لا تتم مسارات التحديث بالكيفية نفسها، حتى داخل الدول التي تنتمي إلى الثقافة نفسها والتي عرفت التحولات التاريخية ذاتها، كما هي الحال بالنسبة إلى الدول الإسلامية التي يجمعها كفاحها المشترك من أجل تجديد الحقل الديني كما يجمعها نضالها ضد المستعمر الأوروبي. يرتبط البحث في أسس العلمانية بأفق العلاقة بين الهوية والحداثة باعتبارهما تشكلان، في البعد المفاهيمي، دلالتين على توسيع المجال التداولي لمفهوم العلمانية أو تضييقه في ضوء المتغيرات التاريخية الكبرى التي عرفها الفكر الإنساني بعامة والعربي بخاصة، الأمر الذي يستدعي استخدام مفهوم جديد للعلمانية في ضوء أسئلة المجال السياسي الذي تبلور في إطاره أو عبر ملامسة المعاني التي استقر عليها المفهوم بالحمولة الأنوارية في القرن الثامن عشر. ولكي يتسنى لنا فهم المكانة، أو بالأحرى فهم الصيرورة التي عرفتها العلمانية فكراً وممارسة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ينبغي لنا أن نتلافى بوجه خاص المقاربة الثقافوية التبسيطية التي تطغى على الدراسات الاستشراقية. وتفترض هذه المقاربة خطأ أن العلمانية هي قيمة ثقافية خاصة ببعض الثقافات، وأن الثقافات لا تكاد تتطور، وأن أشكال التنظيم الاجتماعي لمختلف المجموعات البشرية إنما تحددها إلى حد بعيد هذه الثقافات التي تبقى هي هي على الدوام. إني أرى عكس ذلك، فبروز ظاهرة العلمانية وتبلورها بوصفها قيمة وممارسة مجتمعية هما أمران لا يمكن استيعابهما إلا في إطار ظهور الحداثة، إن في الشرق الإسلامي أو في الغرب المسيحي. هذا ما يفسر ما نراه في العالم من وجود تصورات وأنماط من التمفصل والتعالق مختلفة بين الديني والسياسي أنماط تتأرجح بين التعاون أو التنافس أو الصراع الصريح، أنماط تترجمها لحظات التقدم أو الجمود التي يمكن رصدها في مسارات التحديث. إن هذه المسارات لا تتم بالكيفية نفسها حتى داخل الدول التي تنتمي إلى الثقافة نفسها والتي عرفت التحولات التاريخية نفسها، كما هي الحال بالنسبة إلى الدول الإسلامية التي يجمعها كفاحها المشترك من أجل التجديد في الحقل الديني مثلما يجمعها نضالها ضد المستعمر الأوروبي. فما تختلف فيه هذه الدولة عن تلك ليس فقط المكانة التي تحتلها العلمانية في الإيديولوجية المهيمنة أو في تصور الحداثة في صلتها بمختلف السيرورات التاريخية، بل أيضاً الدلالة التي تسند إليها. إن العلمانية لا تكتسي القيمة نفسها والدلالة ذاتها، لا في مختلف الثقافات الحديثة ولا عند مختلف الزمر الاجتماعية. وكما يتبين ذلك من خلال الأمثلة التي تقدمها كل من تركيا وإيران وبلدان آسيا الوسطى وإفريقيا والعالم العربي، فإن صيرورة العلمانية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسارات التحديث المخصوصة، أي أيضاً بإمكانات الإدماج أو الإقصاء التي تتيحها هذه المسارات أمام مختلف المكونات الساكنة أثناء الممارسة الحقيقية للقيم المادية والروحية المقترنة بالحداثة، والحداثة هي أصلاً زمنية دنيوية. العلمانية والدنيوية وليتسنى لنا فهم دلالة هذه الدينامية التحديثية