لعل اتفاق ميونيخ الرباعي في 30 أيلول سبتمبر 1938 أي قبل 65 عاماً، بين قادة او رؤساء أربع دول "كبرى" هي بريطانياوايطالياوالمانياوفرنسا، من أكثر حوادث القرن العشرين شهرة. فبموجب الاتفاق نزلت تشيكوسلوفاكيا، وهي دولة سيدة من الدول التي ولدتها معاهدات فرساي وتريانون وسان جرمان، غداة الحرب - الأولى، وضمنت عصبة الأممالمتحدة سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها، نزلت مرغمة عن جزء من أراضيها ومواطنها الى دولة جارة وقوية هي المانيا، تحت التهديد والوعيد بالحرب والاجتياح. وقبلت دولتان ديموقراطيتان كبيرتان هما بريطانياوفرنسا، رعاية التنازل التشيكوسلوفاكي هذا، بعد أن توسطتا فيه ونصحتها به حليفتهما، وهددتاها بتركها فريسة لقوات الغزو الألمانية إذا هي لم ترضخ، في سبيل سلام عام، لسلخ هذا الشطر من أراضيها الاقليمية، ومن سكانها. وجراء الوساطة والمفاوضة والتهديد أسهمت الدولتان الكبيرتان، راعيتا انتصار التحالف الدولي الديموقراطي على العدوان الألماني ووارثتا نصره، في إسباع المشروعية الدولية على المقامرة الهتلرية والعدوان الألماني النازي. وما استقر على هذه الصورة، منذ عشية الحرب الثانية التي انفجرت في أوائل أيلول 1939 بعد احد عشر شهراً على مؤتمر مدينة ميونيخ الألمانية، لم يحمله معظم المعاصرين على هذا المعنى، ولا رأوا فيه هذا الرأي. فغداة توقيع الاتفاق ذهب نيفيل تشمبرلين، رئيس الحكومة البريطانية، الى انه ضمن السلام لجيل كامل. ويوم عودة ادوار على ما يلفظ الفرسيون دالادييه، رئيس الحكومة الفرنسية من ميونيخ الى باريس بالطائرة، بعد ظهر 30 أيلول العتيد، استقبله نحو نصف مليون فرنسي زحفوا الى المطار، استقبال البطل، بطل السلام. وتنفست شعوب العالم الصعداء بعد حبس الأنفاس خوفاً من الحرب الوشيكة. ووصف سياسي كبير النازع الغالب على الرأي العام ب"الارتياح الجبان". ولم يكن يشك أحد، ولمّا يمض على الحرب العالمية أو الكونية الأولى، وتداعياتها، عشرون عاما، في أن الحرب إذا انفجرت بين المانيا وبين تشيكوسلوفاكيا فلن تبقى ثنائية أو اقليمية، ولن تقتصر على شرق أوروبا. فنظام الأحلاف والضمانات والمعاهدات منذ انصرام الحرب، وانقسام الدول الأوروبية الى دولٍ مراجِعة غير راضية بالحدود الدولية التي رسمتها مفاوضات فرساي والى دولٍ مؤيدة وضامنة الحدود لمتنازعة، تهددا البناء الأوروبي السياسي كله بالانهيار والانفجار عند أول منازعة موضعية أو حلية. فعلى رغم انكار حكام المانيا المغلوبة رسم حدود دولتهم مع دول أوروبا الشرقية الجديدة منذ اضطرارهم الى التوقيع على معاهدة فرساي،ومطالبتهم بالنظر في هذه الحدود، عقدت بريطانياوفرنسا، وايطاليا في وقت أول، معاهدات دفاعية مع الدول المتنازعة الحدود، وأولها تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا ورومانيا وبولندا وألبانيا. وخصت فرنسا بعض دول الطوق الشرقي حول المانيا بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا الى الشرق من المجر بما سمي "الحلف الصغير" تيمناً بحلف الحلفاء "الكبير" بين الدول العظمى. وجر اشتباك الأحلاف بعضها ببعض، واستواء العالم عالماً تمسك دوله وشعوبه وأقوامه وشعوبه ومصالحه بعضها ببعض أي "تعولمه" أو "تشومله" على ما يقال اليوم، عدوى المنازعات والخلافات