نائب أمير منطقة جازان يضع حجر أساسٍ ل 42 مشروعًا تنمويًا    نائب أمير جازان يرأس الاجتماع الرابع للجنة الإشرافية للأمن السيبراني    نائب أمير منطقة جازان يطّلع على تقرير "الميز التنافسية" للمنطقة لعام 2024    عبدالعزيز المغترف رئيساً للجنة الوطنية لمصانع الابواب والألمنيوم في اتحاد الغرف السعودية    ولي العهد يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية السنغال    أمير القصيم يستقبل منسوبي تجمع القصيم الصحي ويطّلع على التقرير السنوي    "تعليم الرياض" يحتفي ب 96 طالبًا وطالبة فازوا بجائزة "منافس"    نجوم الفورمولا1 يتفقون: حلبة كورنيش جدة "عالمية"    محافظ الأحساء يطّلع على التقرير السنوي للشرطة    وزير الاستثمار مشاركا في منتدى الجبيل للاستثمار 2025 أواخر ابريل الجاري    بدء إلزامية العنوان الوطني لشحن الطرود مطلع 2026    معرض اليوم الخليجي للمدن الصحية بالشماسية يشهد حضورا كبيراً    24 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح خلال الربع الأول من 2025    تجمع القصيم الصحي يدشّن خدمة الغسيل الكلوي المستمر (CRRT)    تخريج الدفعة ال22 من طلاب "كاساو" برعاية نائب وزير الحرس الوطني    السعودية وإندونيسيا تبرمان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في قطاع التعدين والمعادن    جامعة الإمام عبدالرحمن وتحفيظ الشرقية يوقعان مذكرة تفاهم    مشاركة كبيرة من عمداء وأمناء المدن الرياض تستضيف أول منتدى لحوار المدن العربية والأوروبية    أمطار رعدية على اجزاء من عدة مناطق بالمملكة    الذهب يواصل صعوده القياسي    قطاع ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "التوعية بشلل الرعاش"    في الجولة ال 28 من دوري روشن.. اختبار شرقاوي.. الاتحاد والنصر ضيفان على الفتح والقادسية    في إياب ربع نهائي يوروبا ليغ.. مانشستر يونايتد في لقاء الفرصة الأخيرة أمام ليون    متوقعة جذب تدفقات قوية في المملكة.."فيتش": 1.3 تريليون ريال حجم «إدارة الأصول» في 2026    1.7 مليار ريال صادرات التمور السعودية    أنور يعقد قرانه    مجلس «شموخ وطن» يحتفي بسلامة الغبيشي    زخة شهب القيثارات تضيء سماء أبريل    الاتحاد الأوروبي يشدد قيود التأشيرات على نهج ترامب    وفاة محمد الفايز.. أول وزير للخدمة المدنية    سهرة فنية في «أوتار الطرب»    بقيمة 50 مليون ريال.. جمعية التطوع تطلق مبادرة لمعرض فني    الأفواج الأمنية تشارك في معرض المرور بمنطقة نجران    إيران على مسافة قصيرة من العتبة النووية    5 جهات حكومية تناقش تعزيز الارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن    العراق: انتهاء الاستعدادات لتأمين القمة العربية الشهر المقبل    القيادة تعزي ملك ماليزيا في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    الأمير سعود بن جلوي يرأس اجتماع المجلس المحلي لتنمية وتطوير جدة    في نصف نهائي كأس آسيا تحت 17 عاماً.. الأخضر يسعى للنهائي من بوابة كوريا الجنوبية    قيود أمريكية تفرض 5.5 مليارات دولار على NVIDIA    "ليلةٌ دامية" في غزة ومفقودون لا يزالون تحت الأنقاض    ملتقى الثقافات    توصيات لمواد وألوان عمارة واحات الأحساء    الرياض أكثر مناطق المملكة في شاشات السينما    أرسنال يكرر فوزه على ريال مدريد حامل اللقب ويتأهل لقبل نهائي دوري أبطال أوروبا    "التعليم" تستعرض 48 تجربة مميزة في