التي هي في الآن ذاته مرادف للتوحيد والتنميط إذ ليس هناك اليوم مجتمع يعيش حقاً بمعزل عن هذه الحداثة وعن المقاييس الوحيدة التي تمليها على المجتمعات، وإن ظلت هذه الحداثة غير مكتملة، ومرادف للتفريق والاختلاف بالنظر إلى فرادة كل مشروع تحديثي، يغدو من اللازم التمييز بين الدنيوية والعلمانية. إن هذين المفهومين وإن استخدما كثيراً مترادفين، إلا أنهما يحيلان إلى واقعين مختلفين. فالدنيوية نزعة موضوعية ضرورية كونية - إذ لا حداثة من غير دنيوة - تجنح إلى نقل معظم القيم الاجتماعية التي لطالما اقترنت خلال القرون الوسطى بمجال الأزلي المقدس إلى مجال الزمني غير المقدس. إنها تعني نزع صفة القداسة عن حقل واسع من النشاطات بينها التنظيم الاجتماعي. فهذا التنظيم لم يعد ينظر إليه على أنه معطى طبيعي يقتضي الانخراط التلقائي في القيم السائدة، بل صار يعد نتاجاً للتاريخ وإفرازاً لسياسات بني الإنسان. ومن ثم يمكن إخضاعه للنقد العقلاني وللتغيير الإرادي. إن الدنيوة باعتبارها ظاهرة من ظواهر الحضارة، إنما تتجلى في ظهور تطلعات ومواقف وسلوكات جديدة. إنها تفرض ترتيباً جديداً للفضاء العمومي، انسجاماً مع القيم المرتبطة بالتحرر السياسي وحرية العقيدة. أما العلمانية فهي غير ذلك، إنها عبارة عن تمثل، وبالتالي فهي أمر ذاتي ذو صلة بالوعي وبالموقع المحتل في منظومة الذات، فرداً كانت أو مجموعة اجتماعية. إن أنماط التمثل، وإذاً التمثل الخاص الذي يبلوره كل مجتمع في خصوص العلمانية، إنما تحددها طرائق ولوج الحداثة أكثر مما تحددها الديانة الأصلية أو الثقافة قبل الحديثة. الملاحظ أن في فرنسا، حيث كانت تقوم بين النظام السياسي الاجتماعي من جهة، وبين النظام الديني من جهة أخرى علاقة ترابط وتلاحم، لم يكن النضال من أجل التحرر السياسي والاجتماعي لينفصل عن النضال ضد هيمنة الإيديولوجية الدينية والكهنوتية. فكان توطيد استقلال الإنسان وحريته يعني تأكيداً موازياً لاستقلالية العقل. هكذا كانت العلمانية والدنيوة تشكلان سيرورة واحدة ستفرز تصوراً للحداثة جمهورياً وجذرياً ووضعياً، تصوراً يقيم حدوداً واضحة بين الروحي والزمني، بين السياسي والديني. أما في أميركا وبقية أنحاء أوروبا، فإن نزع القداسة عن العالم والمجتمع تم على نحو يكاد يخلو من الصدام مع سلطة الكهنوت الفكرية والسياسية. وأفضى هذا النزع إلى ظهور ضرب من العلمانية ضحل طفيف، ما حدا بپ"طوكفيل"إلى أن يرى في التناغم الحاصل بين الدين والسياسة إحدى كبريات ركائز الديموقراطية في أميركا. ويمكن أن نلاحظ في السياق نفسه كيف أن بريطانيا العظمى ليست اليوم بأقل حداثة أو أقل دنيوة بالنظر إلى أن الديموقراطية تتكيف فيها تكيفا أفضل مع سلطة روحية معترف بها، أو إلى أن الملكة ما فتئت تضطلع بوظيفة مزدوجة بوصفها تترأس الدولة وتترأس الكنيسة. العالم العربي: دنيوة من دون علمنة يتبين أن الفصل، داخل المجتمعات العربية المعاصرة، بين مسار الدنيوة التي تكتسي طابعاً موضوعياً ومسار العلمنة التي تكتسي طابعاً ذاتياً هو فصل آكدٌ وأمكنٌ، لسببين اثنين. لكن هنا أيضاً