ويسرَ سريانها في نسيج ملتهب. ولم ينفع الرضوخ التشيكوسلوفاكي، من ورائه رضوخ راعييه الديموقراطيين في ميونيخ وكانت الولاياتالمتحدة الأميركية معتزلة العالم القديم وراء "جدار" المحيطين العريضين، لا في الحؤول بين المانيا وحليفها الإيطالي وبين التقدم شرقاً، صوب بولندا وليتوانيا، على جانبي بروسياالشرقية، ولا في كبح جموحها الى الحرب وإعداد العدة لها على الملأ. وكان إذعان المؤتمرين الغربيين والديموقراطيين في المدينة الألماني، درءاً للحرب العالمية المدمرة، باعثاً مباشراً على انهيار نظام العلاقات الدولية ومبانيه القائمة على الأمن الجماعي. فأمكن الإذعانُ والانهزام، وهما "روح ميونيخ"، هتلر من بسط سلطان مطلق وسحري على الألمان. وشرعا الطريق بوجه حرب منتصرة وسهلة على أعداء لا طاقة لهم على الحرب والمقاومة، على ما حسبت القيادة النازية. ولم يفز حزب الإذعان و"الاعتدال" ب"وقف انفاذ" الحرب، أو "تنفيذها"، ولو الوقت الضروري الذي كانت خطط التسلح الجارية على قدم وساق في المانيا والمتأخرة في الدول الحليفة، في حاجة اليه. وكان يقدر الخبراء والمراقبون ان عام 1941 موعد معقول لتؤتي هذه الخطط ثمرتها في فرنساوبريطانياوالولاياتالمتحدة، مصدر سلاح الجو الفرنسي وربما الاتحاد السوفياتي إذا انضم هذا الى حلف الدول الديموقراطية - قبل المعاهدة السوفياتية الألمانية، أو حلف ستالين وهتلر في آب أغسطس 1939 -. ولكن الآمال التي عقدت في صفوف "المثاليين" والحسابات التي احتسبت في صفوف "الواقعيين" خابت جميعها. فلم يترتب السلم على الرضوخ، بل حمل القوي على الاعتداد بنفسه، وسوغ مزاعمه في العصمة السياسية والاستراتيجية. وأيَّد دعواه في تحصيله "حق" المانيا ليس في عودة أراضيها كلها، والألمان كلهم، الى ألمانيا الكبرى وحسب، بل في التمتع ب"مدى حيوي" الى الشرق يجوِّز استتباعها شعوباً وأعراقاً أدنى مرتبة من مرتبة شعب الأسياد. فتحولت سياسة المهادنة التي أفضت الى إذعان الديموقراطيات في مؤتمر ميونيخ، إما كسباً للسلم أو ربحاً لبعض الوقت، الى كناية عامة عن سياسات ارجاء تعمى عن فهم المقاصد العدوانية التي تبطنها دول أو منظمات وحركات سائقها ايديولوجيات وعصبيات قاتلة. فتترك التصدي لها قبل اشتداد عودها، وتعول على المساومة معها. فشاعت الكناية بميونيخ، أو روح ميونيخ، في منعطفات الحرب الباردة. فنسب إحجام الديموقراطيات عن لجم تقدم القوات السوفياتية الى شرق المانيا الى الروح الميونيخي، وذلك شأن القبول بتقسيم المانيا ولحظ منطقة احتلال سوفياتية، أو السكوت عن سفيتته الاحتلال الروسي دول شرق أوروبا واحدة بعض الأخرى من طريق استيلاء الأحزاب الشيوعية على السلطة واحتكارها" أو ترك الحزب الشيوعي الصيني يستولي على الصين كلها في صيف 1949، أو التخلي عن قصف الاتحاد السوفياتي بالسلاح الذري قبل صناعته هذا السلاح وإدراكه القوة الأميركية... وفي ضوء سياسة التسلح التي جبهت بها ادارة ريغان المنافسة الشيوعية ومحاولات "الإصلاح" الداخلية، بدا "التعايش السلمي" حقبة ميونيخية برمتها. فليس مفاجئاً، على هذا، أن يندد كتيب ويليام كريستول ولورنس ف. كابلان من "المحافظين الجدد" "طريقنا تبدأ من بغداد" 2003 بالروح الميونيخي الذي ينسبانه الى الإدارات الديموقراطية، والى أصحاب المذهب "الواقعي" القائم