مدارس الأحساء    "الملك سلمان للإغاثة" يواصل دعم المجتمعات المحتاجة    كودو تعلن عن شراكة استراتيجية مع فريق «مهرة» السعودي المشارك في سباقات أكاديمية الفورمولا 1    تدشين برنامج «سمع السعودية» لزراعة القوقعة للأطفال الفلسطينيين    قطاع الأعمال السعودي يدعم صندوق تمكين القدس    الرياض تستضيف كأس الاتحاد السعودي للكرة الطائرة    خمس جهات حكومية ترسم مستقبل الحج والعمرة    ما كل ممكن يسوغ    قوات الدعم السريع تعلن حكومة موازية وسط مخاوف دولية من التقسيم    أمين المدينة: تأهيل 100 موقع تاريخي بحلول 2030    إحباط تهريب 147 كيلوجراماً من الشبو بميناء جدة الإسلامي    رُهاب الكُتب    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخروج من بيروت ... مقاطع من رواية «دروز بلغراد: حكاية حنا يعقوب»
نشر في الحياة يوم 30 - 11 - 2010


الجبل الأسود (1872)
«أيقظني الهدير وارتجاج الأرض. أين أنا؟ في حبس الهرسك أم في قلعة بلغراد؟ القيود الحديد منعتني من النهوض لكنني أمد رقبتي ومن دون وعي أوشك أن أصيح كما في السنين البعيدة في بلدي البعيد: «بيض بيض، بيض مسلوق». أسمع ركضاً وصراخاً ثم خبطات مرعبة فوقي – على وجه الأرض – كأن حيوانات أسطورية عملاقة تتراكض وتقع وتموت. خوار فظيع يملأ الفضاء وأشم رائحة اللحم الذي يحترق. الرعب يخترق عقلي كحد السيف. عرق بارد كالثلج يبلّ جسمي. أتجمد كما يحدث في الكوابيس – كما في اللحظة التي تسبق فرقعة البواريد وسقوط قاسم مع إخوته على الرمل الرطب - عارفاً أنني قد لا أخرج من هنا. لماذا أموت في هذا المكان من دون أن أرى زوجتي وابنتي وبيتي مرة أخرى؟ خرجت في الصبح أبيع بيضاً والشمس لم تطلع من وراء جبل صنين بعد. قبل عشر سنوات، قبل 11 سنة، قبل 12 سنة. التراب يتساقط على رأسي. مكتوب لي في اللوح المحفوظ أنني أطمر حياً حبيساً بلا جرم في هذه الأرض الغريبة؟ أين العدل؟ كيف يُصنع بي هذا؟ وهيلانة؟ والصغيرة كم كبرت وأنا لا أراها ولا أسمع صوتها؟ النار والدخان. الضجة وراء الحيطان. الزعيق فوقي وتحتي. لم أكن متأكداً من قبل والآن أعرف: هناك محابيس تحتي أيضاً، طبقة أخرى تحت.
عقلي مقسوم نصفين. نصف مذعور يرى في الظلام الأيدي والأقدام تحاول عبثاً أن تتخلص من القيود، ونصف ساكن لا يهتم ويشرد إلى البعيد: إذا كانت هذه ساعتي الأخيرة فأنا أطلب أن أرى أمامي الوجوه القديمة التي أحبها لا هذه الوجوه. رموني هنا قبل سبعة أشهر وطوال هذه الفترة لم أصادق أحداً من المحابيس. قيّدوني إلى وتد يفتته الصدأ في الزاوية الفارغة حيث تنحدر الأرض ويتجمع الماء عند تساقط المطر. «لن تعطش»، قال الحارس الأحمر الشعر وهو يبتسم ويخرج بينما المفاتيح الكثيرة تطقطق على جنبه. «لكنك ستجوع»، قال صوت في الظلام، وامتلأ المكان ضحكاً يشبه الزعيق. سمعت صرير الأسنان وصليل السلاسل وكما يحدث في كل مرة أُنقل فيها فقدت السيطرة على بطني ووسخت نفسي. رفعت وجهي إلى فوق ولم أهتم بالآخرين لأن الظلمة كاملة. ظننت أنهم يتكلمون لغة الحراس في هذه الأقاليم – لغة تعلمت نتفاً منها في القلعة البيضاء – لكن بينما يوجهون الشتائم صوبي اكتشفت أنهم يأتون من أمكنة مختلفة ويتكلمون أكثر من لغة واحدة. سألوني عن اسمي ومن أين أجيء ولماذا حبسوني. لم أجب لئلا يعرفوا من صوتي المخنوق أنني أبكي. في وقت الأكل انشق الباب ووضعوا أكلاً في القدر جنب الباب. بقيت بلا أكل لأنني مربوط في أبعد زاوية.
