يشهد العالم، في مناطقه المتعددة، منذ اكثر من عقدين انبعاثاً للهويات الدينية لم يعرفها منذ اكثر من قرن من الزمان. تعبر هذه الظاهرة عن نفسها بتوترات ساخنة ونزاعات طائفية وإثنية وعرقية داخل البلد الواحد أو بين بلدان متجاورة. كما تجد تجلياتها في الصراع السياسي والاجتماعي الدائر في اكثر من مكان وإلباس هذا الصراع مضموناً طائفياً أو دينياً. أنتجت الظاهرة ايضاً ثقافات خاصة ونظريات كان ابرزها صراع الحضارات الراهن والمقبل بديلاً لصراع ايديولوجي سابق بين الرأسمالية والشيوعية. هكذا شكلت العودة الى الدين محور دراسات وأبحاث في كل مكان في العالم، فزخرت المكتبات بمنوعات من الكتب جمعت في قراءتها للظاهرة ولأسبابها بين الموضوعية، كما تميزت اخرى بالانحياز السياسي والتوجه العنصري والإيديولوجي. يعكس هذا النتاج الثقافي المتنوع عمق الأزمة التي تسبب بها صعود الهوية الدينية والنتائج المترتبة عليها في الطابع العنفي أو بروز الحركات الأصولية في العالمين الغربي المسيحي والإسلامي على السواء. يشكل كتاب جورج قرم الصادر بالفرنسية بعنوان:"المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين"إحدى من المعالجات الموضوعية للظاهرة في أسبابها ومفاعيلها ودورها في الحراك السياسي الساخن، رافضاً حصر هذا"الإثم"بدين واحد تمثله الحركات الأصولية الإسلامية، طارحاً أسئلة حول الحداثة وأزمتها، مجدداً التساؤل عن إمكان الوصول الى عقد علماني دولي يخرج العالم من دائرة العنف ذي الطابع الديني الى رحاب الديموقراطية والاعتراف بالآخر والتعايش معه محتفظاً بحق الاختلاف. يعطي قسم واسع من الأدب السياسي الغربي حيزاً للهوية الدينية ذات الطابع الإسلامي، فيرى فيها احد الأسباب الرئيسة وراء انتشار العنف، ويضع انبعاث الهويات ذات الطابع المسيحي واليهودي في سياق الجواب عن هذا الأصل. تستخدم هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001 على الولاياتالمتحدة، وبعدها هجمات مدريد ولندن وأندونيسيا وغيرها... وسيلة ايضاح عن الدور الذي تضطلع به راهناً الهوية الدينية الإسلامية. يجافي هذا الحكم الحقيقة في اكثر من مكان. فالهوية الدينية تكاد تحكم اليوم كل شيء وفي كل مكان من العالم. في القارة الأوروبية، يزداد التعصب العنصري بوتيرة كبيرة ضد الأقليات غير الأوروبية من المهاجرين، كما ترتفع مجدداً دعوات الكنيسة لاستعادة دور سياسي ? اجتماعي كانت العلمانية أزاحته بعد الثورة الفرنسية الكبرى. وفي أوروبا الوسطى والشرقية، ادى انهيار الشيوعية الى عودة الدين بقوة جواباً عن الإيديولوجيا الماركسية التي عملت على إلغاء الدين من الحياة العامة. في الولاياتالمتحدة الأميركية، تشهد الحركة الإنجيلية البروتستانتية نمواً متزايداً كان بدأ منذ عقود واحتل مكاناً أساسياً في سياسة الرئيس ريغان، ووصل ذورته مع الموقع الذي احتله المحافظون الجدد في ادارة الرئيس بوش الابن منذ العام 2000. تشهد الولاياتالمتحدة اليوم صراعاً بين سعي المحافظين الجدد لإحلال المسيحية الإنجيلية بديلاً من المبادئ العلمانية التي قام دستور الدولة على أساسها منذ العام 1776. في القارة الآسيوية، تشهد الهند انبعاثاً للهوية الهندوسية مصحوبة بتوتر ساخن مع الهويات الدينية الأخرى، لا سيما الإسلامية منها في الهند وكشمير. أما بالنسبة إلى اليهودية، فتشكل الصهيونية ومعها دولة اسرائيل اكبر تجلّ لصعود الهوية الدينية اليهودية، التي تمارس قهراً على الشعب الفلسطيني في شكل لا مثيل له في العالم الحديث. وأخيراً، يشهد العالم الإسلامي، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط انبعاثاً قوياً للهوية الدينية، تترجم نفسها بوسائل مختلفة، من سعي الى الوصول الى السلطة عبر الطرق الديموقراطية، أو