على موازنة القوى ونيكسون وكيسنجر هما حاملا لوائه، ست مرات. وليس غريباً أن يقتصر التنديد بميونيخ في الخطابة السياسية العربية على سياسي لبناني هو قائد الجيش الأسبق ورئيس الحكومة "الانتقالية"، العماد ميشال عون. فالخطابة العربية الغالبة تنحو نحو الوجه الألماني من ميونيخ: "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"، أي نحو تعظيم القوة. وفي المطارحات السياسية والاستراتيجية التي تتناول ضعف الدول وأفولها وسقوطها - وهذه الكلمات تسم بوسمها عناوين كتب فرنسية جديدة طبعت في أثناء الفصل الجاري - يتناول الخصوم التهمة بالروح الميونيخية، أي بالمسؤولية عن الضعف والأفول والعجز عن التصدي والمبادرة. وهذا قرينة على عمر الكناية المديد، من وجه، وعلى احتمالها أوجه استعمال كثيرة ومتجددة قد تصرف الاستعمال عن الدقة التاريخية، شأن الكنايات السجالية الأخرى، من وجه ثان. فهل تستحق الواقعة التاريخية رواج الكناية وانبعاثها وشبابها؟ وهل يصح اختصارها في كنايتها؟ "الرايخ" وتعود نذر انفجار الأزمة التشيكوسلوفاكية القريبة، غداة ضم هتلر النمسا ودمجها في المانيا في 12 آذار/ مارس 1938، الى الانتخابات البلدية، في أيار مايو من العام نفسه. فقبيل هذه الانتخابات، وغداة "عودة" تسعة ملايين نمساوي - ثقافتهم ولغتهم المانيتان ولكنهم كانوا طوال قرون جزءاً من امبراطورية النمسا والمجر المستقلة والمترامية الأطراف - سرى في أنحاء تشيكوسلوفاكيا اضطراب وغليان مصدرهما الحال الاقليمية الناجمة عن السياسة الألمانية وسعيها في اجتماع شمل الألمان كلهم في "رايخ" دولة واحدة. ولم يكن أحد يجهل أن غاية سياسة الرايخ الثالث، النازي منذ 1933، هي لمّ الشمل هذا، واخراج الألمان، قوماً ولغة، من الكيانات السياسية التي ينضوون تحتها الى كيان جديد لم يسبق أن كان واحداً منذ انهيار الامبراطورية الجرمانية المقدسة في القرن الثالث عشر الميلادي، وعزف بيسمارك عن توحيده في 1866 و1870 يوم كان قادراً، في الحساب العسكري، على هذا التوحيد. وعلى حين كانت النمسا كياناً متجانساً، ائتلفت تشيكوسلوفاكيا من أقوام متفرقة، على رغم ان مواطنيها الألمان منذ 1919، تاريخ نشأة الكيان السياسي لم يكونوا من قبل مواطنين في دولة المانية. وكانوا يعدون، 3.2 ملايين الماني بإزاء كثرة تشيكية تعد 7.4 ملايين، تقيم بموطن تاريخي وسياسي وجغرافي متصل هو بوهيميا - مورافيا، و3.2 مليونين سلوفاكي، الى الشرق من بوهيميا - مورافيا، ونحو 120 ألف بولندي يجتمعون في تيسشين على حدود بولندا وسلوفاكيا ومورافيا، ومليون مجري، بين سلوفاكيا والمجر. فيترتب على إرادة قوم من هذه الأقوام ترك الدولة "الاتحادية" المشتركة زعزعة الدولة، على خلاف الحال في النمسا. وينتشر المان تشيكوسلوفاكيا على طول الحدود الألمانية والتشيكية، ويحوطون بوهيميا - مورافيا، من الجهة الألمانية، حوط السوار المعصم. وبلادهم حاجز يحجز بين المانيا وبين مملكة بوهيميا - مورافيا. وهم من أثر تقدم الألمان نحو الشرق وتوطنه واستعماره، أو تشريقهم على خلاف تغريبة القبائل العربية. وعرّض دخول الأقوام المتفرقة كياناً سياسياً مركزياً وجديداً، تحت لواء أحدها، الأقوام هذه الى منازعات مباشرة، بعضها قديم. والفرق الحاسم هو أن التحكيم في المنازعات لم يبق طرف ثالث