ينبغي الحديث عن المجتمعات العربية لا عن العالم العربي، لأن تاريخ اندماج هذه المجتمعات في الحداثة ليس تاريخاً متماثلاً، وإن قامت بين هذه البلدان أواصر تضامن وطيدة سياسياً ونفسياً في سياق الكفاح المشترك ضد الاستعمار والإقطاع، والسعي إلى إثبات الذات وتحقيق التنمية. أما السبب الأول في هذا الفصل فهو أن النضال من أجل الحداثة كان في جوهره نضالاً ضد السيطرة الأجنبية، الاستعمارية أو الإمبريالية، وليس ضد عدو داخلي. فسعياً إلى بلوغ الاستقلال، وتحقيق النمو على الصعيد الثقافي والسياسي والاجتماعي، والتصدي للقهر والاضطهاد، كان لزاماً على النخب المحلية، عضدها وسندها في ذلك السواد الأعظم من الشعب، أن تعبئ وتستجمع كل الموارد المعنوية والفكرية، خصوصاً التضامن الديني. إن كل الشعوب التي وجدت نفسها في وضع كهذا كان مفروضاً عليها، وهي التواقة إلى الانعتاق والتحرر من نير الاستعمار، أن تلتف وتلتحم وإن كان في ذلك إخفاء للتناقضات التي ما انفك يحدثها مسلسل التحديث. وحتى عندما يكون عدو التحرر عدواً داخلياً، تمثله الطبقات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية، فإنه لا ينظر إليه إلا كعميل أو خادم للأجنبي الدخيل. وهكذا فالمجتمعات العربية الإسلامية لم يكن لديها، وقد داهمها الاستعمار الأوروبي قبل أن يسمح لها الوقت بأن تتمكن من تعلم القيم الجديدة وصوغ ثقافة حديثة خاصة بها، لم يكن لديها من بديل غير الاعتماد على الرأسمال الرمزي الوحيد المتبقي في حوزتها إن هي أرادت ألا يجرفها إعصار الاستعمار. لقد خرج الدين من هذا النزال قوياً مكيناً وفي الآن نفسه متجدداً. فقد انضاف منذئذ إلى بعده الروحي التقليدي بعد جيوسياسي. فما عاد الدين مجرد عبادة، بل صار عماد الهوية. والتصدي له بالنقد أو نبذه معناه التنكر للهوية وخيانة الضمير والأمة معاً. وإلى يومنا هذا، فإن سهام النقد لا تطاول البتة الدين في ذاته، وإنما تطاول بعض التأويلات للدين التي تعد مغلوطة. أما السبب الثاني فهو أن الدعوة إلى القيام بالإصلاحات والانخراط في التحديث جاءت بدءاً من جماعات العلماء المستنيرين. فقد غدا اليوم عرفاً وتقليداً أن يقف العلماء الأكثر نزوعاً إلى الحداثة موقف الحلفاء للدولة الحديثة، هذه الدولة التي تستند إليهم، ليس فقط للتصدي للتيارات الدينية المحافظة، بل أيضاً لإضفاء الشرعية على سياساتها. هكذا كانت الحداثة وتجديد الفكر الإسلامي صنوين يسيران دوماً في الاتجاه نفسه، وما من دولة لها استعداد لأن تضحي بهذا الحليف الغالي النفيس لفائدة إيديولوجية العلمانية. إن المثقفين ذوي التكوين الغربي يتوسلون هم أيضاً، شأنهم شأن الدولة، الحداثة الدينية في نشر أفكارهم. فحتى أولئك الذين يعدون اليوم رواد العلمانية، كمصطفى عبد الرازق وطه حسين، لم يتحدثوا قط في خطابهم عن العلمانية. لقد تلقوا تعليمهم في جامعة الأزهر التقليدية، وكانوا يرتكزون في فكرهم، مثلهم في ذلك كمثل سائر الفقهاء المستنيرين، الى إعادة تأويل النصوص المقدسة. تجدر الإشارة هنا إلى أن علي عبد الرازق حاول أن يقوض احتمال رجوع