بدلا من الاعتراف بالفشل الذريع لمسار أنابوليس والبحث في أسبابه والعمل على معالجتها، أكدت اللجنة الرباعية الدولية على تمسكها بهذا المسار، واطّلعت من الجانبين على "التقدم المهم" والتفاهمات المشتركة التي توصلا إليها في المفاوضات، وأكدت على الحاجة الى استمرار المفاوضات الثنائية السرية والمباشرة من دون انقطاع، وعلى عدم تجزئة الحل أو ترحيل أي قضية، وتنفيذ بنود خارطة الطريق، والتزمت أن ما تم التوصل إليه سيكون هو نقطة البداية للمفاوضات اللاحقة حتى لا نبدأ من نقطة الصفر، وسط تأكيدات من كوندوليزا رايس بأنها ستوصي الإدارة الأميركية الجديدة بالشروع الفوري بالعمل من أجل تنشيط ملف الشرق الأوسط. إن القيادة الفلسطينية ثمّنت اللقاء عاليا، واعتبرته مهما، ولخّص صائب عريقات حصيلة الاجتماع بقوله: "لا لوم لأحد، ولا مفاجآت والمفاوضات لن تبدأ من الصفر"، ولكنه لم يقل لنا لماذا لم يتم توجيه اللوم لإسرائيل التي أفشلت المفاوضات وجعلتها تدور حول نفسها، كما لم يقل لنا لماذا لم يقف الاجتماع أمام فشل اللجنة الرباعية والمجتمع الدولي في تحقيق وعد انابوليس بالتوصل الى اتفاق فلسطيني - إسرائيلي قبل نهاية العام الحالي، يحقق رؤية الرئيس الأميركي جورج بوش بإقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل؟ وحتى لا أتهم بالمبالغة سأبرهن على ما أقول، فإذا عدنا الى مؤتمر انابوليس نجد أنه أكد في الإعلان الصادر عنه على ثلاث مسائل أساسية: 1- الاتفاق على استئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية من أجل التوصل الى اتفاق قبل نهاية عام 2008. وهذه المسألة لم يتحقق منها سوى استئناف المفاوضات التي انطلقت من دون مرجعية واضحة وملزمة، فليس واضحا ما هو هدف المفاوضات، فلا يكفي القول بأن الهدف إقامة دولة فلسطينية، الأهم أين ستقام، وما هي المرجعية التي ستحكم بين الموقفين المتباعدين جدا الفلسطيني والإسرائيلي. فقد ألقى مسار انابوليس بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية على قارعة الطريق قبل الوصول الى قاعة المؤتمر، بحيث تتحكم بالمفاوضات إرادة المتفاوضين وإرادة اسرائيل أن توظف احتلالها وقوتها على طاولة المفاوضات لتحقيق أطماعها بسرعة أكبر وبتكاليف أقل. لذلك لاحظنا أن اسرائيل جمعت ما بين المفاوضات وبين استمرار العدوان بكل أشكاله وتوسيع وتكثيف الاستيطان، والاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري، وفي الحصار وتقطيع أوصال الضفة حيث عزلت القدس وعزلت الأغوار عن بقية الضفة ومضت في بناء ثلاثة كانتونات في الضفة، وأحكمت الحصار الخانق على غزة، ما يخلق أمرا واقعا يجحف بالقضايا المطروحة على طاولة المفاوضات حول الوضع النهائي. أما التقدم الذي حصل في المفاوضات، فلا ندري أين هو، فيكفي أنه غير محدد، ويكفي ايضا أن أولمرت عندما عرض الخارطة التي يقترحها لترسيم الحدود لم يسلّم الرئيس أبو مازن نسخة عنها، ورفض أن يسمح له أن يراها عن قرب، مما يعكس عدم الجدية واللامسؤولية. كما أن تسيبي ليفني رئيسة الوفد الاسرائيلي للمفاوضات والمرشحة الثانية الأقل سوءاً لرئاسة الحكومة الإسرائيلية القادمة، رفضت توثيق أين وصلت المفاوضات عبر كتابة النقاط المتفق عليها وتلك المختلف عليها حتى لا تخسر الانتخابات القادمة، وذلك بدلا من أن تخوض الانتخابات مسلحة ببرنامج سلام واضح يميزها عن منافسها بنيامين نتنياهو، كما ترفض ليفني عودة حتى لاجئ واحد، وبذلك