يتولاه هو الطرف الامبراطوري الغالب، أي تاج النمسا الى ختام الحرب الأولى. وحفظ دستور الدولة الجديدة على الأقوام غير التشيكية حقوقها عموماً، واقتصر التوحيد على التشيكية، لغة ادارية مشتركة. ونجمت عنه منافسة شديدة بين الصناعيين التشيكيين وبين نظرائهم الألمان، حملت بعض هؤلاء على ترك تشيكوسلوفاكيا والهجرة الى المانيا. فلم تظهر بوادر خلاف "قومي" قبل 1935. فإلى العام هذا تقاسمت ألمان بلاد السوديت، على ما يسمى موطنهم في ضواحي بوهيميا - مورافيا، أحزاب وتيارات هي نظير أحزاب وقيادات تشيكوسلوفاكية: الحزب الاشتراكي - الديموقراطي، والحزب الكاثوليكي، والحزب "القومي" المحلي وكانت هذه حال النمسا قبل الدمج كذلك. ومعظم المان المانيا كانوا يجهلون ان بلاد السوديت المانية، ولا يريدون الحرب في سبيلها، ويخافون تحالف العالم على المانيا إذا أصرت على ضمها. وعلى رغم بروز حزب "جبهة الوطن" أو حزب السوديت "القومي" في اتخابات أيار 1935 العامة، وجمعه 70 في المئة من مقترعي السوديت الألمان، لم يتخط برنامجه السياسي المطالبة بتحكيم عادل في الدعاوى والمظالم الفردية الواقعة على ألمان تشيكوسلوفاكيا. وأقام الحزب، وعلى رأسه أستاذ رياضة سابق يدعى كونراد هينلاين، على اعتداله الى أيلول 1937. ففي أواخر العام هذا ترأس الحكومة الاتحادية أو الوطنية سلوفاكي لا يشاطر رئيس الجمهورية التشيكي، بينيش، معظم آرائه وميوله التي تنسبه الى وسط اليسار. فلما اقترب موعد الانتخابات البلدية، في خضم الاضطراب الأوروبي الناجم عن دمج النمسا، خرج حزب "جبهة الوطن" عن تحفظه. وتولت السفارة الألمانية ببراغ قيادة المان السوديت، وجاء أمر من برلين الى زعيم الحزب بالصدور عن السفارة. وكان غورينغ، وزير الطيران والصناعات الحربية الألماني، طمأن وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا في 12 آذار، يوم دمج النمسا، الى ان الدمج هذا هو "شأن عائلي" وينبغي ألا يقلق دولة الوزير ولا حكومته. ولكن الحاق الحزب الألماني بالسفارة لم يتأخر إلا أربعة أيام عن التطمين الخادع. وبعد نحو أسبوعين وقف أحد نواب الحزب في المجلس النيابي وطالب للسوديت، ولألمانها، بالاستقلال الذاتي خلافاً للنهج السابق كله. وذهب هينلاين، زعيمه، الى حق ألمان السوديت في تقرير مصيرهم، على مثال الحق الذي رفع مازاريك، منشئ الدولة التشيكوسلوفاكية، صوته بالمطالبة به قبل 19 عاماً. ولم يمض شهر على المطالبة بالحكم والاستقلال الذاتيين حتى عقد الحزب مؤتمره العام في مدية كارلسباد كارلوفيفاري اليوم، في 24 نيسان ابريل وخرج المؤتمر ببرنامج يطالب بالمساواة بين الألمان والتشيكيين، وبحق الألمان في حكم ذاتي وفي تشريع يحمي ألمان تشيكوسلوفاكيا خارج السوديت، وبالتعويض عليهم الأضرار التي لحقت فيهم منذ 1919" ونص البرنامج على اباحة اعتناق "العقيدة" النازية ودعوتها الى توحيد الألمان في دولة واحدة، وأوجب على براغ تعيين موظفين في السوديت من ألمانها وليس من أقوام آخرين. وعلى رغم غلو البرنامج الألماني، وتطرف مطاليبه، وخروجها فجأة الى العلن، نصح رئيس الوزارة البريطاني ووزير خارجيته، لورد هاليفَكس، براغ، في أواخر نيسان أي غداة مؤتمر كارلسباد، بسن دستور فيديرالي للبلاد على المثال السويسري تلبية لإرادة الحزب النازي المحلي. ودعت