يطيب لإسرائيل تعريف نفسها بأنها دولة يهودية وديموقراطية، وأنها بمثابة واحة للحداثة، في الشرق الأوسط القديم، ولاشكّ أن هذه التعريفات تفترض معايير معينة، والتزامات محددة، لم تستطعهما إسرائيل تماما، لأسباب تكوينية وتاريخية، خاصة بها، ولأسباب خارجة عنها. وليس القصد من هذا الكلام الذهاب بشكل ساذج نحو نفي طابع الديموقراطية والحداثة عن إسرائيل، لمجرد أنها عدوّ، أو لنزع الصفات الإيجابية عن العدو، وإنما القصد من ذلك تبين المفارقات والإشكاليات والتناقضات التي تعتور هذه التعريفات. فكون إسرائيل دولة يهودية فقد تطلّب ذلك منها جلب اليهود من كافة أصقاع الدنيا إلى فلسطين، بدعوى إنها"ارض بلا شعب"، أي أن هذه الدولة قامت، وبشكل مسبق ومتعمّد، بعملية محو للشعب الأصلي الفلسطينيين من التاريخ، وواصلت محوه فيما بعد من الجغرافيا، عبر الإزاحة من المكان، وإعطاء أسماء ورموز يهودية للأمكنة، وترويج سردية تاريخية يهودية لها، وعبر إحلال المستوطنين اليهود فيها. ولكي تعطي مبررا لذاتها، أمام يهود العالم، ادّعت إسرائيل بأنها هي"الوطن القومي"والملاذ الآمن لهم، واعتبرت إنها تمثل اليهود في العالم. وحتى تنسجم الصهيونية اليهودية مع نفسها ومع ادعاءاتها، قامت بإجلاء غالبية أهل الأرض الأصليين، بوسائل القوة، وأخرجت من تبقى منهم بأرضهم خارج المواطنة الإسرائيلية، أو على هامشها، وضمن مجالات سياسات الأسرلة والسيطرة. فما كان لإسرائيل أن تعترف بالآخر الفلسطيني، أي بضحيتها، لأن ذلك يعني الاعتراف بجريمتها، وتقويض الصدقية الأخلاقية للصهيونية، وفضح غاياتها السياسية باعتبارها حركة استعمارية عنصرية، والتشكيك بروايتها، وكسر احتكارها مكانة الضحية في الفضاء العالمي، وتحمل المسؤولية القانونية عن ما جرى. ولما كانت اليهودية دينا، كغيرها من الأديان السماوية، فإن الصهيونية العلمانية جعلت من اليهودية قومية، أي"قومنة"الدين وديّنت"القومية"، على حساب الثقافات والقوميات المتباينة التي يتحدّر منها اليهود، وبالضد من التعريفات المعروفة للجماعة القومية. وبذلك جعلت إسرائيل ذاتها بمثابة بوتقة صهر لصناعة شعب إسرائيل، بعد أن تمت صناعة أو فبركة دولته، بأدوات هيمنة داخلية وخارجية! أما علمانية إسرائيل فتبدو مجرد قشرة خارجية، بعد أن شبّعت بالأساطير الدينية، وبتديين القومية والقومية هي مصطلح حديث وعلماني. في هذا الإطار، أي في إطار علمنة اليهودية، أو قومنتها، نشأ التناقض بين الإسرائيليين العلمانيين والمتدينين، الذي بات يعشعش في المجتمع الإسرائيلي وفي ثقافته، ورموزه، ووعيه لهويته، إلى درجة أن عديد من علماء الاجتماع الإسرائيليين، مثل باروخ كيمرلينع وإيلا شوحط، باتوا يتحدثون عن مجتمعين وشعبين، أحدهما علماني وآخر متدين. وهذا التناقض العلماني الديني، يفتح على تناقض أخر، فإذا كانت اليهودية أو الصهيونية تبرر نفسها باليهودية، أي بالدين وبالأساطير، وتحاول التعبير عن ذلك في السياسة والتشريعات، ونمط العيش، والخطابات والرموز فإن ذلك يضع إسرائيل والإسرائيليين أمام معضلة تمثّل الحداثة، والولوج في عالم المستقبل. طبعا ربّ قائل أن إسرائيل دولة حديثة بعلومها وتكنولوجيتها ومؤسساتها وإدارتها، ووسائل الاستهلاك فيها، وبالخصوص بأسلحتها، ولكنها مع ذلك دولة مازالت تعيش في غياهب التاريخ، وفي أساطير الماضي، وإلا ما معنى حديث علمانيي إسرائيل، وبعض مثقفيهم الحداثيين، عن"أرض الميعاد"، وعن وحدة"أرض إسرائيل"،"أرض الآباء والأجداد"، وعن هيكل سليمان، وعن الحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية، أو بكونها الدولة الوحيدة في العالم كذلك"فضلا عن رفضهم التعاطي