بداية، ومنعاً للالتباس، ليس للعنوان أي صلة بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» لصاحبه شمعون بيريز (1991)، ولا بمشروع «الشرق الأوسط الكبير» لصاحبه جورج دبليو بوش (2002). ذلك أن هذين المشروعين ذهبا أدراج الرياح بسبب عدم نضج إسرائيل للتسوية وممانعتها التحول إلى دولة عادية في المنطقة، وليس بسبب رفضهما، أو مقاومتهما، من قبل الأطراف العربية المعنية فقط. وكانت إسرائيل توخّت، في المشروع الأول، فصل قضية انسحابها من الأراضي المحتلة عن العلاقات الإقليمية (لا سيما الاقتصادية)، بحيث بدت وكأنها تريد أخذ «جوائز» عن احتلالها لمدة عقود لهذه الأراضي، من دون الانسحاب منها؛ بالنظر إلى اعتبارها ذاتها في «معسكر» الرابحين من المتغيرات الدولية والإقليمية حينها (انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية)! أما المشروع الثاني ففشل بسبب التداعيات الناجمة عن احتلال العراق، وتقويض بنى الدولة فيه، كما بسبب الشبهات التي أثيرت حول هذا المشروع عند الحكومات والمجتمعات في البلدان العربية (كل لأغراضه). ويأتي ضمن ذلك محاولة إدارة بوش إدارة الظهر لعملية التسوية، ومجاراة إسرائيل في تهميش قضية الفلسطينيين، وسحبها من إطار التداول الإقليمي؛ الأمر الذي نجم عنه تشجيع إسرائيل على معاودة احتلال المناطق التي تسيطر عليها السلطة في الضفة، وتقويض اتفاقات أوسلو. على أي حال ما يعنينا هنا، الآن، بروز ظاهرتين متعاكستين في المنطقة، أولاهما، وتتمثّل بإسرائيل التي باتت، في سياساتها وقوانينها وأيديولوجيتها، تبدو بمثابة دولة شرق أوسطية، تنتمي إلى الماضي أكثر من انتمائها إلى الحاضر، أي استبدادية ومنغلقة وعنيفة ومتزمّتة دينياً. في حين تتمثّل الظاهرة الثانية بمحاولة مجتمعات كثيرة من البلدان العربية كسر الصورة النمطية التي رسمت لها، والتحرر من أسار الماضي والدخول في المستقبل، من خلال محاكاة العالم والإمساك بأسباب الحداثة؛ وهو ما تبشر به الثورات الشعبية (الشبابية) على رغم كل التعقيدات والصعوبات المحيطة بها. هكذا فإن إسرائيل، التي طالما دأبت على الترويج لنفسها باعتبارها بمثابة «واحة» للحداثة والديموقراطية والعلمانية في «صحراء» الشرق الأوسط، باتت تبدو وكأنها بمثابة كيان «خرافي» مقبل من الأساطير التوراتية. ومعلوم أن إسرائيل هذه لا تكتفي بحرمان شعب من أرضه وحقوقه، وتبرير قيامها، بالأساطير الدينية فقط (قصة «أرض إسرائيل» و «أرض الميعاد» و «شعب الله المختار») وإنما هي باتت تعتبر الدين بمثابة المصدر الأساس لتشريعاتها القانونية كما للسياسات التي تنتهجها، بما في ذلك السياسة المتعلقة بتكريس شرعية احتلالها لأراضي الفلسطينيين، وإصرارها على تعزيز أنشطتها الاستيطانية فيها، بما يتعارض مع استحقاقات التسوية، وعلى الضد من إرادة المجتمع الدولي. جدير بالذكر أن إسرائيل لا تعتبر نفسها دولة لكل مواطنيها (يهوداً وعرباً)، وحتى إنها لا تعتبر نفسها دولة لليهود الإسرائيليين فقط، وإنما دولة لليهود في كل العالم (وفق «قانون العودة» خاصّتها)، على كل ما في ذلك من تمييز على أساس الدين (ضد المواطنين الأصليين من الفلسطينيين) وعلى ما في ذلك، أيضاً، من دلالة على أن حدودها البشرية مفتوحة (تماماً كحدودها الجغرافية)؛ إلى حد يمكن القول معه