الحكومتان البريطانية والفرنسية حكومة براغ الى مفاوضة زعيم حزب المان السوديت، والى الرضوخ فعلاً وعملاً الى بنوده. واستقبلت لندن الرجل. وفي الإطار الديبلوماسي الإقليمي والقاري أعلمت الحكومة الفرنسية براغ بأن دور فرنسا، إذا هاجمت المانيا تشيكوسلوفاكيا، لن يتعدى استبقاء قوات المانية على حدود البلدين. وذهب رئيس حكومة سابق ولاحق هو ليون بلوم الى ان الجيش الفرنسي يعد 400 ألف جندي نظير مليون جندي ألماني. وهو لا يتيح الوفاء بالتزامات دفاعية خارجية ولم يعفه اقراره هذا عن القول أمام لجنة الدفاع الوطني البرلمانية، في 17 آذار 1938: نضطلع بكل التزاماتنا تجاه حلفائنا. ولم يتكتم البريطانيون على اقتصار قواتهم الجاهزة للقتال في ميدان خارجي على فرقتين، وعلى كفاية سلاح جوهم الدفاع عن أجوائهم الوطنية وحدها. فلما دعت فرنسابريطانيا الى ضمانهما معاً أمن الحليف الشرقي، ولوحت بإشراك الاتحاد السوفياتي في الضمان، اعتذرت حكومة تشمبرلين عن التعهد. وكان وزير الخارجية البريطاني، بعد زيارة برلين، على يقين من احتمال الاتفاق مع هتلر. وأما الاتحاد السوفياتي فاشترط وزير خارجيته، ليتفينوف، في 12 أيار مايو، بجنيف، لنصرة دولته تشيكوسلوفاكيا على عدوان ألماني حصولَ القوات السوفياتية على إجازة مرور بالأراضي البولندية والرومانية، وعلى طلب صريح من مجلس عصبة الأمم بعد إدانة العدوان بالإجماع. والشروط السوفياتية تعجيزية: فالعداء بين روسيا السوفياتية وبين بولندا مستحكم، و كذلك الأمر بينها وبين رومانيا، وتربط بولندا بألمانيا الهتلرية منذ 1934 معاهدة عدم اعتداء، وسكك حديد البلدين في حال متردية ولا تصلح لنقل قوات سريع، ومجلس العصبة منقسم على نفسه شأن الحكومات الوطنية نفسها. ولم يكن يخفى المراقبين ان الاتحاد السوفياتي بعيد من الجَهاز العسكري والسياسي: فالمحاكمات التي تطاول قمم الحزب الحاكم والدولة والأمن والجيش على قدم وساق، وتنحو نحو التطهير، والأرياف لم تفق من وطأة الإرهاب الجمعي الذي ضربها في النصف الأول من الثلاثينات ولا من اجتياح المجاعة. وهذا كله كان هتلر، ينوه به ويحتسبه في خططه. التداعي وكان هتلر أقر مع الجنرال كايتيل، مساعده، في 26 آذار مارس 1938، خطة غزو تشيكوسلوفاكيا، واسمها الاصطلاحي "غرون" "أخضر" وهذا كشفت عنه وثائق ما بعد الحرب، ولم يعلم به الساسة المعاصرون. واستجاب بينيش، الرئيس التشيكوسلوفاكي، الدعوات الملحة، البريطانية والفرنسية، الى المفاوضة الداخلية، في منتصف ايار مايو. وقَبِل ان يكون برنامج الحزب النازي في كارلسباد مادة المفاوضة وجدول اعمالها. وفي الأثناء، سرت شائعات عن تحرك عشر فرق ألمانية الى الحدود مع بوهيميا - مورافيا. ويرجح المؤرخون ان مصدر الظن هو الديبلوماسية السوفياتية وهذا من غريب المصادفات، فعشية الحرب العربية الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 1967 كان السفير السوفياتي بمصر مصدر الخبر عن تعبئة اسرائيلية لم تكن قائمة. والحق ان هتلر لم يوقع خطة "غرون" إلا في 30 أيار، على ان تبادر القوات الألمانية الى الهجوم في اليوم الأول من تشرين الأول اوكتوبر 1938. فاستدعت براغ بعض احتياطها، وأعلنت حال الطوارئ وتعبئة جزئية. وافتعل محازبو "جبهة الوطن"، الحزب النازي المحلي، مصادمة قوات الشرطة في 20 