قال الإمام القرطبي في تفسيره لسورة العلق: قَال عُلمَاؤُنَا: فَالأَقْلام فِي الأَصْل ثَلاثَة: القَلم الأَوَّل: الذِي خَلقَهُ الله بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُب. وَالقَلم الثَّانِي: أَقْلام المَلائِكَة، جَعَلهَا الله بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا المَقَادِير وَالكَوَائِن وَالأَعْمَال. وَالقَلم الثَّالث: أَقْلام النَّاس، جَعَلهَا الله بِأَيْدِيهِمْ، يَكْتُبُونَ بِهَا كَلامهمْ، وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبهمْ. وَفِي الكِتَابَة فَضَائِل جَمَّة. وَالكِتَابَة مِنْ جُمْلة البَيَان، وَالبَيَان مِمَّا اِخْتَصَّ بِهِ الآدَمِيّ . وقَال عُلمَاؤُنَا: كَانَتْ العَرَب أَقَلّ الخَلق مَعْرِفَة بِالكِتَابِ، وَأَقَلّ العَرَب مَعْرِفَة بِهِ المُصْطَفَى صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ، صُرِفَ عَنْ عِلمه، ليَكُونَ ذَلكَ أَثْبَت لمُعْجِزَتِهِ، وَأَقْوَى فِي حُجَّته... وَالكِتَابَة عَيْن مِنْ العُيُون، بِهَا يُبْصِر الشَّاهِد الغَائِب، وَالخَطّ هُوَ آثَار يَده. وَفِي ذَلكَ تَعْبِير عَنْ الضَّمِير بِمَا لا يَنْطَلق بِهِ اللسَان، فَهُوَ أَبْلغ مِنْ اللسَان. وقوله تعالى:"عَلمَ الإِنْسَانَ مَا لمْ يَعْلمْ"قِيل:"الإِنْسَان"هُنَا آدَم عَليْهِ السَّلام. عَلّمَهُ أَسْمَاء كُلّ شَيْء، بحَسَب مَا جَاءَ بِهِ القُرْآن فِي قَوْله تَعَالى:"وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31 قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32 قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ 33"سورة البقرة. فَلمْ يَبْقَ شَيْء إِلا وَعَلّمَ سُبْحَانه آدَم اِسْمه بِكُل لُغَة، وَذَكَرَهُ آدَم للمَلائِكَةِ كَمَا عُلمَهُ. وَبِذَلكَ ظَهَرَ فَضْله، وَتَبَيَّنَ قَدْره، وَثَبَتَتْ نُبُوَّته، وَقَامَتْ حُجَّة الله عَلى المَلائِكَة وَحُجَّته، وَامْتَثَلتْ المَلائِكَة الأَمْر لمَا رَأَتْ مِنْ شَرَف الحَال، وَرَأَتْ مِنْ جَلال القُدْرَة، وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيم الأَمْر. ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلكَ ذُرِّيَّته خَلفاً بَعْد سَلف، وَتَنَاقَلُوهُ قَوْماً عَنْ قَوْم. وَقِيل:"الإِنْسَان"هُنَا الرَّسُول مُحَمَّد صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ، دَليله قَوْله تَعَالى:"وَعَلمَك مَا لمْ تَكُنْ تَعْلم"سورة النِّسَاء: 113. وَعَلى هَذَا فَالمُرَاد بِ"عَلمَك"المُسْتَقْبَل، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَوَائِل مَا نَزَل. وَقِيل: هُوَ عَامّ لقَوْلهِ تَعَالى:"وَاَلله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لا تَعْلمُونَ شَيْئاً"سورة النَّحْل: 78. إن ورود هذه الآيات الكريمة في القرآن الكريم شجّع المسلمين على العِلمِ والتعلُّم والتعليم، فبدأت الدراسات في البيوت والمساجد ثم المدارس، وكان التعليم في المدارس بالمجان. وكان المعلمون والطلاب يتناولون مرتباتهم ونفقاتهم في بعض الأحيان من الحكومة الإسلامية أو من أموال البر والصدقات والأوقاف، وكان الطلاب والمعلمون يجوبون أطراف البلاد الإسلامية للتعليم والتعلُّم، وهذا ما تمّ الاصطلاح عليه بمصطلح: الرحلة، فقلما نجد عالماً إسلامياً إلا ورحل في طلب العلم الذي تعلمه، وكان على كل طالب علم يريد أن تعلو مكانته في بلده أن يسافر إلى مكةالمكرمة، أو المدينةالمنورة، أو القدس، أو بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، أو إسلامبول ليستمع في واحدة منها أو أكثر من واحدة إلى كبار العلماء ولكي يحصل منها على إجازة أو سماع كتاب ما منهم برواياتهم المتصلة بسند صحيح إلى المؤلف. وبذلك ازدهرت العلوم في ظلال الحضارة الإسلامية في أربعة أقطار الأرض.