في رسالة داخلية، حث سيرجي برين موظفي شركته غوغل خصوصا فريق (ديب مايند) زيادة ساعات عملهم في المكتب إلى خمس أيام في الأسبوع بدلا من ثلاثة، وهي السياسة التي قررتها الشركة لموظفيها. وقد ذكر سيرجي في رسالته أن بإمكان الشركة تحقيق اختراقات مهمة نحو الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام الذي يمكن أن ينافس قدرات الإنسان بل يتفوق عليها في كثير من مجالات الحياة. إلا أن سيرجي لم ينتبه إلى المفارقة الساخرة التي احتوتها رسالته: إنه يطلب من موظفيه تكريس أنفسهم لتطوير تقنية، إذا نجحت، يمكن أن تؤدي إلى فصلهم من الوظيفة. تتكشف هذه المفارقة عن عدة أمور. أولا، التناقض بين الحوافز قصيرة الأجل وطويلة الأجل. يدفع سيرجي الموظفين إلى العمل بجدية أكبر، والتضحية لتحقيق إنجاز يحسب لهم تاريخيا، وما يمكن أن يترتب من الجهد المضاعف من تنازلات مقابل حوافز وقتية إن وجدت، في مقابل حافز طويل الأجل غامض محفوف بمثبط يتمثل في الاستغناء عنهم أو عن بعضهم على أقل تقدير. ثانيا، إذا نظرنا إلى الطلب بحد ذاته، يبدو أن العودة إلى المكتب تتعارض مع طبيعة الذكاء الاصطناعي الفائق. تتمثل إحدى الفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي في تحرير الموظفين من هيكل العمل التقليدي الجامد، فهل ينطوي هذا التحفيز على التضحية مؤقتا بالعمل من المكتب أملا في التحرر لاحقا بإحداث ثورة في الإنتاجية تغنيهم عن العمل من المكتب كليا؟ أخيرا، تكمن المفارقة في السؤال الأهم وهو من المستفيد الحقيقي من كل ذلك في نهاية المطاف؟ في خضم المخاوف المجتمعية الأوسع نطاقا بشأن الذكاء الاصطناعي والأتمتة، قد يتساءل الموظفون في هواجسهم عن مستقبل أبنائهم لا مستقبلهم فحسب. يعمل في فريق الذكاء الاصطناعي لدى غوغل ألمع العقول، فهل لديهم الدافع الحقيقي إلى الوصول إلى عالم تتضاءل الحاجة فيه إلى الباحثين والمهندسين من بني جنسهم؟ تثير رسالة سيرجي أسئلة أخلاقية ووجودية: هل يعمل الباحثون لتمكن البشرية لرفع جودة الحياة أم أنهم يعملون لتركيز السلطة في أيدي القلة مع الاستغناء عن الكثير من القوى العاملة؟ تأتي دعوة سيرجي برين للعودة إلى العمل من المكتب في ضوء التنافس الشديد بين الشركات لرفع الإنتاجية. فقد تراجعت أمازون عن العمل عن بعد ابتداء من هذه السنة، وقد تبعها في ذلك (مورغن تشيس) وشركة الاتصالات (تي أن تي). لكن مع دعوة سيرجي إلى العمل من المكتب، طلب من الموظفين أن يعملوا بما لا يتجاوز 60 ساعة في الأسبوع محذرا من الاحتراق الوظيفي. مع ما تحمله الرسالة من مفارقات حتى في عدد ساعات العمل التي تبلغ الحد الأعلى، فإن المنافسة في الذكاء الاصطناعي تبدو للكثير سباقا نحو الهاوية، حيث لا تبدو الصورة واضحة اقتصاديا واجتماعيا للعالم الذي تدفع به الشركات الكبرى دفعا.