ايار. فقتل ألمانيان. وتوسطت وزارة الخارجية البريطانية لدى القيادة الألمانية. فقبل هتلر تهدئة الحال، ولكنه اتهم براغ بالنفخ في النار. وأوفد الوسيط البريطاني وفداً الى براغ ليتم الوساطة، ترأسه اللورد رانسيمان. فأقر نهجاً للمفاوضة وهو ما تسميه صحافة اليوم "آلية عمل" يقضي بمفاوضة حزب السوديت الألماني الأحزاب التشيكو سلوفاكية الأخرى على قدم المساواة وليس بمفاوضته الحكومة الوطنية على شاكلة مفاوضة دولة مستقلة دولة اخرى. ومهد الوفد البريطاني طريق القبول بمناقشة الصيغة الفيديرالية بنداً أول ومتصدراً. فرضخت الحكومة التشيكية في اثناء الوساطة التمهيدية لسبعة بنود من ثمانية كان مؤتمر الحزب النازي اقرها في مؤتمره قبل أربعة اشهر من وساطة رانسيمان. وتحفظت عن طلب هينلاين، زعيم ألمان السوديت، تجاوز الاستقلال والإدارة الذاتيين الى الانضمام الى ألمانيا، والخدمة "تحت القوانين الألمانية"، بحسب قوله في 25 تموز يوليو ببرلين. ويوم إعلان الاتفاق الأولي، في 5 ايلول، انفجرت الاضطرابات على نحوٍ مفتعل، بناء على أمر برلين. وتوقيت افتعال الاضطرابات مع دنو الحل ونزول المفاوضين عما تمسكوا به في مطلع المفاوضة، وجه من "آلية عمل" أو نهج السياسة الهتلرية، والسياسات التي تحذو حذوها. وأسرع الحزب النازي المحلي، مساء انفجار الاضطرابات، الى القول ان براغ "لا تسيطر على الموقف". ومهد تقرير خروج الموقف عن سيطرة الحكومة المركزية على مثال سابقة يابانية في منشوريا الصينية، قبل اربعة اعوام، أعقبها احتلال اليابان الولاية الصينية وإعلانها محمية الى خطاب هتلر في مؤتمر الحزب النازي الألماني بنورنبرغ، من 6 الى 12 ايلول 1938. فاستقدم هتلر تاج الأباطرة الجرمان من فيينا، قرينة على وحدة جرمانيا. واختتم الفوهرر المرشد والقائد المؤتمر بخطاب ناري. فزعم ان ألمان السوديت يسامون "التعذيب" على يد الشعوب الأخرى، وأن الحكم التشيكي يتواطأ على التعذيب هذا. ورفض صيغة الاستقلال الذاتي. وأصر على ان يفاوض ألمان السوديت، من طريق الحزب النازي المحلي، الحكومة بمعزل من الأحزاب الأخرى، ناقضاً النهج الذي أقرته الوساطة البريطانية قبل ايام. وانتهى الى ان في وسع ألمانيا حماية "شعبها" اينما استقر وأقام، على رغم الحكومات المحلية. فعمت بلاد السوديت تظاهرات الألمان المنظمة، وشعارها: "شعب واحد، رايخ واحد، فوهرر واحد". ونهب المتظاهرون المحال اليهودية. وتصدوا للشرطة بالقوة. فسقط 21 قتيلاً، وأصيب عشرات الجرحى. فبدا إقدام كونراد هينلاين على قطع المفاوضات سائغاً ومعقولاً. ودعا الى الإضراب العام، والامتناع من أداء الضرائب. فلما أعلنت الحكومة، في 13، الطوارئ في بلاد السوديت، رد الحزب الألماني بطلب انسحاب الشرطة الاتحادية، وناشد برلين النجدة. وفي 14 نادى هينلاين صراحة بضم السوديت الى ألمانيا. وكان اليوم موعد لقاء تشمبرلين، الوزير البريطاني الأول، وهتلر. فأقر تشمبرلين بمبدأ استفتاء ألمان السوديت في انسلاخهم عن تشيكو سلوفاكيا وانضمامهم الى ألمانيا لقاء وعد هتلر بالتهدئة. وقدر الفرنسيون، على خلاف زملائهم وحلفائهم، ان الاستفتاء باب يجر فتحه تداعيات بالغة الخطورة في اوروبا الوسطى، حيث الدول فسيفساء من الأقوام والشعوب. وحاول بينيش، الرئيس التشيكي، تقليص الخسائر التشيكوسلوفاكية. فاقترح