يتساقط المطر في لوحات هاسوي كاواسي على حياة تشبه حياتنا ولا تشبهها. شارع ومارة ومظلات. امرأتان في الزي التقليدي (الكيمونو). دائرة المظلة مخططة تتلقى حبال المطر. ثمة رجل (حارس الحانة؟) في معطف، ليس غامضاً لكنه يشير الى سرّ. هل هذا حقيقي أم خيالي؟ في لوحة صيفية لكيشيو كويزومي نرى حديقة وشجراً وناساً على مقاعد أو عابرين. هل ينظرون الى بركة الماء والى الصخور وسط البركة؟ على تقاطع طرق في لوحة ليوشينوبو ساكاموتو نرى الترامواي وعربة بمصابيح وهاجة ورجالاً ونساء أمام دكاكين وفي ظل أعمدة: هذه حياة طوكيو في مطلع القرن العشرين؟ «حياة جامدة في ضوء القمر» لسيميا ناوبومي تسحبنا الى جوٍ شعري (خيالي؟) سرّه ضوء القمر. كالفينو نقل عن شاعر قديم ان العالم يفقد ثقله، يصير خفيفاً، في ضوء القمر. «شتاء في انبانوما» لفوميو كيتاوكا تبعث برداً دافئاً في العظام. كيف يكون البرد دافئاً؟ ليس البرد، بل ذكراه. بينما تنظر الى القوارب على المياه البيضاء كالثلج، بينما تنظر الى السنابل الصفراء وسط الماء، يملأ قلبك الحنين. كأنك تتذكر حياة سابقة. ليس الطفولة فقط (أين الطفولة والأبيض يكلل رأسك؟) بل ما كان أنت قبل أن تغدو ما أنت عليه. هل هي لحظة صوفية؟ غاو كسينغيان (هذا صيني، كالفينو إيطالي، لكن الدم الياباني يجري في العروق) انتبه في نصف رحلته الى «جبل الروح» انه بينما يطلب الجمال الكامل (السلام الكامل) يخاطر بفقدان طبيعته البشرية: أنت لست إنساناً إلا بين البشر، وأنت تأكل معهم، تتكلم معهم، تشاطرهم الطيب والخبيث. كان ينظر الى شجرة قديمة تتفرع أغصانها الضخمة تحت سماء رمادية واكتشف أنه يخاف هذا الجمال اللانهائي. لماذا الخوف؟ ساسكند يخاف من عين الحمامة. كاواباتا يرى البزاق خارجاً من التراب بعد شتوة أولى فيرتعش. لماذا يخشى هذا المنظر: القواقع السوداء ملتصقة بأعلى حائط الجل؟ هنا الرائحة عارمة، التراب المبلول والصيف الذي انتهى في رمشة عين. يطفو المركب كأنه في منام عندما يرسمه جوينشيرو سكينو. اللوحة صغيرة، بقالب خشب محفور تستطيع أن تطبعها الى ما لا نهاية على الكرتون أو الورق. المياه والمركب على البحيرة وما يشبه المعبد البوذي والدرج النازل من المعبد الى حافة الماء. ثمة مظلة على المركب، صفراء اللون بخطوط سوداء، وترى ظلها في البحيرة. لا نرى وجوهنا في هذه البحيرة: لماذا؟ «عزلة» لكيوشي سايتو عبارة عن طريق: مسافة لا تُقطع بين هذه اللوحة وتلك التي تحمل العنوان نفسه لإدوار هوبر. مع أن في اللوحتين ما يشبه الطريق. أين الفارق؟ كيف يستوعب القلب (العقل؟) الفارق بين لوحات الغرب واللوحة اليابانية؟ مثلثات الجبال في خلفية «البحيرة» ليوشيو كانوموري محطمة القمم. المطر صنع هذا؟ تعاقب الفصول؟ هل تكون براكين خامدة؟ في «ضجيج الجبل» لكاواباتا نرى عجوزاً يصغي الى الطبيعة ويسمع صوت الجبل في حديقته. في «ناراياما» لفوكازاوا عجوز يحملها ابنها كي تموت تحت الثلج، في الأعالي. كيف تتذكر العجوز عندئذٍ شبابها؟ هل كانت تشبه الفتاة في لوحة يوميجي تاكيشيا «ضوء الصباح»؟ أم تلك المرأة الحزينة في لوحة تسونتسومي كينانو «في الغرفة»؟ لكن العجوز في «ناراياما» (جبل السنديان) ولدت في قرية فقيرة وهناك عاشت الحياة كلها فكيف تملك الإيماءات (المكلفة؟) لبنات طوكيو؟ من تشبه إذاً؟ النساء الفلاّحات في لوحات الفلمنكي بروغل؟ أين نرسم الخط بين اللوحة اليابانية ولوحات الغرب؟ في «فصل الربيع» لهيروشي يوشيدا نرى أشجار الكرز، مزهرة، بيضاء، تتدلى أغصانها على جسر خشب في حديقة يابانية تقليدية. زهور أشجار الكرز - وأشجار الخوخ - تملأ الروايات اليابانية. لا تشم رائحة العطر خارجة من «الجميلات النائمات» لكنك ترى اللون الأبيض الناصع. ماذا يحمل هذا اللون الى الأعماق، السكينة أم القلق؟ في «شيوبارا» لهاسوي كاواسي نرى بيوتاً غارقة في الثلج والظلمة، وبيتاً واحداً بمصابيح مضاءة. الضوء الأصفر الخارج من النوافذ يقول لنا شيئاً. «مصباح غيفو» لشينوي ايتو مصنوع من الورق، ترفعه الفتاة المعقودة الشعر، وتعلقه بخيط أمام العيون التي تنظر اليها. الفتاة لا ترى العيون المحدقة، لا تعرف أننا هنا، لسنا جزءاً من عالمها. عالمها هذا المصباح الذي تُعلقه: ونحن، هل لنا قيمة؟ «المعبد في كاتاتا» يتغطى بالثلوج رويداً رويداً. رقائق الثلج تتهادى في الفضاء، تتساقط متمهلة، خفيفة كفراشات الصيف، من سماء بلون البحيرة. المعبد يتعلق على الواح خشب بين الماء والسماء. ليس معبداً. لعله كوخ وحسب. يبدو فارغاً لكنه على الأرجح مسكون. من يعيش في قلب هذا الكوخ الساكن داخل العاصفة؟ في الزاوية أغصان شجرة والثلج يتراكم على الأغصان أيضاً. بعد قليل يكسر ثقل الثلج هذا الغصن الأخضر. تنظر الى الساعة ثم الى الغصن مجدداً. مرّت الساعات، مرّت الأيام، ذهبت سنة، ثم رجعت، ذهبت سنتين وعدت، والغصن لم ينكسر بعد، والكوخ على حاله، والثلج لم يتوقف عن التساقط لحظة. النساء في رسوم غويو هاشيفوشي ينظرن اليك. العيون اليابانية والفم الياباني. لون البشرة أبيض ساطع: أين اللون الأصفر؟ يختفي تحت هذا البياض؟ المطر يتساقط على وسط طوكيو القديم في لوحة تاكاشي هنمي: المرأة تعطينا ظهرها وتقف تحت مظلة غربية، سوداء اللون. ثمة غيرها في اللوحة لكن ثوبها الأزرق يميزها عن الجميع. مركزها أيضاً. والحزن في حركة جسمها. مع أنها جامدة، لا تتحرك. لماذا تحزن واقفة تحت المطر في وسط طوكيو؟ نحن في العقد الثاني أو الثالث من القرن العشرين، والحياة - كما يفترض - ساكنة. لم تقع القنابل على المدينة بعد. عاش الرجل الى الحرب العالمية الثانية: في الساعة السوداء نظر الى لوحته القديمة وشعر بالأمان. غادر الساعة الفظيعة الى عالم زال من الوجود. هل عرفت المرأة (في اللوحة) شيئاً كان يجهله؟ هل حدست بالمستقبل؟ تعطينا ظهرها، ولو رأينا وجهها لحظة (لو تستدير لحظة)، ربما كنا نعرف شيئاً. القطط تقوس ظهورها في رسوم تومو انغاكي. هذه عدائية؟ هل الطبيعة ضد الإنسان؟ أمواج هيروشيجي يمكن أن تقتلنا؟ ستيفنسون كتب في احدى رسائله عن رحلة نهرية: كان يتأمل الأشجار وروعة المياه والقصب عندما طرقه غصن وأسقطه من القارب. لم يغرق لكنه أوشك على ذلك. النهر الساحر الجمال كاد يقضي عليه: لو حدث ذلك ما قرأنا يوماً رواياته. كان في الثانية والعشرين. كافكا - في الأربعين - نظر الى نحلة ترشف رحيق زهرة في نافذته وشعر بعطش لانهائي. كان يحتضر في مصح مسلولين. هل رأى عندئذ - بينما العالم ينام والنحلة ترشف الرحيق في ساعة الفجر - هل رأى كافكا (الطفولي الوجه) الحياة الساكنة في جمالها اللانهائي؟ «زهور تموز (يوليو)» لكشيزو فوجيموري تميل أعناقها، وتتدلى. المزهرية تضم الباقة، وعلى المزهرية أزهار مرسومة أيضاً. أيها حقيقي أكثر؟ ثمة زهرة مختلفة عن الزهور الأخرى، شبه صفراء، شبه خفية. لونها يشبه الخلفية ولهذا لا ننتبه لها للوهلة الأولى. احدى الناجيات من هيروشيما كتبت قصة قصيرة عن زهرة تشبه هذه. لم يصف كافكا المزهرية في نافذة غرفته. كان متعباً، عاجزاً عن الحكي، يخط جملة على ورقة الدواء فيتعب. كان يتلاشى. ماذا رأى بينما يغيب؟ يتعالى جبل فوجي ملتفاً بضباب خفيف في رسوم هاسوي كاواسي. بساتين تترامى وقارب يقطع الماء، وفي الخلفية يتعالى جبل مسحور الى سماء عالية، زرقاء مبقعة بالأبيض. تولستوي كتب في يومياته الأخيرة عن شجرة يغطي جذعها الفطر. كان يتنزه في جوار مزرعته ورفع عصاه وطرق الفطر القديم مرة، ثم أخرى. كان يتفتت ورأى الأبيض الناصع في قلب البنيّ القاتم وفي قلب المادة الضاربة الى الأسود. شهق أمام جمال الألوان. الزهور في الصفحة الأولى من «حاجي مراد» تبهر الأنفاس. كان يراها في المرج أم في رأسه؟ لفين الذي يقضي نهاراً يحصد العشب مع الحصادين عرف اللحظة اليابانية (الصوفية). كاواباتا وصف أمام أكاديمية في الغرب شعور رهبان الزنّ - البوذية أمام القمر، في ليلة باردة، وسط الجبال وصمت الجبال. هل عرفت آنا كاريننا هذا الشعور قبل أن يلطمها القطار؟ والرجل الذي أحبّته، هل عرف هذا الشعور قبل أن ينكسر (تحته) ظهر الفرس؟ أشجار الغابة تتباعد في «اوازو» لشينوي ايتو. قبل الغابة حقل يحرثه ثور. الثور جامد (مع أن الفلاح يسوطه) لكن الحقل يتبدل: كيف هذا؟ لم يكن محروثاً، وها هي أرضه مقلوبة، وبعد قليل يقع عليها المطر. هذه أمطار الخريف، والغيوم تدنو من وراء الغابة. عند الظهيرة تضيء الشمس المحتجبة حواف الغيوم. بطن الغيوم يبقى قاتماً. لأن مادتها سميكة هنا. يهبّ الهواء وتتحرك السماء. الطيور تعبر، والفراشات تذهب الى حيث تنام. السكينة عميقة، لا تُحد. ويُخيل اليك انك صرت تعرف شيئاً عن الرسم الياباني. لكنك تبقى غير متأكد. مطر يتساقط على صفصافة عارية الأغصان، شبه سوداء، في لوحة كونن أويهارا. وراء الفروع المتدلية مثل خيوط المطر يظهر مبنى مضاء النوافذ. الوقت ليل، والنوافذ صفراء. الهدوء - مرة أخرى - لا نهائي. هل هو هدوء حقيقي؟ لا نعرف ماذا يجري داخل الغرف، لكن هذه النوافذ حياتنا أيضاً.