بازدياد فاعلية الحركات الأصولية، ارهاباً وعنفاً، باسم الإسلام، أو بموقف شبه ايديولوجي من الغرب عموماً ومن حضارته في تعبير معاد ومتوجس من سياسته. يجد هذا الانبعاث للهويات الدينية ومعه العودة واللجوء الى الدين، سياسياً وإيديولوجياً، اصله في الديانات التوحيدية الثلاث التي يتميز كل منها بنوع من"الاصطفائية". تعتبر الديانة اليهودية نفسها اولى الديانات وأساسها وذات الموقع الأهم نظراً لأن الله نظر الى الشعب اليهودي على أنه"شعب الله المختار"، وترى المسيحية تميزها وأولويتها من كون المسيح في نظرها هو الله متجسداً في انسان. اما الإسلام فيصنف نفسه"دين الله"فيما المسلمون"خير أمة أُخرجت للناس". تتحمل هذه الاصطفائية مسؤولية كبيرة في تأجيج الهويات الدينية وفي تعميق الخلافات بين ابناء الديانات وبالتالي التسبب في نزاعات متعددة الجوانب. العنف المتصاعد يمثل تصاعد العنف في العالم احدى نتائج انبعاث هذه الهويات الدينية. على امتداد النصف الأول من القرن العشرين كانت صورة العالم بعيدة في شكل كبير من تبلورها في مظهر ديني. كانت الأفكار التحررية والإنسانية العلمانية تشكل فورة وتكتسح الموروثات السائدة. وكان العالم الثالث ومنه العالم العربي يخوض نضالاً ضد الاستعمار وتحقيق الحرية والاستقلال، حتى ان ميثاق الجامعة العربية لم يحمل أي اشارة الى رباط ديني. يجد انحراف الهوية الدينية اسبابه في استخدام الدين في النزاعات والصراعات السياسية. وضع الدين بشقيه المسيحي والإسلامي في مواجهة الماركسية والأنظمة الشيوعية السائدة. اتخذت نظريات المحافظين الجدد واستراتيجيتهم الامبريالية في العالم وجهة تحريض ديني، خصوصاً بعد اعتبار الدين الإسلامي عاملاً من عوامل الإرهاب الذي ضرب الولاياتالمتحدة، كون تنظيم"القاعدة"ينتمي عناصره الى الإسلام. في المقابل ساهمت المواقف الغربية، والأميركية منها بخاصة، في ايجاد ردود فعل داخل العالم الإسلامي، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، اعتبرت ان الغرب يخوض ما يشبه"حروباً صليبية"، وأنه يسعى الى السيطرة على العالم العربي عبر دعمه لحليفه الأساس اسرائيل ولسياستها العدوانية المتصاعدة. يحاول بعض المؤرخين رد العنف الى الثورة الفرنسية ومرحلة"الإرهاب"اليعقوبي التي شهدتها فرنسا، بصفته مسؤولاً عن موجات العنف المتتالية وصولاً الى القرن العشرين. يخالف جورج قرم هذه النظرة بإرجاعه العنف الى تاريخ أسبق بكثير من تاريخ الثورة الفرنسية، أي الى الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا منذ القرن الثاني عشر إثر الانشقاقات داخل الكنيسة. وهي حروب اندمج فيها الصراع السياسي والاجتماعي بالعنصر الديني، وجرى استخدام اللاهوت في خدمة هذا الصراع وفق ما يراه كل طرف. تشير أحداث التاريخ الى ان ابشع مظاهر العنف هي تلك التي عرفتها الحروب الدينية، خصوصاً بين البروتستانت والكاثوليك والتي شهدت مجازر وحشية تحت اسم الدين الحق. كما لم تخل محاكم التفتيش من ضروب الوحشية في قمعها لحرية الرأي والفكر والاعتراض، لم يخل العالم الإسلامي من الصراعات ذات الطابع العنفي التي تسبب بها الصراع على السلطة منذ وفاة الرسول، وتوسعت لاحقاً لتؤدي الى انقسامات طائفية ومذهبية عبرت عن نفسها كذلك بپ"حروب دينية"، كانت كل طائفة او فئة تلجأ الى النص الديني والحديث النبوي لتأخذ منه ما يتناسب مع آرائها وحجتها في تسويغ مشروعية طروحاتها في الصراعات الدينية التي تحولت حروباً في الغرب المسيحي أو في العالم الإسلامي، كانت المسائل اللاهوتية الأقل أهمية في الصراعات، فيما كان الجوهري هو استخدام هذا اللاهوت واللجوء إليه لتبرير النزاعات. أسست الصراعات السياسية ذات الصبغة الدينية في الغرب الى فصل بين الدين والدولة