التخلي عن مليوني ألماني، على أن يبقى من يختار البقاء. ولما تخلت فرنساوبريطانيا عن بقاء جزء من بلاد السوديت في تشيكوسلوفاكيا، وأنذرتا بينيش بالتخلي عنه إذا مضى على رفض التقسيم، رضخ الرئيس التشيكي. ولكنه أقال، في 22 ايلول، رئيس حكومته المهادن، وأمر الجيش بالبقاء في مواقعه على الحدود المشتركة، وأعلن التعبئة العامة. وأنكر على الوساطة الفرنسية والبريطانية قبولها ضم السوديت من غير استفتاء وكان هذا طلباً آخر تقدم به هتلر عندما انس من محاوره البريطاني، تشمبرلين، ليناً وقبولاً. ورأى في القبول هذا طعناً في مبدأ ديموقراطي جوهري. وتوقع ان يترتب على حرمان الدولة التشيكوسلوفاكية نظامها الدفاعي انهيار ميزان القوى بأوروبا الوسطى برمته. وحين عاد رئيس الوزراء البريطاني الى لقاء هتلر، في 22 ايلول، كان هذا قد بدل رأيه و"طور" مطاليبه: فهو لا يطلب العدالة لألمان بلاد السوديت وحدهم، بل يريدها كذلك لبولنديي سيتشين، ومجر الكاربات، وسلوفاكيي سلوفاكيا كذلك... ويريدها عاجلاً في الحال. وفي لقاء 23، في اليوم التالي، رضي هتلر إرجاء إنفاذ الإنذار الى اليوم الأول من تشرين الأول اوكتوبر، اي بعد ثمانية ايام. وأنبأ محاوره بعزمه على إعلان التعبئة العامة في 28، الساعة الثانية بعد الظهر. فأعلنت فرنسا تعبئة 700 ألف احتياطي، مع إيقان وزير الجو ان في وسع القاذفات الألمانية تدمير باريس من غير رد فرنسي. ولم تجارها بريطانيا، ولكن رئيس حكومتها ابلغ هتلر ان المملكة المتحدة متضامنة مع فرنسا إذا هاجمتها ألمانيا. وبدا ان الحرب العامة وشيكة، وأن مفتاحها بيد هتلر. فخرج موسوليني، حليف هتلر في "المحور الفولاذي"، من الوجوم العام، قبيل إعلان الفوهرر الألماني في 28 أيلول التعبئة بساعة واحدة، فاقترح مؤتمراً رباعياً، من غير تشيكوسلوفاكيا، يتولى المفاوضة على حل المشكلة. فقبلت الحكومتان الفرنسية والبريطانية، الى موسوليني وهتلر. وفي 29 انعقد المؤتمر في ميونيخ. واشترط دالادييه، الفرنسي، ان يقصر الزعيم الألماني طلبه على ضم السوديت من غير إلغاء تشيكوسلوفاكيا. فأقر موسوليني بأن غاية هتلر هي الضم. وفي الواحدة والنصف صباح 30 ايلول نشر بيان لم يعلم التشيكيون به قبل نشره، يعين ابتداء جلاء القوات التشيكوسلوفاكية عن السوديت في اليوم الأول من تشرين الأول، وآخر مرحلة من مراحله الأربع في العاشر منه، من غير تدمير مرافق او تحصينات، على ان تحل قوات ألمانية محل القوات المنسحبة بحسب المراحل، وبعد انسحابها مباشرة. واتفق على لجنة دولية تتولى إعداد استفتاء في بعض البلاد المختلطة، في آخر تشرين الثاني نوفمبر، بعد انقضاء شهر وعشرين يوماً على دخول القوات الألمانية المناطق ذات الكثرة الألمانية. وتوقع ملحق رقم 2 ضُمَّ الى الاتفاق ان تحل مسألتا القومين البولندي والمجري قبل ضمان حدود الدولة التشيكوسلوفاكية، او ما تبقى منها. ولكن البنود المقيّدة ذهبت أدراج الرياح. فيوم إذاعة بيان ميونيخ انذرت بولندا تشيكوسلوفاكيا، على مثال هتلري جرى مجرى السنّة المقبولة، بالتخلي عن تيسشين ألف كلم2 و230 ألف نفس الى بولندا حالاً. فرضخت براغ، واجتازت القوات البولندية الحدود في 2 تشرين الأول. وفي 2 تشرين الثاني، بعد مفاوضات بفيينا دامت نحو الشهر، اضطرت براغ، تحت التهديد، الى التخلي عن الكاربات