاغل الناس في الأوساط الثقافية الفرنسية، وفي وقت كان فيه الحزب الشيوعي الفرنسي يسجل اكثر من 25 في المئة من أصوات الناخبين، ويشعر بالعار الفكري، أي مثقف"يتهم"باليمينية. في ذلك الإطار، وضع آرون كتابه وأصدره على شكل كتاب سجالي وكتاب معركة. وهكذا استُقبل وقُرئ على اية حال. غير انه، مع الوقت، ومع خيبات الأمل إزاء حلم العدالة الشيوعي، وإزاء الحيز التحريري الذي مثله تقرير خروتشيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، مع نمو نزعة يسارية واضحة معادية للستالينية، استعاد"افيون المثقفين"مكانته ككتاب علمي. وهو ما نرجح حصوله من جديد في هذه الأيام، وليس فقط من اجل الرد على"عودة ماركس"، بل كذلك، وخصوصاً، من اجل كشف"استعارات"الفكر اليميني في محاججاته، من فكر آرون. والحقيقة ان من الصعب، بعد كل شيء، ان نقول اليوم إن"أفيون المثقفين"يشكل رداً ما، على"عودة ماركس"ذلك ان الكتاب، وعلى عكس ما قد يتصور البعض، ليس كتاباً معادياً لماركس، بل لاختباء أنماط معينة من"مثقفي اليسار"وراء كارل ماركس. ومن هنا فإن الكتاب هو أشبه بدراسة سوسيولوجية سيكولوجية لتلك العلاقة التي أقامها مثقفو اليسار مع فكرة اليسار نفسها، وبالتالي مع فكرة الثورة ومبدأ التقدم. ذلك ان آرون يخبرنا منذ البداية، كيف ان انبهار المثقفين بالفكر اليساري التقدمي، جعلهم يتعاملون مع الثورة، كل ثورة، على أساس انها ثورة يسارية، في الوقت الذي يطلقون فيه اسم"انقلاب"على كل"ثورة"تنتمي الى اليمين. إذاً، منذ البداية يشتغل آرون على موضوعه عند المستوى اللغوي ومستوى المصطلحات. غير ان هذا ليس سوى الجانب التقني من الأمر، أي الجانب الذي يغلف آرون فيه موضوعه الأساس المنطلق من السؤال التالي:... لماذا ينبهر المثقفون بفكرة اليسار؟ للإجابة على هذا السؤال ينطلق آرون من نقطة تعجب فحواها ان هذا الانبهار يأتي، دائماً، في وقت تكون فيه الأحداث والتطورات التاريخية كذّبت كل التوقعات ولكن ليس التحليلات الماركسية وپ"اليسارية"في شكل عام. مهما يكن فإن آرون لا يجيب هنا مباشرة، بل ينتقل فوراً الى موضوعه مفصلاً كيف ان"اليسار"يقع عادة ضحية لأنواع عدة من الأساطير التي يبنيها لنفسه، ثم ينطلق منها. واللافت ان أول نوع هو المتعلق بفكرة اليسار نفسها، انها - لدى اهلها - اسطورة"تحركها ثلاث أفكار: الحرية ضد التعسف، التنظيم من اجل فرض نظام ما، لا يكون تقليدياً إنما عقلانياً، وأخيراً المساواة في وجه الامتيازات". اما الأسطورة الثانية فهي - وهذا ما أشرنا إليه أعلاه - ان الثورة في طبيعتها يسارية تقدمية. ويلفتنا آرون هنا الى ان"الثورة على النمط الماركسي لم تحدث لسبب بسيط وهو ان مفهومها نفسه مفهوم اسطوري: ذلك ان الحقيقة تفيدنا بأن لا تطور القوى المنتجة ولا نمو الطبقة العاملة، تمكنا من قلب النظام الرأسمالي، بل انهما لم يعدّا هذه القوى والطبقة لإحداث ذلك. أما الثورات التي أعلنت انتماءها الى البروليتاريا، فإنها في حقيقتها لم تكن أكثر من حلول نخبة ما، محل نخبة أخرى، بحيث انها لا تقدم لنا أي سمة تجعلنا قادرين على اعتبارها نهاية حقيقية للتاريخ وهو الوعد الماركسي الإيديولوجي الشهير، والذي سيستعيده الأميركي - الياباني فرنسيس فوكوياما بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، لكنه لن يوفق فيه ابداً. أما الأسطورة اليسارية الثالثة، فهي نابعة من سابقتها: أسطورة البروليتاريا. فهذه البروليتاريا التي ليس لها أي وجود في الحقيقة، ليست لدى آرون، سوى مخلّص جديد يصور شبيهاً بالسيد المسيح، لدى الدين المسيحي، لكنه في الحقيقة اسم على غير مسمى. وبالتالي فإنه ليس بقادر على ان يكون فاعلاً تاريخياً. وانطلاقاً من هذا كله يتوقف آرون مندهشاً امام عبادة الفكر اليساري للتاريخ، مفنداً كيف ان الأحزاب التي تسمي نفسها"ماركسية"تشتغل مثل دوغما جامدة ناظرة الى التاريخ في"حتميته"المخترعة القائلة انه دائماً يسير في خط الى الأمام، بمعنى ان الأحداث والتعرجات لا تعود هنا سوى مراحل"بل بالأحرى وقائع لا دلالة حقيقية أو تاريخية لها في المجرى الذي يقود الى حتمية التاريخ الحقيقي. ومن هذا كله يستنتج آرون ما يسميه"استلاب المثقفين"الاستلاب الذي يجعلهم، نظرياً فقط،"عامل التاريخ الوحيد"من خلال تطويرهم للنظريات خارج إطار أي واقع ملموس. ومن هنا يصبح العبور الى الشيوعية مجرد تبدل في النخبة الحاكمة، ويتوازى هذا بالطبع مع كل ذلك اليقين الذي يحمله المثقفون في أعماقهم، ويصبح هو رائدهم في حياته، ما يخلق تلك الرومانسية الجديدة التي يتجاور فيها السياسي مع الحلم في بوتقة تشبه ما يفعله الأفيون بمتناوله. يمكننا ان نتصور كيف ان هذا الكتاب، حيث صدر في تلك الأزمان 1955 جر على ريمون آرون 1905 - 1983 الويلات الفكرية، هو الذي كان، على رغم كل الاحترام الفكري الذي يتمتع به حتى لدى خصومه اليساريين، محور القول الثقافي الشائع:"إنني أفضل أن أكون على خطأ مع سارتر، من أن أكون على صواب مع ريمون آرون". [email protected]