تزايد على ايهود اولمرت الذي "تكرّم" ووافق على عودة 20 ألف لاجئ على مدار عشر سنوات وفي إطار لمّ الشمل، وليس تطبيقا لحق العودة. كما تتحفظ ليفني على مبادرة السلام العربية في ثلاث نقاط هي رفض عودة اسرائيل الى حدود 1967، ورفض النص الوارد في مبادرة السلام العربية عن قضية اللاجئين، ولا تريد أن تكون مبادرة السلام العربية بديلا عن المفاوضات الثنائية، بل ترى ليفني أن دور العرب هو توفير المظلة للفلسطينيين لمساعدتهم على تقديم التنازلات المطلوبة من اسرائيل. 2- تطبيق الالتزامات الفلسطينية والاسرائيلية الواردة في خارطة الطريق، وكما هو معروف فإن السلطة الفلسطينية تقوم بتطبيق التزاماتها، فقد أجرت الانتخابات، ومضت في إعداد الدستور، وأصدرت بيانات تؤكد حق اسرائيل بالعيش بسلام وأمن ووقف كل النشاطات العدائية "ونبذ الإرهاب"، ودمجت الأجهزة الأمنية تحت إشراف وزير داخلية مخوّل الصلاحيات، ومضت بإصلاح القضاء والاقتصاد والجهاز الإداري للسلطة، وفي اجتثاث "الإرهاب" والأسلحة غير الشرعية. أما اسرائيل فلم تقم تقريبا بأي شيء على صعيد تطبيق التزاماتها، فلم تعد القوات الإسرائيلية الى حدود 28/9/2000، ولم تجمّد النشاطات الاستيطانية، بما فيها النمو الطبيعي، ولم تفتح المؤسسات المغلقة في القدس، ولم تقم بخطوات لتحسين أوضاع الفلسطينيين، ولم توقف الهجمات وتدمير المؤسسات، ولم تزل البؤر الاستيطانية التي أقامتها منذ 2001. 3- نص اعلان انابوليس على ان الولاياتالمتحدة ستقوم بالإشراف على تطبيق الطرفين تعهداتهما بموجب خارطة الطريق، ولكن الولاياتالمتحدة لم توجه اللوم لإسرائيل على عدم تطبيق التزاماتها لدرجة أن الضباط الأميركيين لا يرفعون تقارير في أحيان كثيرة خشية أن يضطروا الى توجيه اللوم لإسرائيل. فالإدارة الأميركية لم تكن طرفا محايدا ولا نزيها بل هي منحازة بشكل مطلق لاسرائيل، وأطراف اللجنة الرباعية لم تحرك ساكنا وكانت مثل شاهد الزور. إذا كان الهدف هو السلام، فيجب وقف مسار انابوليس، وإيجاد مسار جديد قادر على إنهاء الاحتلال يستند الى قرارات الشرعية الدولية ويسعى الى تطبيقها، وعلى أساس مشاركة دولية فاعلة تفرض ضمانات حقيقية لتواصل المفاوضات خلال فترة زمنية قصيرة، وعلى أساس آلية تطبيق ملزمة. أما إذا استمر مسار انابوليس كما هو، فهو يؤدي أغراضاً لا علاقة لها بالسلام، أبرزها الحفاظ على الوضع الراهن، بما في ذلك الحفاظ على الاحتلال مع تحسين شروطه، والحفاظ على السلطة حتى تتولى المسؤولية عن الخدمات للفلسطينيين. أما الحقوق والأهداف الوطنية المشروعة في إنهاء الاحتلال والعودة وتقرير المصير وتحقيق الحرية والاستقلال فمؤجلة الى إشعار آخر! إذا أردنا السلام حقا فعلينا أن نقول للعالم كله أن عام 2008 يكاد أن ينتهي من دون التوصل الى اتفاق سلام، والأنكى من ذلك أن اسرائيل استخدمت المفاوضات للتغطية على استمرارها بفرض الحقائق على الأرض التي تجعل الحل الاسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليا. وهذا يتطلب وقف مسار انابوليس والدعوة لإطلاق مسار سياسي جديد قادر على إنهاء الاحتلال وتحقيق السلام. وإذا أردنا أن تساهم الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك اوباما علينا أن نظهر الحقيقة أمامها وليس الادعاء بأن كل شيء على ما يرام وأن شوطا هاما قد قطع، لأن هذا يجعلها تبارك مسار انابوليس بدلا من المساهمة الفاعلة في ايجاد مسار جديد. * كاتب فلسطيني