مصر المستقلة إلى السيادة العثمانية، فكان أن بسط في كتابه الشهير"الإسلام وأصول الحكم"الفكرة التي مفادها أن الخلافة إنما هي بدعة تخالف تعاليم الإسلام. بيد أنه لم يقدم أي نقد حول المبرر الديني العقدي لهذه الدعوى. إن مجموع أعمال دعاة الإصلاح، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومؤلفاتهم ان الغرض منها إقناع السلطات الإسلامية بضرورة الانخراط في الحداثة. فقد بذل الإصلاحيون كل ما في وسعهم كي يقيموا الدليل على أن الإسلام ما كان ليتنافى مع الحداثة، بل إنه هو رائدها والممهد لها، وأن المسلمين هم من حادوا عن روح الإسلام وفلسفته فسقطوا في الجهل والتشاحن والتطاحن. هكذا قيض للتيار الإصلاحي أن يعطي، بفضل ما أقدم عليه من إعادة تأويل للنصوص، دلالة جديدة لجملة من التقاليد والمذاهب القديمة. وإذا الإسلام يعرف تحولاً وبروزاً أكبر من طريق الحداثة. إن تقليد الإصلاح هذا، الذي أشعل جذوته في العالم العربي جمال الدين الأفغاني وتلامذته، هو مسار ما فتئ اليوم يطبع العلاقة بين الديني والسياسي في هذه المنطقة. فالملاحظ أن أكثر السلطات السياسية العربية جنوحاً إلى العلمانية لا تتردد في أن تتذرع بالإسلام، أو بالدين عموماً، من أجل إضفاء الشرعية على سياساتها، سواء تعلق الأمر بما قد تعرفه من نزاعات مع دول أجنبية، أو بما يجري من تحولات سياسية واجتماعية، أو حتى بتطبيق بعض السياسات الاقتصادية الليبرالية أو الاشتراكية. هذا لا يعني أن تحديث المجتمعات العربية لم يفرز تيارات علمانية صريحة. بيد أن هذه التيارات ظلت دوماً أقلية، وبقي إشعاعها أضعف من أن يحفز الجماهير على الانخراط في السياسات الجديدة وبالأحرى من أن يثير حماستها إزاء قيم الحداثة. ذلك أن إصدار فتوى لمصلحة تحرير المرأة يكون له من الوقع على مستقبل النساء ما لا تحدثه كل مقالات المفكرين العلمانيين مجتمعة. لكن حتى لا ندع أصحاب الحل والعقد في الحقل الديني يتخذون واقع الحال هذا حجة وذريعة، ينبغي لنا أن نوضح أن مثل هذه الفتاوى لا ترى النور إلا بفضل الضغط الذي يمارسه المفكرون العلمانيون على رجال الدين. ومع ذلك فإن هذا التحليل للمكانة التي يتبوؤها الدين في تشكيل الحداثة العربية يبقى تحليلاً مغرقاً في العمومية. فلكي نتمكن من استخلاص فكرة أدق عما يقوم من علاقات بين الدين والسياسة والهوية والحداثة في العالم العربي، من الضروري النظر ملياً في مسار التحديث وتناوله بالتحليل العميق في كل المجتمعات المعنية على حدة. على أن يمكن القول بصفة عامة إن العلاقة بين الدين والهوية السياسية داخل أكبر المجتمعات العربية الشرقية، حيث كانت بداية الولوج في الحداثة الثقافية تحت عنوان النهضة حدثاً سابقاً للاحتلال الأوروبي، هي علاقة أضعف بكثير مما كان عليه الأمر في مناطق أخرى. وبالمقابل، اتضح أن العروبة، وهي مفهوم ذو صبغة علمانية صرفة، هي التي تصدرت مسرح الأحداث حتى نهاية القرن العشرين. إن الإسلام، وقد تحرر من هذه الوظيفة المقترنة بالهوية، بدا أكثر ملاءمة وانسجاماً مع مجهود إعادة التأويل في اتجاه الحداثة.