لا يفهم الحارس كيف حدث ما حدث. تعاقبت عليه الأعوام وهو يحرس هذه المدينة ولا يفهم بالضبط لماذا يحرسها. المدينة لا تهتم"لا تبالي. المدينة لا تعرف أن الحارس موجود. بالنسبة الى المدينة الحارس خيال. حكاية قديمة. هو حتى ليس حكاية. الحارس لا أحد. ومع أنه لا أحد يحمل مفاتيحه كل يوم ويدور على الأسوار وينظر الى الطحلب ينبت في الشقوق بين الحجارة. عنده معدّات خاصة صغيرة ويستخدمها ويستخرج الطحالب من الشقوق ويصلح ما تفسده الطبيعة. مهم أن تبقى الأسوار"مهم ألا تتشقق وتقع هذه الحيطان السوداء القديمة. إذا وقعت يحلّ الخراب وتتهدم المدينة. طالما عرف هذا، فكيف حدث ما حدث؟ متى أهمل؟ متى وقع في النسيان؟ متى نام من دون أن ينتبه أنه ينام في وقت الحراسة؟ لا يفهم الحارس ماذا جرى. كان يحيا حياته وبينما يحيا حياته وقعت الكارثة. لم ينتبه أن الكارثة تقع. ظن أن الأشياء على حالها. لم ينتبه. ثم حدث شيء ما، شيء غامض حدث في مكان بعيد بعيد؟ أليست الأماكن كلها قريبة؟ ألا يلفّ هذا السور العظيم القديم العالم كله منذ بدء الخليقة؟، شيء حدث في مكان غامض وانكسرت السلسلة وخرجت الوحول من أماكن عميقة. تبعثرت المفاتيح على الأرض. كان يطلع الأدراج أو ينزل الأدراج من البرج ووقعت المفاتيح: قبل وقوعها رأى الظلّ البارد يخيم على رأسه. لم يرَ. شعر بالبرد. وقعت المفاتيح وبدل أن ينحني كي يلمّها رفع وجهه الى السماء لعله يدرك سرّ هذا الظلّ البارد: رأى غيوم الجراد تغطي الشمس. جراد أم بعوض أم عصافير صغيرة؟ لم يعرف. قبل زمن بعيد أخبره جدّه أنه كان ينزل على درج طويل عندما وصل الجراد الى البلد. كان ينزل على درج السرايا ساعة الظهر ذاهباً كي يأكل عندما هبطت الظلمة على البيوت والنساء خافت وارتفع صوتها. متى كان ذلك؟ جده أخبره أم خاله؟ لا يعرف، الذكريات اختلطت عليه، والآن ? مع هذه الوحول ? لم يعد يفهم شيئاً. حدث كل ذلك وهو هنا"كان هنا؟ كان هو نفسه؟ لكنه لم ينتبه. وهذا يعني أنه كان شخصاً آخر. هذا يعني أنه أضاع وجهه برهة من الزمن"أضاع شخصيته برهة من الزمن يصعب عليه أن يعترف بذلك أمام نفسه لكن عليه أن يعترف: إذا لم يعترف كيف يكون هو؟ كيف يكون الحارس؟ كيف يلم المفاتيح من جديد؟ هذا إذا تمكن يوماً من أن يلمّها! لعل الفرصة ضاعت الى الأبد. لعله أضاع نفسه أبدياً. لعلها النهاية. ارتبك. تعاظمت عليه الأوهام والرؤى. وفي لحظة الارتباك أضاع دوره: نسي مهمته على الأرض. وفي تلك البرهة من الزمن وقعت الكارثة. هجمت الأنهار من حيث لا يعلم. تدفقت بالوحول والحيوانات الميتة. هجمت الأعاصير. دمرت الأعاصير المدينة؟ هذا ما حدث؟ أم الناس دمروها؟ يشعر أن رأسه مملوء ضباباً. وفي هذا الضباب الكثيف عليه أن يفكّ اللغز. أن يعرف ماذا حدث. أن يعرف ماذا يحدث. "عبرت العواصف أسوارك وملأت مدينتك الجوّانية فوضى. هل دُمر عالمك؟ كلا، لم تبلغ الكارثة هذا الحد: عليك تنظيف الشوارع من أشجار محطمة، من أكواخ متناثرة محطمة الخشب والزجاج، من أتربة جرفتها الأنهار التي تفور بالأمطار المتلاطمة. عليك تنظيف عالمك الداخلي من جديد وهذا لا بد سيأخذ وقتاً. لكن مهم أن تفعله. المشكلة أن القيام بهذه المهمة يحتاج قوّة. أين تعثر على القوة؟". لا يدري الحارس من أين تخرج هذه الكلمات ولا من أين تنزل. لا يدري من أين تأتي ولا يدري كيف تأتي. هل كان الرجل القديم يشعر هكذا وهو يترجم كتبه القديمة؟ هل يعثر في الكتب القديمة على قوّة تنجده؟ لكن القوّة ليست في الكتب. أين القوّة؟ أين القدرة على التركيز؟ وأين القدرة على الفعل؟ كيف يحمي المدينة؟ وهل فات الأوان؟ الزجاج على الأرض ويرى الدمار. يسير حتى البرج القديم ويراه مائلاً. داخل البرج يجد أغراضه مبعثرة على الأرض والطاولة مكسورة والستائر ممزقة. يطلع على السلالم الى الشرفة العالية. الطين يلطخ الحيطان والعناكب تتراكض على مصابيح محطمة. كيف يرتب العالم من جديد؟ هل تتكسر الشخصية بهذه السهولة، بهذه البساطة؟ رأى ناساً يرفعون أشياء من بين الأنقاض ولم يعرف ماذا يرفعون. رأى الركام والخنادق ورأى ما يشبه الألعاب النارية تنفجر بعيداً، في الجانب الآخر. الانفجارات وذكرى الانفجارات... ثم تراجعت الأصوات وتراجعت الصور. تذكر الزجاج القديم، النافذة القديمة، والعربات المحملة جثثاً تتوالى في الضباب ذاهبة الى المدافن. متى حدث كل هذا؟ وكيف يحدث مرة أخرى؟ وهل هذا حقيقي؟ انتهى كل شيء؟ أيكون عليه من الآن وصاعداً أن يتأقلم مع هذه الفوضى، مع هذه الأشجار المحطمة التي تقفل طرقاتك؟ وقعت قطعة حديد ساخنة من الأعالي، وقعت على السيارة وثقبت سقفها وأحرقت جلد المقعد. لم تحرق حشية المقعد لكنها ثقبت جلده. نيزك صغير وقع من السماء؟ هل تتأقلم؟ تتأقلم مع هذه الوحول التي تغمر عتبات البيوت؟ مع هذا اليباس الذي يقتحم الشبابيك وأسيجة الجنائن؟ لكن كيف تحيا في قلب الدمار، دمارك؟ يقف الحارس بين كتب ممزقة تطفو مع زهور على مستنقعات ويشم رائحة الحرائق. لا يدري من أين يأتي الصوت ولا يدري ماذا بالضبط تعني هذه الكلمات الغامضة:"عليك أن تُوسع لنفسك مكاناً في هذه الفوضى. وعليك بالتدريج أن تنظف آثار العواصف. هذه مهمتك أيضاً. ولعله القسم الأقسى في المهمة. لم تَكن تعلم. والآن عليك أن تتعلم من كيسك، من الكبد الذي هو كيس الدم الذي ينقره الطير الجارح. عليك تنظيف هذه الشوارع. لن تنجز ذلك بين ليلة وضحاها. لا تملك غير مكنسة واحدة. الأخرى مقطوعة. ولا تملك غير هذه اليد التي تكتب والتي تكنس والتي ترفع كوب الشاي والتي ساعة النوم تصير مخدة. لن تنجز ذلك بين ليلة وضحاها. العواصف حطمت الأبنية وزرعت الطرقات خراباً. لكن عليك أن تبدأ. البكاء لن ينفعك والتحسر لن ينفع. ألم القلب لا ينفعك وجلوسك مفتوح الفم لا ينفع. تعرف رجلاً صار وزنه أربعين كيلوغراماً وظلّ مع ذلك يرفع السيجارة الى فمه ويدخن السيجارة. ثم صارت السيجارة تقع من بين الأصابع. وامرأته تحمل من أجله السيجارة. تعطلت كليتاه ومات على سريره. لكنه حتى اللحظة الأخيرة ظلّ يضحك. لماذا يضحك؟ وأنت لماذا لا تضحك؟ ليس عليك إلا أن تبدأ. القعود يقتل والحركة تعطيك قوّة. ما ان تبدأ بالعمل ستتغير. لا قوّة فيك الآن. لكن ما إن تبدأ بالعمل ? ولعلك منذ الآن بدأت - بينما ترفع الأنقاض وترمم ما تهدم من أسوارك، بينما العرق يتصبب على وجهك وصدرك وقلبك وساعدك، لا بد من أن تشعر بالتحسن. وهذا التحسن سيعطيك قوّة. وهذه القوة ستعينك على ترميم الأبنية، على سد الثغرات في الحائط، على رفع البرج وتصحيح العوج". البرج مال في العواصف وحيطانه اتكأت على رؤوس الأشجار. وقع الإبريق عن الطاولة. تجمع الكسور وتحاذر لئلا تجرح يدك. تطلع السلالم الى رأس البرج وأنت تفكر في المكتبة. تأخذ معطفاً واقياً من المطر، تأخذ مظلة، تأخذ مصباحاً ببطارية وتخرج من البرج وتركض عبر الشوارع. الناس يظهرون أمام المتاجر ثم يغيبون وراء السيارات. النكبة على الوجوه. تراهم يركضون ويقفزون ويعبرون الدخان والماء ويختفون حيث يختفون. هل ترجع المدينة كما كانت؟ أعمدة كهرباء متساقطة. تأتي الكهرباء ثم تذهب. ما دامت الكهرباء تأتي فهذا يعني أنها ليست النهاية. ما دامت تأتي فالأمل يبقى. يركض الحارس عابراً الدروب بينما الظلام يهبط. لا يفهم الحارس كيف حدث ما حدث. ولا يعرف ماذا سيحدث له. يعرف أن عليه أن يبقى هو، هو القديم كما كان يعرف نفسه. لكنه يخاف من ثلاثة أشياء. يخاف أولاً ألا يكون بخير في رأسه طالما عذّبته التخيلات. يخاف ثانياً ألا تساعده الكلمات أن تخونه اللغة التي من دونها لا يستطيع أن يفكر. ويخاف ثالثاً أن يستسلم للحزن وأن تضيع منه القوّة. يخاف الحارس كثيراً. وما يساعده على تحمل الخوف هذا الحدس الغامض، هذا الإحساس الباطني الكامن فيه من ساعة الولادة. يشعر الحارس أن الخوف فيه على علاقة ب"المهمة". يشعر أن التخيلات التي تعبث بعقله وهو يدور على الأسوار وينظر الى الغابات المحيطة هي أيضاً مصدر قوّة. كيف يكون الوهم مصدر قوة؟ هل يُصلح الخيال مدينة محطمة؟ الحارس لا يملك جواباً. اللغة لا تساعده وَرِث هذه اللغة كما ورِث إيماءات جسمه. دائماً يفرك يديه على ساقيه، كأنه بردان، كأن الصقيع يغزو جسمه. خالته قالت إنه ورِث هذه العادة عن جدٍ عاش في جبال باردة. هل هذا ممكن؟ كان الجد يبرد ويفرك يديه على ساقيه وينحني بجسمه ثم يستقيم وينحني مرة أخرى. طوال الوقت، وهو قاعد على الكنبة أو على البساط أمام وجاق الحطب، يظلّ يتحرك هكذا ويفرك فخذيه حتى يدفأ. مرّت الأعوام وحركة الجسم تسربت الى الجينة الوراثية. ها هو مثل الجد الذي لم يرَ يوماً وجهه. فقد يداً لكنه ما زال ينحني باليد الأخرى: يقبض على ركبته ويفرك عظمة الفخذ. اللغة لا تساعد ? هذا لأنه لم يقرأ إلا قليلاً. لو أنه قرأ أكثر! لو أنه قرأ أكثر! أضاع وقته وهو يمشي ويمشي ويمشي. ينظر ويسمع ويتكلم. لو أنه قرأ أكثر! لكنه الحارس. والحارس يحرس. كيف يقرأ وهو يحرس؟ عليه أن يمرن بصره، عليه أن ينتبه الى أبواب المدينة، عليه أن يحصي الداخل والخارج، عليه مهام لا تحصى. وعليه فوق ذلك أن يجمع حطباً. كل نهار يخرج ويجمع حطباً. مسكنه في البرج والبرج قديم ورطب وواسع وبلا نار كبيرة لا يدفأ. ضاعت الحياة وهو يقطع للنار حطباً. لا يدري كيف وقع كل ذلك ولا يدري ماذا ينتظره. لكنه بينما يتحرك يشعر بالقوّة في أعضائه. المدينة في رأسه، يعبرها كأنه يمرر إصبعاً على الخريطة. الأسماء والأماكن والناس. الوجوه الأليفة. والسور الذي يلفّ حياته. كل العالم محضون بهذا السور العالي فمن أين دخلت هذه العواصف العاتية؟ المعطف الملطخ وحلاً يستقر على الكنبة. يُنشف الحارس نفسه ويخرج الى شرفة البرج وينظر الى أضواء بعيدة. هذه في البحر مراكب صيادين أم في المدينة بيوت ومراقص أم في الغابات نيران القوافل؟ لا يعرف الحارس الى ماذا ينظر. لكنه في هذه الساعة لا يخاف. المفاتيح تتدلى من الحزام، حديدية وباردة. لكن البرد لا يتسرب الى دمه. القلب ينبض بين أضلاعه، ينبض ينبض ينبض. طوال النهار لم يتوقف عن العمل لحظة. لم يتوقف لحظة. الآن تؤلمه كل عضلاته. لكنه بخير. يشعر أنها ليست النهاية. ظنَّ أنها النهاية. لكن كم مرة ظنَّ شيئاً ثم مرَّ الوقت وبان أنه أخطأ الظنّ!