إنها الدولة الوحيدة في العالم، ربما، التي لم ترسّم حدودها الجغرافية ولا البشرية. في كل ذلك، وفي ظل سيطرة الحاخامات، والتيارات الدينية الأصولية المتطرفة، على التشريعات القانونية وعلى التوجهات السياسية، وحتى على المدارس والجامعات والجيش، والأنشطة الثقافية، كما على حركة الباصات (يوم السبت)، لم يعد بالإمكان اعتبار إسرائيل دولة علمانية، بل إن العلمانية تآكلت في إسرائيل، مع تحلل الطبقة الوسطى، وتآكل مؤسسات كالكيبوتزات، والهستدروت، وانحسار مكانة أحزابها كالعمل وميريتس وحتى أن حزب الليكود (وهو حزب علماني) بات تحت سيطرة المتدينين المتطرفين. ولعل كل ما ذكرناه يفسّر سعي إسرائيل المحموم للاعتراف بها، وبحقها بالوجود، لا باعتبارها دولة إسرائيلية، أو كدولة مدنية، وإنما بالضبط باعتبارها دولة يهودية (دينية)! واللافت أن هذا يحصل في عالم يتجه نحو نبذ الأصولية والتعصّب والتطرف الديني، ويتجه نحو الدولة المدنية أو دولة المواطنين(!) ما يرجّح أن إسرائيل باتت بمثابة ظاهرة رجعية ودولة تمشي عكس التاريخ؛ بما في ذلك التاريخ الجديد للشرق الأوسط. وليس مصير الديموقراطية بأفضل من مصير العلمانية في إسرائيل، ذلك أن الديموقراطية التمييزية، التي تضع العرب خارج حسابات التقرير بالقضايا الرئيسة في إسرائيل، جعلت بضعة أحزاب دينية، لا تحتل أكثر من ربع مقاعد الكنيست بمثابة المتحكم باللعبة السياسية الجارية في إسرائيل. عدا ذلك فإن الديموقراطية الليبرالية تتناقض مع السياسات العنصرية التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين، سواء كانوا من مواطنيها (عبر التشريعات التمييزية) أو كانوا من الخاضعين لاحتلالها (بقوة الآلة العسكرية). ملاحظة أخيرة (وإن كانت قديمة بالنسبة لإسرائيل) وهي أن الدول الديموقراطية تتوخّى، في أغلب الأحوال، حل المشكلات التي تتعرض لها بالوسائل السلمية، والديبلوماسية، حيث أمكن ذلك، في حين أن إسرائيل ما زالت تصر على أنها معنية بتعزيز ترسانتها العسكرية، واعتماد سياسة الغموض النووي، بدعوى الحفاظ على وجودها، في وقت لا تبدي أي استعداد لتنفيذ استحقاقات التسوية مع الفلسطينيين، على رغم كل الإجحافات المتضمنة فيها بالنسبة لحقوقهم الوطنية، حتى ولو على مستوى تجميد جزئي للاستيطان! ومعلوم أن إسرائيل تحدت إدارة أوباما في هذا المجال، ومانعت أي تدخل للدول الأوروبية، ورفضت أي تعاطٍ مع المبادرة العربية، التي وصلت حد تشجيع إسرائيل على الإقدام على التسوية، بإقامة علاقات تطبيعية معها! لنلاحظ الآن أن الثورات الشعبية في المنطقة، والتي تعدّ الخطى نحو مسارات الحداثة وبناء مستقبلات جديدة لبلدان ومجتمعات المنطقة، تتأسّس على الدولة المدنية والديموقراطية ودولة المواطنين، بالوسائل السلمية، باتت بمثابة تحدٍّ جديد، غير معهود وغير مسبوق لإسرائيل. فهذه الثورات وضعت إسرائيل، لأول مرة في تاريخها، أمام وضع مغاير، أي وضعتها بمكانة جد حرجة، إزاء ذاتها وإزاء العالم، وإزاء المجتمعات الناهضة في المنطقة؛ ولعل ذلك أكثر ما تخشاه إسرائيل. لذا، من المثير ملاحظة كيف ستتعامل إسرائيل القديمة هذه مع عالم شرق أوسطي جديد، ومن المثير أكثر ملاحظة ردّات فعل المجتمع الإسرائيلي على ما يجري من تطورات في مجتمعات البلدان العربية المحيطة. * كاتب فلسطيني