عظامي ثقيلة في كيس جلدي وأحاول أن أرفعها. لكنني بلا قوة. أسمع ارتطام الأجسام والسلاسل والرؤوس – بعضها مقيد إلى بعض - ثم الصوت الحاد الذي يصرخ وينادي الحراس. الدخان يتسرب إلى هنا. أسعل وكذلك غيري وحين يرتطم أحدهم بي أستوعب أن النجاة ممكنة. أمد ذراعي وأقبض على ساق أو ذراع. طبيعة الصوت في القبو تتبدل وأنتبه أن الباب فتح لكن الظلام لم يتغير. لعله الليل في الخارج. تطرقني عظمة على وجهي وأقع إلى خلف وأصدم رأسي. الدم يملأ فمي وحلقي كما في مرفأ بيروت قبل 12 سنة. لا أدري من أين تأتي القدرة إلى بدني الجائع المحطم لكنني أمد أطرافي مرة أخرى ومثل حيوان لا يفهم أتشبث بالرجل المذعور الذي يحاول أن يهرب وأحفر أصابعي فيه. يضربني مرة أخرى وهذه المرة أستعمل أسناني. أغرزها في اللحم والعظم ولا أقبل أن أُترك كي أختنق. المفاتيح تطرطق، رائحتها قوية، وعلى ثياب الرجل أشم رائحة الخارج. يشدني أحدهم وأسقط. أعرف أنني ميت. حتى أسناني وقعت من لثتي المريضة. رأسي تراخى، مال عن رقبتي. ماء آسن ولج أنفي وعينيّ. في ثياب الرجل الذي فتح الباب رائحة خبز وسكر وتفاح. أبلع دمي وأرفع وجهي. رائحة التفاح تمنحني هذا. بلا أمل أفتح فمي وأقول: «أنا حنا يعقوب».
بيروت (1860)
هذه حكاية حنا يعقوب وزوجته هيلانة قسطنطين يعقوب وابنتهما بربارة، وفيها ما وقع للعائلة البيروتية الصغيرة من مصائب بسبب الحظ العاثر ووجود الرجل المتوسط القامة الحنطي الوجه الأسود الشعر والعينين بائع البيض في المكان الخطأ في الساعة الخطأ.
كانت هيلانة تخشى عليه من خروجه اليومي المبكر في تلك الفترة بسبب كثرة العساكر والغرباء في البلد. وقعت حرب أهلية في الجبل الذي يظلّل بيروت... عدوى القتل انتقلت على الألسنة وفي الهواء إلى مدينة دمشق... الناجون بجلودهم نزحوا إلى بيروت. انحدروا بين الصخور والأشواك كقطعان ماشية أفلتت من ذئاب وأحاطوا بأسوار المدينة القديمة ثم تدفقوا إلى قلبها. كانوا أكثر من سكان البلد وهيلانة خافت حين رأت أولاداً لم ترَ شبهاً لهم من قبل، طوالاً كالقصب، شبه عراة بعظام ناتئة من الجلد، يقفزون على الحائط وراء البيت ويدنون من قن الدجاج. أطلت برأسها فهربوا. قالت لزوجها عند رجوعه في المساء وهو سألها من أين بالضبط قفزوا. خرج في الصباح بلا سلة البيض وجلب حجارة ورفع الحائط أعلى. ساعدته في التعمير بينما بربارة تدب عند العتبة وتلعب مع الفراشات الملونة. كانت روائح الربيع تهب من البساتين مع النسائم لكنها في هذه السنة لم تكن طيبة. خرجت هيلانة إلى السوق كي تشتري ملحاً فوجدت الأزقة الضيقة المسقوفة بين كنيسة سيدة النورية وحارة اليهود مسدودة بعائلات منكوبة نائمة على الطريق. خافت وهي تحاول أن تجد موضعاً لقدمها...
