التسول ظاهرة اجتماعية معقدة تُمثل تحديًا كبيرًا للمجتمعات في جميع أنحاء العالم، فبينما يرتبط التسول في الأذهان بالحاجة الماسة والفقر المدقع، تشير الوقائع إلى أن الظاهرة تخطت هذا الإطار لتصبح في كثير من الحالات مهنة منظمة تُدار بممارسات استغلالية تُعطل التنمية الاجتماعية وتُهدر الكرامة الإنسانية. لا يمكن إنكار أن بعض حالات التسول ناتجة عن فقر حقيقي أو بطالة مُزمنة تدفع الأفراد إلى طلب المساعدة كملاذ أخير، ومع ذلك، تُشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من المتسولين اليوم هم مدَّعُون، يستغلون عواطف الآخرين لتحقيق مكاسب مادية سريعة. ومن أبرز أسباب انتشار الظاهرة الاستغلال المنظم من شبكات إجرامية توظف النساء والأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة ك"أدوات" للتسول، مستغلة تعاطف الجمهور مع الفئات الضعيفة. ومن الأسباب كذلك الكسل والاتكالية؛ فهناك أفراد يفضلون التسول على العمل، خاصة مع غياب الثقافة المجتمعية الداعمة للعمل المنتج. وكذلك من الأسباب الجوع المادي والمعنوي؛ حيث إن بعض المتسولين يعانون من أمراض نفسية أو اجتماعية تدفعهم إلى العزلة والاعتماد على الصدقات. يمتد تأثير التسول إلى ما هو أبعد من الفرد المحتاج، ليشمل المجتمع بأكمله؛ فإلى جانب الآثار الاقتصادية التي تتمثل في هدر موارد المجتمع على دعم أفراد قد لا يكونون بحاجة حقيقية للمساعدة، تظهر تأثيرات نفسية واجتماعية عدة، منها تشويه صورة المجتمع؛ حيث يؤدي انتشار التسول إلى خلق صورة سلبية عن المجتمع، فينظر إليه على أنه مكان تفتقر فيه العدالة الاجتماعية والتكافل الحقيقي. لا يقتصر ضرر التسول على تشويه الصورة الجمالية للمجتمع، بل يتعداه إلى (تآكل الثقة الاجتماعية)؛ فعندما يكتشف الفرد أن معظم المتسولين ليسوا بحاجة حقيقية؛ يفقد الثقة في المحتاجين الفعليين، مما يُضعف الروح التضامنية، ويصبح المواطن متردداً في تقديم العون خوفاً من استغلاله. ومن الآثار زيادة الجريمة؛ فقد ربط الدراسات بين التسول المنظم وجني الأموال غير المشروعة (كالاتجار بالبشر أو ترويج المخدرات). ومن آثار التسول أيضاً إهدار الموارد؛ حيث تُقدر الأممالمتحدة أن المليارات تُصرف سنويًا على التسول الوهمي، بينما تُحرم مشاريع التنمية منها. ومن الآثار كذلك الضرر النفسي للمستغلين؛ فالأطفال الذين يُجبرون على التسول يفقدون فرص التعليم والطفولة، ما يُعزز دورة الفقر والاستغلال. وراء ظاهرة التسول، تكمن دوافع نفسية معقدة تُحولها من مسألة حاجة إلى مهنة منظمة تُدر أرباحًا غير مشروعة. فبعض المستغِلين يُسيطرون على عواطف الناس عبر التلاعب النفسي، مثل التظاهر بالمرض أو اليتم، لاستدرار الشفقة وتحقيق مكاسب تفوق دخل العمل الشريف. كما أن غياب الضمير الاجتماعي والانغماس في الجشع يدفعان البعض إلى استغلال فئات كالنساء والأطفال لتحقيق ثراء سريع دون عناء، مع اعتقاد راسخ بأن التسول "مصدر دخل مضمون" في ظل ضعف الرقابة. هذه الأسباب تُظهر أن الاستغلال ليس مجرد سلوك اقتصادي، بل انعكاس لمرض نفسي يحتاج إلى مواجهة عبر توعية المجتمع بأساليب التلاعب، وتشديد العقوبات على من يُحوِّلون المعاناة الإنسانية إلى سلعة رخيصة. في المملكة العربية السعودية، تُبذل جهود حثيثة للحد من التسول عبر آليات مُنظمة تُركِّز على التوعية بضرورة التبرع عبر القنوات الرسمية مثل منصة "إحسان"، التي أطلقتها المملكة كأول منصة رقمية مُعتمدة لتوجيه الصدقات والتبرعات إلى مستحقيها، مع ضمان الشفافية والمتابعة. وعن طريق الجمعيات الخيرية المرخصة ك"جمعية الأطفال المعوقين" أو "جمعية البر"، والتي تُقدم مساعدات ملموسة (كالتعليم والعلاج) بدلًا من الصدقات العشوائية. وتبذل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية دور كبير في حملات مكافحة التسول التي تهدف إلى توعية المجتمع بمخاطر التسول الوهمي، والتقديم للمساعدات الحكومية عبر برامج مثل "حساب المواطن" و"ضمان"، والتي تُمتص الفقر بدلًا من تركه يُغذِّي التسول، والعمل على تأهيل المتسولين في برامج لإعادة دمج المحتاجين في سوق العمل عبر التدريب وتقديم القروض الصغيرة. التسول ظاهرة لا تُقاس بحجمها العددي فحسب، بل بتأثيرها المُفرط في تماسك النسيج الاجتماعي واقتصاد الدولة، فإذا كانت الحاجة الملحة تدفع البعض إلى التسول، فإن الاستغلال المنظم للفئات الضعيفة (كالنساء والأطفال وكبار السن) يُحول الظاهرة إلى جريمة تُضاف إلى جرائم الاتجار بالبشر. مكافحة التسول ليست مسؤولية الدولة وحدها؛ بل هي التزام أخلاقي على كل فرد أن يسهم فيه برفض الصدقة العشوائية، والإبلاغ عن الحالات المشبوهة، ودعم البرامج التي تُعيد للمحتاج كرامته عبر العمل لا التسول. وهنا تكمن مسؤولية المجتمع في عدم التساهل مع المتسولين الوهميين، والتحول من ثقافة العطاء العشوائي إلى العطاء المؤسسي عبر المنصات الرسمية المعتمدة. يقول الإمام مالك بن أنس: "لا تُعْطِ الصدقةَ إلا لمن يستحقها، فإنك إن أعطيتَها لغير مستحقها فقد ظلمتَ من يستحقها"، فالتصدق على غير المستحقين ليس مجرد خطأ اقتصادي، بل ظلمٌ للمحتاجين الحقيقيين الذين ينتظرون يد العون.