تواصل الأزمة المالية في روسيا، كما في العالم، توجيه ضربات قوية إلى قطاعات الاقتصاد الحقيقي. وفي رأي الخبراء سيهبط الطلب في النصف الأول من السنة على المنتجات الصناعية، وتقلّص الشركات بدورها إنتاجها، ما يعني مزيداً من العاطلين من العمل وعددهم في روسيا حالياً، وقبل أن تشهد البلاد اهتزازات جديدة قوية، مليونان بحسب الإحصاءات الرسمية، وهو متواضع إذا أخذنا في الاعتبار إحصاءات المراكز المستقلة، التي تبدو مخيفة. وربما كان اعتراف الرئيس ديمتري مدفيديف بأن عدد العاطلين من العمل يزيد عن ستة ملايين نسمة، هدف إلى كبح جماح توقعات المتفائلين، وتحضير الأجواء للحقيقة القاسية. وتمتنع المصارف بدورها عن تقديم خدماته، وهي لم تعد تبدي حماسة كبيرة لتقديم قروض ميسرة أو غير ميسرة، ما ميّز الشهور الأولى من استفحال الأزمة. وتكفي على سبيل المثال، الإشارة إلى أنه في قطاع البناء يتواصل تجميد تمويل مشروعات كبرى كانت تقترب من التشطيب، وبعضها أنجز بنسبة ثمانين في المئة قبل أن أوقفت الأزمة العمل، مثلما حدث في مشروع برج موسكو الأعلى والأفخم في العالم بحسب الخطط المرسومة في السابق. كما جمّدت خطط القروض المفتوحة حالياً. وإذا صدقت التوقعات المتشائمة التي صدرت أخيراً عن بعض رموز الفريق الاقتصادي للحكومة، مثل نائب رئيس الوزراء الروسي الكسي كودرين، فإن الأسوأ في روسيا يقترب وبات على الأبواب. وقال كودرين بخلاف سياسيين واقتصاديين آخرين يواصلون تجميل الموقف، إن الوضع الاقتصادي سيزداد سوءاً حتى نهاية السنة الحالية وربما يكون أكثر تعقيداً خلال السنة المقبلة. وبحسب توقعاته، فإن الموازنة الروسية في 2009 ستشهد تراجعاً بنحو 30 في المئة في الواردات مقارنة بالسنة المنصرمة. وتنشط حالياً، وزارة المال والطواقم الاقتصادية للحكومة، في إعادة النظر في شكل كامل وبسرعة ملحوظة، بالخطط الموضوعة للسنتين أو الثلاث المقبلة باتجاه تقليص المصروفات. ويرى كودرين أن سعر برميل النفط سيكون نحو 50 دولاراً فقط في 2011 بينما تشير تقديرات روسية أخرى إلى احتمال أن يزيد السعر منتصف هذه السنة إلى 60 - 80 دولاراً للبرميل ، قبل أن يعاود تراجعه. الأكيد أن الأوقات الجيدة لروسيا اقتصادياً ذهبت إلى موعد غير محدد. وستضطر روسيا مجدداً إلى مد يدها لمعونات خارجية، وهذا الاحتمال بات وشيكاً وربما لا بديل منه في رأي خبراء. إنها ضربة قوية جداً لكل أحلام الكرملين وخططه، لأن روسيا لم تلجأ إلى قروض خارجية منذ عشر سنوات. والمشكلة الأكبر أن الأزمة ما تزال بعيدة من"القاع"، ما يزيد من صعوبة التكهن بمسارها وتجلياتها ومدتها أيضاً، والآثار السلبية بدأت تتزايد وتتبلور في شكل أسرع من التوقعات . في هذه الظروف تعرّض قطاع العقارات لوضع تفسير منطقي. فأسعار العقارات، التي هبطت في شباط فبراير بسرعة قياسية أكثر من 2 في المئة في الأسبوع، بدأت بالارتفاع مجدداً. وهذه ظاهرة لم تنسحب على كل العقارات السكنية، بل اقتصرت على عقارات الدرجة الأولى المعروفة في روسيا بأنها مخصصة لطبقات ثرية. وبحسب المؤشرات في الأسبوع الثاني من الشهر الماضي، عاودت الأسعار صعودها لتبلغ المتوسط للسنة الماضية البالغ نحو 13700 دولار للمتر المربع الواحد في الشقق السكنية. مع ارتفاع في العرض بلغ نحو 11 في المئة . وللمقارنة، هبطت أسعار العقارات السكنية الراقية في ضواحي مدن الولاياتالمتحدة إلى الثلث، وفقدت المساكن التي يزيد سعرها عن مليون جنيه إسترليني، في لندن، ربع قيمتها. ولا يتذكر الخبراء انخفاضاً مماثلاً منذ 1976 . لذلك تُمكن مقارنة"الظاهرة"الروسية فقط بحال مرض، تظهر أعراضه بوضوح، ويسعى المريض إلى التوازن في هذا الاتجاه أو ذاك ، وهكذا فرؤوس الأموال تسعى إلى حيث يرى المستثمرون إمكان إنقاذ أموالهم. وأوائل الشهر الجاري، أعلن المدير العام لإحدى الشركات التجارية العقارية، أن الوضع لشراء العقارات مناسب الآن كما لم يكن من قبل. لكنه أوضح المقصود بأن ادخار الأموال بالروبل أو بالعملات الصعبة باتت مغامرة فائقة الخطورة، بسبب تذبذب الأسعار وصعوبة التوقعات للمستقبل، ما يعني أن الأفضل التخلص من العملة "اسحبوا المدخرات من المصارف اشتروا الأمتار المربعة في المساكن أو الأراضي، فهي بخلاف الوسائل الأخرى للادخار لن تتلاشى فجأة". هذا يفسر أن الارتفاع في الأسعار طاول فقط الشقق والمساكن الفاخرة، بينما لم نشهد حالاً مماثلة في قطاع المساكن الشعبية التي فقدت جزءاً من قيمتها، ففي الشهر الماضي وحده هبط سعر المتر المربع في هذه الفئة، نحو 1،5 في المئة، إلى 4500 دولار. وتقلصت العروض نحو 4،5 في المئة. ولم يتغير الوضع في مساكن الدرجة المتوسطة. وتوقع خبراء أن يبلغ معدل الانخفاض، لغاية بداية الصيف، 35 ? 40 في المئة مقارنة بأسعار ما قبل الأزمة. ويمكن أن تتراجع العروض المخفضة إلى اقل من 50 في المئة. والوضع مشابه في قطاع السيارات، فمبيعات ما يسمى ب" السيارة الشعبية"? الرخيصة، هبطت عملياً 50 في المئة . وتشهد صالونات السيارات الجديدة تهافتاً، بعدما أثارت العروض المقدمة منها الشهية بأسعار مغرية. وفي العروض والتخفيضات يستفيد أصحاب المحافظ الثمينة، فالمشترون القادرون على دفع المبلغ كاملاً نقداً، يحصلون الآن على تخفيضات تصل إلى نحو أربعين في المئة. وقلّصت الأزمة عدد العاملين، ورمت ملايين منهم في مهب الريح، وهذا ترافق مع عدم دفع مكافآت نهاية الخدمة في كثير من الأحيان، فضلاً عن تقليص الرواتب بالنسبة لفئات كثيرة، ظلت راضية على رغم الظروف لأنها على الأقل لم تفقد العمل نهائياً.