مع قضية فلسطين من عام 1948، وإصرارهم على البحث فقط في هذه القضية، باعتبارها بدأت عام 1967، أي مع احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة! وبرأي عوفر شيلح فإن:"السياسة الإسرائيلية لم تتمحور حول أفكار وإيديولوجيات، ضفتين للنهر في مواجهة إنهاء الاحتلال، أو الرأسمالية في مواجهة الاشتراكية الديموقراطية. هي كانت وما زالت سياسة هويات. ولذلك يعتبر التطور الأهم للعقد الأخير سقوط إسرائيل الأولى وصعودها وليس انهيار التطلع إلى ارض إسرائيل الكاملة أو انتصار السوق الحرة كما يظنون"يديعوت أحرونوت 24/3/2006. هكذا فإن إسرائيل التي تدعي العقلانية والحداثة، تغوص عميقا في الخرافة، وتبرر ذاتها بالأساطير العتيقة، وبميثولوجيات دينية. وبينما تدعي إسرائيل محاربة الأصولية الإسلامية، فإنها ترسخ أصوليتها الدينية. ومن ذلك فإن إسرائيل هذه التي تعاند بين الدين والعلمانية، وبين الأسطورة والحداثة، والماضي والمستقبل، هي ذاتها إسرائيل التي تعاند عملية التسوية والاعتراف بالأخر الفلسطيني، وانسانيته، بما في ذلك حقه في العدالة والمساواة. أما بالنسبة للديموقراطية، فقد استطاعت إسرائيل أن تبني دولتها ونظام السياسي وعلاقاتها المجتمعية الداخلية، على قواعد مؤسسية وقانونية وديموقراطية. بل إنها استطاعت أن تأخذ شكلا أكثر تمثّلا للديموقراطية، بانتهاج شكل الانتخابات النسبية، أي التي تجري على أسس القوائم الحزبية والانتخابية، لا على أسس عائلية ومناطقية، ما يعزز الاندماج الاجتماعي فيها. وعلى رغم أهمية الانتباه إلى أن الديموقراطية تشكل أحد عوامل قوة إسرائيل وتفوقها، على العالم العربي، فإن ما يجب الانتباه إليه أيضا أن الديموقراطية الإسرائيلية تتضمن تناقضات كبيرة، وتخضع لعوامل السلطة والهيمنة والتحيزات السياسية، في مجتمع قلق ومتقلب ومتغرب بامتياز. وهذه هي دلالة التحولات الدراماتيكية في السياسة الإسرائيلية. الأهم من كل ذلك، ومثلما أن علمانية إسرائيل كانت ناقصة، وتتضمن تناقضات، فإن ديموقراطيتها جاءت كذلك أيضا، فكيف يمكن التسليم بديموقراطية دولة تقوم بإلغاء هوية جزءا من مواطنيها فلسطينيي 48؟ وكيف يمكن الحديث عن دولة ديموقراطية وهي تحتل أراضي الآخرين وتسيطر على شعب أخر بوسائل القوة؟ ثم كيف يمكن لدولة ديموقراطية أن تسمح لنفسها بأن تشن حربا غير متكافئة البتة، وحربا مدمرة ضد شعب أخر؟ وفوق ذلك فكيف لدولة أن تدعي الديموقراطية وهي تعتبر نفسها دولة يهودية، في الوقت ذاته؟ فهل تستقيم الديموقراطية مع السياسة العنصرية، وهل تستقيم الدولة الدينية، اليهودية، مع العلمانية والحداثة؟ وهل تستقيم الديموقراطية والحداثة مع الروح الاستعمارية والحربية التي تعشعش في المجتمع الإسرائيلي، بسبب هيمنة الثقافة الصهيونية والأحزاب اليمنية المتطرفة عليه؟ الواقع أن كل شيء بالنسبة لإسرائيل يبدو ناقصا، أو معكوسا، فهذه الدولة، بنظر أصحابها، قامت على اعتبارها قيمة مطلقة، بل ومصدرا لكل القيم الأخرى، في نوع من النظرة العنصرية الاستعلائية المتغطرسة، لذلك فهي تعتبر نفسها دولة فريدة، بمعايير استثنائية، فهي علمانية ودينية، وحداثية وقديمة، وديموقراطية، ويهودية. والواقع فإن هذه التناقضات التي تعيشها إسرائيل تحث بها نحو التطبيع مع محيطها، ونحو التحول إلى دولة شرقية، وقديمة، مثلنا، أي دولة تعيش على سياسات الهوية، والأساطير الدينية، وجبروت القوة، خارج نسق الحداثة والتاريخ الجديد، أي خارج نسق القانون وحقوق الإنسان وعولمة القيم. هكذا فإن إسرائيل هذه تتجه نحو أن تكون مثلنا، فما العمل؟! * كاتب فلسطيني. نشر في العدد: 16771 ت.م: 05-03-2009 ص: 14 ط: الرياض