رجع حنا في المساء مبلولاً بالعرق وبينما يغتسل وهي تسكب له ماء أخبرها أن البوارج تسد المرفأ، وصلت من اسطنبول وباريس ولا أحد يعرف ماذا ستفعل. أخبرته عن نساء دمشقيات اللهجة رأتهن يتدافعن على قفة الخبز أمام الجامع العمري. قال «الربّ يرحم». استحى أن يخبرها كم سلة بيض باع في ذلك اليوم. من قبل كان يخبرها كم بيضة باع. لكن منذ عجّت البلد بالناس صار يخرج الى مزارع المصيطبة والرأس والأشرفية كي يشتري من هناك بيضاً. الدجاجات في القن وراء البيت لم تعد كافية. كانت سلة واحدة تكفي للنهار ومرات يرجع وهي نصف ملآنة.
لم يقبل من هيلانة وهو يقوم عنها وهي تتعلق برقبته وتطلب منه البقاء في الفراش في ذلك الفجر الأخير الأسود. قالت له رأيت في المنام أن السلة وقعت والبيضات تكسرت. ضحك كما يفعل في كل مرة تقول فيها «البيضات» بدلاً من «البيض» وقال لها لا تقلقي والبيض سلقته واذا انكسر صار تقشيره أسهل. على عكسها كان منشرحاً ضاحك الوجه في ذلك الصباح الأخير وعندما رفع بظفر خنصره الطويل خصلة شعر عن وجهها سرى التيار الطيب منه إليها وطمر وسواسها. هكذا غادر البيت مع سلتي بيض وهو لا يعرف أنه لن يرجع.
باب المرفأ
بائع البيض حنا يعقوب مرّ أمام جامع السراي سريع الخطوة وهو يرى بطرف العين القباقيب الخشب والمداسات الجلد السختيان متراصفة في المدخل. كانت السرج مضاءة في جوف الجامع ولحظة قيام المصلين من سجودهم تطاولت الظلال بغتة وبدا انها تسابقه في الدرب المنحدرة الى البحر. التقى باعة كعك وسحلب أسفل سوق القطن وبادلهم تحية الفجر ونصحهم أن يعجلوا. عادة يلتقيهم امام جامع السراي. غذوا الخطى في الطلعة ورائحة السحلب الساخنة غمرت وجهه. بينما يعبر امام جامع الدباغة رأى بائع القهوة منصور مراد يقفز الى خلف ويرمي من يده فنجاناً أحرق أصابعه. ألقى عليه التحية وسمع صوتاً لا يعرفه يرد تحيته من داخل احد البيوت النائمة. قبل ان تكتمل البسمة على وجهه شتمه صوت آخر من وراء نافذة غارقة في الظلام. ردّ الشتيمة همساً وأسرع يقطع البقعة المتقعرة حيث الرائحة لا تطاق. من جهة المسلخ هجم خوار شديد وما يشبه الصراخ. في العتمة الخفيفة شعر بحركة إبل وحمير وراء صف الجميزات. انتبه لئلا يزلق على بلاط الزقاق وراء الخان البحري الجديد وقبل ان يخرج من تحت الأعقاد والقبب - هذا الزقاق يشبه قبواً مفتوحاً من الجهتين – سمع أنيناً أنثوياً حاراً وراء باب مشقق الخشب. تلكأ لحظة متسع العينين ثم خرج الى ضوء المشاعل الأليف في مدخل الأرصفة. بات باب المرفأ مركزه الصباحي المفضل في الفترة الأخيرة. قبل ان يبلغ نقطته شعر بالحركة القوية وراء صف العنابر وسمع الأصوات. من دون أن يرى ساحة التحميل المحجوبة عنه بعنبر البصل والبطيخ أدرك أنه سيبيع ما في السلتين قبل حلول الظهيرة. رأى كومة من أكياس الطحين تتعالى منتفخة وثقيلة مثل جبل وأمامها ينتصب عسكري. كان الحارس الليلي مستقيماً كرمح، مستعداً تماماً، وبائع البيض استغرب ذلك لأن الوقت مبكر والضباط عموماً لم يخرجوا بعد. توقف عندما انتبه الى بقعة دم أسود تتوسط الطريق المكسوة بغبار الطحين. في اللحظة ذاتها سمع صوتاً