أقدم فاتسلاف هافل، الرئيس التشيكي الأسبق وأول رئيس تشيكوسلوفاكي غداة تفكك الكتلة السوفياتية، على خطوة فريدة حين اعتذر من ألمان منطقة السوديت عن طردهم منها، ومن تشيكوسلوفاكيا، غداة الحرب العالمية الثانية. وكان هؤلاء طلبوا الاندماج في المانيا الكبرى، في قيادة هتلر، عشية الحرب الثانية، في 1938، وهللوا لقرار مؤتمر ميونيخ تلبية طلب هتلر، واقتطاع جزء من تشيكوسلوفاكيا، وخطوة هافل، اجراء رمزي يخفف وقع الإهانات التي تلحقها الشعوب، ودولها، بعضها ببعض، فتقويمات الشعوب المختلفة لحوادث تاريخها"المشتركة"حقيقة لا تنكر، ويجر إنكارها تعظيم الخلافات، وينفخ فيها. والأحرى بالمجتمعات فحص خلافاتها، وحوادث ماضيها الدامية، في ضوء سياق الحوادث هذه واطارها، والحق ان السياق والإطار ليسا موضوعيين، ويترتب عليهما تقويم مختلف للوقائع، وتأويل مختلف كذلك. ومثال الاختلاف على السياق والإطار التاريخيين انتزاع الدولة البولندية، في 1920، فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، ومنطقتها من ليتوانيا، وضمها الى بولندا. وعادت الأراضي الليتوانية المسلوخة الى ليتوانيا في 1939. وما قد يبدو تعويضاً عادلاً عن السلخ الأول، يجوز تأويله في سياق حوادث 1938 - 1939، ومعاهدة ميثاق مولوتوف ? ريبينتروب وملحقاتها السرية، وفي ضوء انهيار الدولة البولندية ووقائع أخرى في أسابيع الحرب الثانية الأولى، على نحو آخر، فالمعاهدة السوفياتية - الألمانية"عوضت"المتعاهدين، ستالين وهتلر، من كيس الشعوب والبلدان بين المانيا ورويسا. وبولندا أول البلدان التي سددت من أراضيها وسيادتها المعاهدة. فالحادثة الواحدة جزء من وقائع تواريخ أربعة شعوب. وتختلف معانيها ودلالاتها بحسب الشعوب والبلدان هذه. وثمة حادثة أخرى من حوادث الفصل التاريخي نفسه، هي الاجتياح الألماني أراضي بولندا في 17 أيلول سبتمبر 1939. وهذا اليوم يوم مأسوي أسود من تاريخ البلد. فبينما كان البولنديون يقاومون العدوان الهتلري من الغرب، اجتاحت قوة من الجيش الأحمر، السوفياتي، من الشرق الأراضي البولندية من غير مسوغ. والاجتياح الثاني واقعة تاريخية مهما كان الرأي في حدود ما قبل الحرب الثانية، وافتقارها الى العدالة، أو في حاجة الاتحاد السوفياتي الى تحصين حدوده الغربية، فمسؤولية السياسة الستالينية عن اشتراكها في العدوان الهتلري على بولندا، دامغة. ويحتسب الشعب الأوكراني اليوم هذا يوم جمع الأراضي الأوكرانية في كيان اقليمي واحد ومتصل، على رغم أن هذا حصل تحت لواء الاتحاد السوفياتي. فهل للأوكرانيين الحق في الانفراد برابطة على حدة بهذا اليوم، وهو وقع على البولنديين وقع الكارثة؟ من غير شك. ولكن يحق للبولنديين والأوكرانيين جميعاً أن يتفهم بعضهم موقف بعضهم الآخر، ويحترم بعضهم ذاكرة بعضهم الآخر والفرق بين الذاكرتين. وفي أي ميزان ينبغي وزن حوادث 1944، حين أجلى الجيش السوفياتي الألمان من ليتوانيا واستونيا وشطر كبير من لاتفيا، في ميزان تحرير بلدان البلطيق من الاحتلال الهتلري؟ لا ريب. وعلى هذا الوجه يرى العالم عموماً هذه الحادثة. وهي، على تأويلها هذا، في أساس الوجدان الوطني والشعبي الروسي. ويحمل الاستونيون واللاتفيون والليتوانيون انتصارات الجيش السوفياتي على عودتهم عنوة الى"حضن"الاتحاد السوفياتي. والدولة هذه حرمتهم استقلالهم في 1940 متواطئة مع المانيا الهتلرية. وفي غضون 11 شهراً، من تموز يوليو 1940 الى حزيران يونيو 1941، اعتقلت السلطات السوفياتية عشرات الآلاف من الأفراد، ونفتهم الى سيبيريا وكازاخستان، وأمرت بإعدام أسرى في أيام الحرب الأولى من غير محاكمة. وفي خريف 1944، غداة"التحرير"السوفياتي، انتزع"المحررون"الأرض من المزارعين بالقوة، واعتقلوا ونفوا على معاييرهم السياسية الخاصة. ولا ينكر، على رغم هذا، ان الانتصار السوفياتي على النازية جزء من تحرر الشعوب من هذه. ويسود الخلاف تناول تاريخ جورجيا وأوكرانيا. ففي روسيا، المؤرخون وحدهم يعرفون ان جمهورية ديموقراطية جورجية نشأت في 1918 - 1921، وان جمهورية أوكرانية كادت تبصر النور في 1918 - 1920، وفي كلتا الحالين، سحق الجيش الأحمر الجمهوريتين. ولكن حمل الدولتين الأوكرانية والجورجية، اليوم، على الجمهوريتين هاتين، مثار خلاف ومناقشة. ووصف تاريخ البلدين منذ نهاية الحرب الأهلية بروسيا الى 1991، ب"الاحتلال"، قد لا يكون وصفاً وافياً، على ما يرى روس وأوكرانيون وجورجيون. ويدعو هذا جماعات وطنية الى تعظيم شأن المقاومات المحلية، وقيامها على النظام الشيوعي بأوكرانيا الغربية وليتوانيا ولاتفيا واستونيا وبولندا. وبينما يذهب الوطنيون الى حمل المقاومات هذه على البطولة، يحملها آخرون على"قطع الطريق". والخلافات والتناقضات هذه قد يستحيل تخطيها. ولكن احتسابها في تناول الحوادث، وتأريخها، يثري التأريخ، ويرسي وجدان الشعوب التاريخي على ركن أغنى من البطولة الرتيبة. وفحص تاريخ الشعوب في قبضة رهاب الدولة السوفياتية لا يعفي الشعوب هذه، أي بعض جماعاتها وأفرادها، من بعض المسؤولية عن الإرهاب هذا. فهي لم تكن ضحية خالصة، ولم تكن الدولة السوفياتية جلاداً خالصاً. وإنكار كل المسؤولية، وإلقاؤها كاملة على الجار، ليس الوسيلة الفضلى لبلوغ تفاهم متبادل بين الشعوب، ولا الطريق الأقوم الى نهضة وطنية. وفي الحالين، لا تمهد الأسطورة البطولية الى اضطلاع المواطنين بالمسؤولية الوطنية والمدنية عن تاريخهم. ولا محل للمسؤولية هذه حيث تنفرد البطولة والتضحية بسرد حوادث التاريخ. وترجمة الآلام والمصائب التي أصابت شعباً أو قوماً تفوقاً أخلاقياً على الشعوب الأخرى، لا تثمر إلا عداوات جديدة أو مستأنفة. والحق ان الفكر الحقوقي المعاصر ينكر جواز تحميل شعب خطأ جماعياً أو جريمة جماعية وراثية، على نحو ما يدين العقاب الجماعي. وهو يقدم على البحث عن المذنبين تحمل كل امرئ ينتسب الى جماعة تاريخية المسؤولية عن أعمال ارتكبت باسم الجماعة هذه. وتشمل المسؤولية هذه التاريخ الوطني عموماً. والمسؤولية الوطنية والمدنية عن تاريخ الجماعة هي ما ينشئ من شعب أمة، على معنى مجتمع مواطنين مشترك. عن هيئة "ميموريال" الروسية، ترجمة "اسبري" الفرنسية، 10/2008