الى المجر 12 ألف كلم2 ومليون نفس. وفي 7 تشرين الأول ناشدت سلطة سلوفاكيا الوطنية الذاتية، وعلى رأسها المطران تيسو، هتلر الحماية، فلبى المناشدة. وأسبغ هتلر الحماية تلقائياً على بوهيميا - مورافيا. فاضطر رئيسها الذي خلف بينيش، اميل هاشا، الى الاستقالة، بعد ان وضع الدولة في حماية هتلر. وفي 15 آذار مارس 1939، في ذكرى انقضاء سنة اولى على ضم النمسا، دخلت القوات الألمانية براغ من غير مقاومة فسماها هتلر "محمية" الرايخ، وجزءاً من "المدى الحيوي" الألماني. وأعلن استقلال سلوفاكيا التام عن الدولة المصطنعة، وليدة "سايكس - بيكو" شرق اوروبا، أو ألمانيا الكبرى. فكانت هذه الفتوح السهلة الإيذان بأن غاية السياسة النازية لا تقتصر على "استعادة" الأراضي الألمانية "التاريخية"، على خلاف زعم الفوهرر المشتبِه. فلا بوهيميا - مورافيا، ولا سلوفاكيا، يأهلهما ألمان، أو كانتا بلاداً ألمانية. ولكن القوة، ورغبة الديموقراطيات في السلم لقاء أي ثمن، سوغتا الاحتلال والضم، ومن بعدهما الاسترقاق والاستتباع الفظين. وتوالت الانتصارات الهتلرية في أرجاء أوروبا: فنزلت ليتوانيا عن "قطاع" ميميل الى ألمانيا، في آذار 1939، وفي اواخر آذار هذا سقطت مدريد الإسبانية في يد قوات فرنكو، حليف هتلر وموسوليني، بعد سنتين وثمانية اشهر من الحرب الأهلية الأوروبية، وتذرعت ايطاليا الفاشية بطلب ملك ألبانيا فغزت قواتها، في اوائل نيسان ابريل الأراضي الألبانية، ووضع موسوليني ألبانيا في حمى ايطاليا، وأعلن وحدة التاجين. وفي الأثناء، كانت بولندا مسرح اضطرابات قومية اندلعت، منذ تشرين الأول 1938، في بلاد يسكنها ألمان. فطالبت ألمانيا بضم دانتزيغ، الميناء على البلطيق والفاصل بين شمال ألمانيا الشرقي وبين بروسياالشرقية الألمانية، الى سيادتها، وببناء سكة حديد وطريق عريضة الى الميناء تتمتعان بالامتيازات الأجنبية، اي بإخراجهما من السيادة الألمانية. وردت بولندا برفض مهذب، يومذاك. فوقع الجنرال كايتيل، مساعد هتلر، خطة اجتياح بولندا في 3 نيسان أبريل 1939، على ان يبتدئ الهجوم في الأول من ايلول 1939. وهو اليوم الأول من الحرب العالمية الثانية. والأرجح ان يكون ابتداء الإعداد لها ليس في ميونيخ، قبل احد عشر شهراً، بل في 7 آذار 1935، حين عبرت نهر الراين الى ضفته اليسرى قوات ألمانية "رمزية" تعد 30 ألفاً وتجر 12 مدفعاً ثقيلاً، خلافاً لالتزامات ألمانيا الدولية من قبل. ويومها اختبرت المقامرة الهتلرية "ميونيخية" اوروبا قبل ميونيخ، وتقديمها الأمن الجماعي على أمن الدول. فأباح له ذلك كل ما حرمت المعاهدات او قيدته: التسلح، والتعبئة العامة، و"استعادة" ألمان الشتات وأقاليمهم، واحتلال المدى الحيوي، واستتباع الشعوب الضعيفة قبل إبادتها. فانهارت سياسات الموازنة البريطانية بين دول القارة. وظهر الانكفاء الأميركي بمظهر الإسهام في بسط "المحور" النازي والفاشي والعسكري الياباني سيطرته على المحيطات العازلة. وأضعف خروج روسيا من الغرب، وبناؤها "الاشتراكية" قهراً وراء أسوار الشيوعية الستالينية، تماسك الديموقراطيات. وأدى عصف الحروب الأهلية والاجتماعية في بعض دول اوروبا البارزة الى الغفلة عن تلازم الأمن والقوة الراجحة. فكان مؤتمر التخلي في ميونيخ منعطفاً في المسير المتفائل الى الحرب. * كاتب لبناني.