وراء ظهره. استدار فرأى بحارة فرنجة في ثياب غريبة. كلموه بالإشارات وحين أخرجوا قروشاً يعرفها بدأ يبيع. كان يقشر البيضة برمشة عين وتبقى القشرة كاملة بين أصابعه مثل بيضة فارغة. أدهشهم ذلك. كانوا سبعة بحارة واشتروا وأكلوا أكثر من نصف سلة وكلما نظروا الى يده ضاحكين وجدوا بيضة جديدة مقشورة للتو تنتظر. هو أيضاً ضحك بينما أسنانهم تتلون بصفار البيض. في هذه الأثناء انتشر الضوء وبانت البواخر منتشرة على صفحة البحر. أحدهم ربت على كتفه مسروراً قبل أن يذهبوا. في لحظة انطفاء المشاعل في باب المرفأ رفع حنا يعقوب وجهه وأطلق صيحته الأولى: «بيض بيض، بيض مسلوق». شعر أنه صباح مبارك. مصّ أصابعه كأنه يمصّ عظمات عصفور ثم حرك لسانه منظفاً سقف حلقه وجوانب فمه من أثر البيض الدسم. بينما يمسح يده على قميصه ارتجف البحر وارتطمت المراكب الصغيرة بالسلسول الحجر. حمل السلتين من جديد وتقدم مطلقاً صيحته. وضع مسافة بينه وبين العسكري الجامد كفزاعة الغربان وعبر. حين أطلّ على ساحة التحميل جمّده المنظر المخيف في مكانه: رجال لا يقدر أن يحصيهم يركعون على الأرض في صف طويل وأيديهم مربوطة وراء ظهورهم. عرف انهم دروز من ثيابهم ومن الطاقيات القطن البيضاء على الرؤوس. أحدهم كان يميل ثم يستقيم وينقل ركبتيه على الأرض كي يتوازن، وحين سقط الى امام وطرق بجبهته الرصيف مال معه آخرون واهتزوا وأوشكوا على السقوط مثله: كان مربوطاً إليهم.
بائع البيض أراد ان يستدير ويهرب إلى البيت. دبّ الرعب في أوصاله برؤية الجبليين هكذا، مربوطين بحبل كالحيوانات وراكعين على حافة البحر. حاول أن يحرك ساقيه لكن الذعر شلّ أطرافه. التفتت صوبه رؤوس ثم رأى جنوداً يقتربون منه. ورأى ضابطاً يتقي بكفٍ مرفوعة أشعة الشمس يبتسم له ويسأله عن اسمه.
*
«جئت في وقتك يا ابني يا حنا. لا تخف، هؤلاء محابيس حاربوا في الجبل وصدر الفرمان بنفيهم الى بلاد الصرب وراء البحر. هذه السفينة هنا، انظر الى الباخرة الكبيرة أم ثلاثة دواخين، هذه وصلت الليلة من إزمير كي تأخذهم. لكننا الآن ننتظر سعادة القنصل الفرنساوي كي يقوم من النوم ويأتي ويحصي الرؤوس. اذا كان العدد ناقصاً يظن اننا نسهل للمحابيس الهرب ويقدم اعتراضاً امام الباشا. مهم جداً عدد الرؤوس. هل تعرف عكا؟ عظيم. عكا بلد حلو. من هنا الى مرفأ عكا رحلة يومين أو أقل في هذه الباخرة. أتيت في أحسن وقت يا ابني يا حنا: كم ثمن هذا البيض الباقي معك؟ سأعطيك ضعف ثمنه وسأزيد على ذلك ثلاث ليرات ذهب تأخذها مني عندما ترجع من عكا. الباخرة تتوقف في عكا كي تتزود بالفحم الحجري. انت تنزل منها هناك وترجع وهؤلاء يكملون الرحلة الى بلغراد. حين يأتي القنصل الفرنساوي بعد قليل لا تفتح فمك وافعل مثل الباقين كي يظنك واحداً منهم. هذا سهل جداً وخذْ، البسْ هذه على رأسك. لا تتكلم إلا اذا سألك القنصل عن اسمك. احفظْ الاسم: سليمان غفار عز الدين. انظرْ هناك: هؤلاء الأربعة الذين ينظرون الى هنا إخوتك. تصرفْ كأنهم إخوتك. تركع جنبهم الآن وتتوكل على ربّك وتزور عكا وترجع الينا ونعطيك ثلاث عثمليات وأجرة الطريق. فهمت؟ احفظْ اسمك: سليمان غفار عز الدين».