وبالتالي الى مرحلة جديدة من تطور الحداثة كان أولى نتائجها تراجع دور الدين السياسي. اما في العالم الثالث، ومنه الشرق الأوسط، فلعب قيام دول الاستقلال وانخراطها في مواجهة مهمات التنمية والتحرر القومي والتقدم الاجتماعي، دوراً في خفض التأثير السياسي للهوية الدينية. لكن الحداثة المتقدمة في الغرب ومعها سيطرة العقلانية لم تمنع انبعاث نظريات عرفية مثلتها النازية والفاشية، كما لم تمنع سيطرة ايديولوجيات معادية للدين مثل الشيوعية. لكن الأخطر في أزمة الحداثة كان عجزها عن منع قيام حربين عالميتين حصدتا ملايين البشر، مما وضع الإنسان الأوروبي امام اسئلة الوجود ومأزقه، ومعنى التطور والتقدم وسيطرة العقل والنتائج المدمرة لها على الصعيد البشري، مما اعاد طرح قضية البعد الروحي للإنسان ودور الدين في الحد من جموح العلم واستخدام منجزاته لغير مصلحة الإنسانية. أما ازمة التحديث في الشرق الأوسط فقد عبرت عن نفسها في فشل برامج انظمة الاستقلال الى حد كبير في المهمات التي وضعت على عاتقها، وانفجار بنيات هذه الأنظمة، مما جعل الجواب الأصولي الديني يقدم نفسه بديلاً خلاصياً من ايديولوجيا الأنظمة وبرامجها. في مقابل أزمة الحداثة، تعاني الأصوليات ازمة مماثلة وفي شكل أشد اثراً. فالأصولية المسيحية المتمثلة اليوم بالمحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة الأميركية تستثير شعوب العالم ببرنامجها الاستعماري التوسعي. وتثير ايديولوجيتهم حول حرب الحضارات، بما هي حروب دينية جديدة، مخاوف من تصاعد الصراع الديني. إلا ان أخطر ما تثيره هذه الإيديولوجيا إثارة وعي جماعي ضد الغرب لا يميز بين قيمه الحضارية ومبادئه الديموقراطية وبين الاتجاهات الاستعمارية لبعض حكامه. اما الأصولية اليهودية الممعنة في احتلال اراضي الشعب الفلسطيني وقهره، فهي تمنع إمكان الوصول الى سلام عادل في الشرق الأوسط، وتثير في المقابل عداء للسامية ولليهود كشعب، ويصل الأمر الى تبرئة أوروبا النازية من اضطهاد اليهود وإنكار المحرقة ضدهم. اما الأصولية الإسلامية، فإن برنامجها العدمي المستند الى الارهاب المسلح يبدو محكوماً بانسداد الآفاق واستحالة تحوله برنامجاً للتغيير والإصلاح، بل ان آثاره السلبية تبدو اليوم تدميرية بالنظر الى العنف الأعمى الممارس على كل فئات الشعب. من ناحية اخرى، يجب التوقف عن استخدام تعبير"الاسلام"في شكل مفرط ووصمه الدائم بالإرهاب. فالإسلام ليس مكاناً وليس قومية ايضاً. انه دين يتصف بالعالمية مثلما هي المسيحية والبوذية. لذلك من المفيد عند البحث في أسباب الارهاب، خصوصاً الصادر من الشرق الأوسط، عدم اللجوء الى التفتيش عنه في ثنايا النصوص الدينية الإسلامية. فالأجدى ان تُرى أسباب الارهاب في الاحتلالات العسكرية الغربية لشعوب المنطقة، وفي الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وفي التهميش الاجتماعي للغالبية الساحقة من المواطنين، وفي سوء التوزيع الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وفي تحكم الأنظمة السلطوية برقاب الشعوب العربية وقمع حرياتها. شكلت العلمانية في اوروبا خلاص شعوبها من الحروب الدينية. وأدت اعادة الدين الى موقعه الحقيقي وسيادة القوانين المدنية القائمة على الديموقراطية والعدالة والمساواة والحرية، الى انتقال اوروبا من الهمجية الى الحضارة. ان اعادة الاعتبار الى فلسفة الأنوار بمبادئها الأساسية، مضافاً إليها كل ما قدمته الحداثة من تقدم، والاعتراف بالآخر والعيش معاً على رغم الاختلافات، تشكل جميعاً أساساً لعقد دولي جديد قد يشكل افضل السبل لإنقاذ البشرية من طوفان التعصب الأصولي غربياً كان أم شرقياً او الى أي دين انتمى. في هذا المجال يشكل كتاب جورج قرم مساهمة متواضعة واقتراحات مفيدة.