قد لا يكون المثقفون العرب معنيين مباشرة بالصراع الذي طالما دار بين وزيرة الثقافة الجزائرية خليدة تومي والكاتب أمين الزاوي، مدير المكتبة الوطنية في الجزائر، وكان هذا الصراع بلغ ذروته العام الماضي، خلال الاحتفال بالجزائر عاصمة للثقافة العربية. لكنهم معنيون حتماً بما أسفر عنه هذا الصراع وهو الإقالة القسرية للكاتب الطليعي، ليس من منصبه فقط، وإنما من المكتبة عموماً. كانت الوزيرة تتربّص بهذا الكاتب منتظرة أي سانحة لتتهمه وتقيله من وظيفته. ووجدت في المحاضرة التي ألقاها الشاعر أدونيس في المكتبة بدعوة من الزاوي الفرصة المؤاتية لتحرّض السلطة عليه وتقيله. ولم تتورّع عن وصف محاضرة أدونيس بپ"الانزلاق الفكري"الذي يزيد بحسب رأيها، من أحوال التفرقة الوطنية والتشرذم... إلا أنّ ذريعتها، وإن أقنعت السلطة بها، بدت واهية، فالشاعر أدونيس تحدّث كعادته بجرأة ووعي، منتقداً كعادته أيضاً التخلّف العربي الراهن. ولم تكتفِ الوزيرة بتحريض السلطة بل حرضت أيضاً المتطرفين الأصوليين الذين يكنّون للزاوي الكراهية والبغضاء، وكانوا حاولوا اغتياله في وهران عام 1992 ونجا بأعجوبة مع ابنته، وظلّوا يهددونه خلال الحقبة الإرهابية حتى غادر الى منفاه الفرنسي عام 1995 بُعيد مقتل صديقه الشاعر الطاهر جعوت. لا يستحق فعلاً أمين الزاوي أن يقال من المكتبة بهذه الصلافة وأن تكال له التهم جزافاً، وهو لم يُخفِ أصلاً موقفه السلبي من التطرف الأصولي الذي عمل على فضحه في معظم رواياته وقصصه ومقالاته. أمين الزاوي أولاً كاتب جزائري طليعي ومتنوّر، كان خير وارث للرواد سواء بالعربية أم بالفرنسية، وقد استلهم الثورة الجزائرية منتقداً الاستعمار بشدة وبلغته كما بالعربية. كاتب ثائر ومتمرد، أضفى على الالتزام بعداً"إنسانوياً"وإبداعياً وجمالياً، وواجه ثقافة التطرف والعنف بجرأة، غير متهيب الاغتيال اللذي كان أداة جاهزة في أيدي خصومه المتوارين في الظلام. أما أمين الزاوي مدير المكتبة الوطنية فهو كان من أهمّ الذين توّلوا هذا المنصب، وقد سعى منذ أن شغله الى فتح أبواب المكتبة أمام الثقافة العربية والمثقفين العرب على اختلاف هوياتهم وشواغلهم، بل إنه جعل من المكتبة بوابة الجزائر الى الثقافة العربية والثقافة العالمية. وهذا فعلاً ما كانت تحتاجه الجزائر لا سيما بعد انحسار موجة التطرف والعنف. وكانت المكتبة خلال عام الجزائر، عاصمة للثقافة العربية، أشبه بالخلية الأدبية، وقد استقبلت مئات الأسماء العربية، المكرّسة والشابة، وأقامت لقاءات وندوات وأمسيات كثيرة. ولم يكتف الزاوي بمثل هذه التظاهرة بل عمد أيضاً الى توسيع أفق المكتبة الوطنية مؤسساً لها فروعاً في المناطق الجزائرية البعيدة بغية ترويج الكتاب والتشجيع على القراءة. تعرّفت الى أمين الزاوي في مهرجان قرطاج المسرحي عام 1994. كان حينذاك يسعى الى مغادرة الجزائر ليس خوفاً من المتطرفين بل صوناً لحياته وحياة العائلة ولاستعادة الكتابة بحرية تامة. ولم يلبث الزاوي أن هاجر الى فرنسا ليواصل حياته الطبيعية والروائية والأكاديمية. وفي فرنسا كتب أولى رواياته بالفرنسية وعنوانها"نوم الميموزا". وسرعان ما راجت هذه الرواية بصوتها الخاص ومناخها، وفتحت له الطريق الى دور نشر بارزة. ثم توالت أعماله بالفرنسية وكان منطلقها كلها القضية الجزائرية، تاريخاً وواقعاً، توثيقاً وتخييلاً. ولعل روايات مثل"الإذعان"وپ"أهل العطر"وپ"وليمة الأكاذيب"كان لها وقع"الحدث"في الأدب الفرنكوفوني. وقد صدرت الأخيرة العام الفائت ورحبت بها الصحافة أيما ترحاب ووصفها رشيد بوجدرة بپ"الرواية الباهرة"، وفيها تختلط الأحداث التاريخية الدامية والأحداث الفردية أو الشخصية الصغيرة، ما حرّرها من وطأة التاريخ وجعلها رواية الطبائع والأمزجة والأعماق النفسية. إلا أن أمين الزاوي الذي اختار الفرنسية لغة للكتابة خلال منفاه الفرنسي هو كاتب بالعربية أيضاً، وكان أصلاً استهل مساره روائياً بالعربية. وكان في الثامنة والعشرين عندما أصدر روايته الأولى بالعربية وعنوانها"صهيل الجسد"، وقد كتبها خلال إقامته في دمشق عام 1985 حين كان يستعد للحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة دمشق. إلا أن الرواية سرعان ما منعت في دمشق ووجِّهت لها تهمة هتك المحظور. ومنذ ذلك الحين بات الزاوي يعرف ب"روائي المحظور والممنوع والمسكوت عنه". وكان على هذه"التهمة"أن تطارده طوال مساره الروائي حتى أن المتطرفين الجزائريين عمدوا الى إحراق رواية له عنوانها"السماء الثامنة"في شوارع وهران حيث كان يقيم. وقد أعيد إصدار هذه الرواية قبل أشهر في بيروت بعيداً من"عيون"الرقابة الجزائرية. أماپ"بطل"هذه الرواية أو راويها، فيستعيد من خلال الثكنة العسكرية التي التحق بها، معالم من ماضيه وواقعه، وهما ليسا إلا ماضي الجزائر وواقعها. يكتب أمين الزاوي بالفرنسية مثلما يكتب بالعربية. لقد عرف كيف يخضع الفرنسية وكأنها لغته الأم ولكن من غير أن يكون ابنها البار. وقد لا تختلف نصوصه بالعربية عن نصوصه بالفرنسية، فهو واحد هنا وهناك. وعندما سئل مرة عن قدرته على الكتابة باللغتين أجاب:"إنها يدي التي تقرر أن تذهب من اليمين الى الشمال أو من الشمال الى اليمين". هذا الجواب قد يكون من أجمل ما يمكن أن توصف به"الثنائية"اللغوية. إنها حركة اليد التي ليست سوى حركة اللغة نفسها، وحركة الأفكار التي تسبق اللغة حيناً وتتبعها حيناً. أمين الزاوي هو حتماً أكبر من منصبه الذي أقيل منه، لكن المنصب كان يليق به كثيراً لأنه حرّره من البيروقراطية وأسبغ عليه سمة الإبداع. لكنّ اسم أمين الزاوي هو الذي سيبقى في الختام فيما أصحاب الحقائب يتبدلون دوماً.