لم يشعر حنا يعقوب بالشمس التي تشوي رقبته بينما الضابط يتكلم. ظل ساكتاً مصعوقاً أمام الوجه الطويل المنقط بنمش شبه طفولي. تركهم يأخذون السلتين منه. أعطته يد نحيلة طاقية درزية كي يلبسها على رأسه فأخذها بحركة لاإرادية. سأله الصوت العجيب هل حفظ الاسم فلفظ الحروف بصوت مرتجف كأنه الآن يتعلم الحكي: «سليمان غفار عز الدين». دفعه الجنود صوب المحابيس وفي تلك اللحظة فقط خرج من الصدمة. استدار استدارة عنيفة وارتمى على قدمي الضابط: «أبوس رجلك يا باشا لا تفعل بي هذا، زوجتي صغيرة عمرها 17 سنة لا أحد عندها غيري وابنتي طفلة ما زالت ترضع، أبوس رجلك خذْ غيري أنا لا أقدر ان أذهب». سمع كلمة تركية ولم يفهم كيف صار في لحظة مطروحاً على ظهره مثبتاً الى الأرض كأنهم دقوا أطرافه بالمسامير على صليب. ألم فظيع أحرق فمه وحتى بعد رؤية السكين لم يستوعب. كان الضابط يضربه بقبضة الخنجر لا بشفرته. ثم كلّمه بالعربية وأمره أن يفتح فمه ويمد لسانه. مال بوجهه وقال بسرعة: «قبلت قبلت» وأقفل فمه لئلا يقطعوا لسانه. نهض الضابط وهو يبتسم: «عفارم عفارم، وحين ترجع من عكا لك ثلاث ليرات ذهب».
قيّدوه وشدّوا الحبل حتى خرج الدم من معصميه. في رمشة عين ابتلّت الطاقية على رأسه بالعرق. كان يتأرجح في ركوعه. الألم مزّق مفاصله. حين لاحظ قرفاً ظاهراً على وجوه غامضة قريبة أدرك أن البلل الحارق المباغت بين فخذيه ليس عرقاً. داخ وسبح في ضباب ومرّ عليه زمن أخرس غريب ثم تركز الحريق في كليتيه وفكر أنهم جرحوه وهو لم ينتبه. بعد ذلك رأى رجلاً شديد الشقرة أزرق العينين ينحني عليه ويقول شيئاً. في البدء لم يفهم. ثم، دفعة واحدة، بينما الرجل الأجنبي يبتعد، رجع اليه الإدراك واستعاد صفاء ذهنه. لن تسنح له فرصة ثانية: وحده هذا الرجل قد ينقذه، القنصل الفرنساوي. رفع حنا وجهه ومدّ رقبته وصرخ مثل غريق: «أنا حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيتي على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك». كان القنصل بعيداً الآن لكنه سمع الصرخة والتفت ونظر من فوق كتفه وسأل الترجمان ماذا يقول السجين؟ أجابه الترجمان بفرنسية ممتازة وبلا تردد: «يقول أنا قتلت حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيته على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك». بدا الغضب على القنصل واحتقن وجهه. اقترب ضابط الترحيل وقال: «إذا شاء سعادتك نقطع لسانه». ردّ القنصل قالباً شفتيه: «لا، لسنا برابرة، لكن اجعلوا المجرم يخرس». خطف الضابط بارودة من احد الجنود وطوح بها في الهواء مثل فأس وهشّم قبضتها الخشب على فك السجين. كان يمسك البارودة من قسطلها الحديد وقبل ان يردها هزّها كي يرى الى أي حد تخلعت ثم مسح يده على ظهر الجندي.
* من رواية تصدر قريباً عن المركز الثقافي العربي ودار الآداب في بيروت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.