لا يكتفي الجزائري أمين الزاوي بأن يكون روائياً، فهو يرى نفسه مناضلاً ثقافياً على اعتبار أنّ لا دور للمثقف إن لم يكن حاضراً في المسائل التاريخية المفصلية. ولكن في مسألة اللغة فقط، اختار الزاوي ألاّ يكون طرفاً في النزاع الثقافي الطويل بين من يكتبون بالعربية والفرنسية. فقدّم أعمالاً باللغتين وكانت حصيلة ما كتب عشر روايات بالفرنسية، ترجمت معظمها إلى لغات أخرى: «إغفاءة الميموزا»، «الخنوع»، «الغزوة»، «حارة النساء»، «أهل العطور»، «وليمة الأكاذيب»، «غرفة العذراء المدنسة»، «اليهودي الأخير في تمنطيط»، «فوران جسد نائم»، «عسل القيلولة». وعشر روايات بالعربية هي: «صهيل الجسد»، «السماء الثامنة»، «الرعشة»، «رائحة الأنثى»، «يصحو الحرير»، «شارع إبليس»، «حادي التيوس»، «لها سرّ النحلة»، «نزهة الخاطر»، «الملكة». هنا حوار معه: تحضر العلاقة مع الآخر كثيمة شبه ثابتة في الأدب الجزائري، وهي تتجدّد في روايتك الجديدة «الملكة»، مع فارق أنّك تجاوزت الصيغة النمطية التي ربطت صورة الآخر بالمُستعمر الفرنسي. هل اختيار الصيني نموذجاً للآخر يعني تبدّلاً في معايير التفوّق من العسكري - الثقافي إلى الاقتصادي - التكنولوجي؟ - في رواية «الملكة»، حاولتُ تحرير الرواية العربية والمغاربية على وجه الخصوص من نمطية صورة «الآخر» المرتبطة دائماً بالفرنسي أو الإنكليزي أو الأميركي. فمع جيلنا صار الآخر موجوداً في حياتنا بصورة أخرى وبقيم مختلفة. هو يقاسمنا المدينة والمطعم والعمل واللغة أحياناً، وهذا ما أحببت أن أظهره في روايتي الجديدة. من هنا أقول إنّ «الملكة» هي رواية «الصين» في الجزائر. تصوّر حياة الصيني في اليوميات الجزائرية. ومع أنني قمت بنوع من التحقيقات الميدانية عن حياة الصينيين في الجزائر وكيفية تعاطيهم مع أهل البلد، ورصدت كيفية تأسيس أحياء «صينية» في العاصمة كما هي حال «الحي الصيني» المعروف في منطقة «باب الزوار» في جزائر العاصمة، لا تُعدّ روايتي خطاباً سوسيولوجياً، بل هي رواية «القلب» ورواية «المرأة» الجزائرية العاشقة لأجنبي، للآخر الجديد. أنت تخوض في علاقة الجزائرية - الأنثى بالآخر - الذكر. فما الذي يُمكن أن تبحث عنه الجزائريات في علاقاتهن مع هذا الآخر؟ - قد تبحث المرأة الجزائرية في مثل هذا العشق الروحي والجسدي عن تحرّر بالمعنى المطلق. ربما تحرّر من ذكورية الرجل الجزائري، وهي ذكورية مخصية، ذكورية غير منتجة لا للعواطف ولا للاقتصاد. ومن خلال «العمل»، الذي يغيب في ثقافة الجزائري، يتموقع الصيني في قلب المرأة الجزائرية. يصبح الصيني الأجنبي محرِّراً لها. أمّا علاقة «سكورا»، المرأة الجزائرية الفاتنة بالصيني فهي علاقة انعتاق تُخلّصها من «هيمنة» يمارسها الرجل الجزائري على شريكته في الحياة الجنسية بكثير من الأنانية، في حين يستطيع الصيني بثقافته الروحانية أن يصل إلى جسد المرأة الجزائرية بكلّ أبعاده الغرائزية والشعرية. ومع هذا الأجنبي «المُحتقَر» من الشباب الجزائريين، تتخلص البطلة- عاطفياً وحسياً- من رواسب الثقافة الأخلاقية والعقائدية القمعية التي تفرمل نموّها العاطفي والجنسي. فتغدو علاقتها هذه أشبه بعودة امتلاك جسدها والتحكم فيه ومنحه ما يستحق من دون قمع مغلف بأعراف وتقاليد وعادات بطريركية. وقد أخذت دار نشر صينية حقوق ترجمتها وثمة أطروحات جامعية تُقدّم حول الرواية في جامعة بيكين. ذكرت مرة أنّ «شعباً يقرأ لا يجوع ولا يُستعبَد». ففي ظلّ الآفات المتفاقمة في الجزائر وفي دول العالم العربي، هل تعتقد أنّ مسبّبات أزماتنا ثقافية أولاً؟ - أنا مناضل ثقافي، وأعتقد أن سبب هزائمنا، السياسية منها والاقتصادية والتعليمية والعسكرية ناتج من معاداة «الثقافي»، أو بمعنى آخر عن غياب الثقافة التنويرية. تخلفنا يتجلى في غياب القراءة، نحن نعيش ثقافة شفوية، ونغرق في استهلاك اقتصادي، علماً أنّ الثقافة هي من يحوّل العربي من «فرد» إلى «مواطن»، وغيابها يجعلنا نتخبط في أزمة «الظلامية» والمراوحة في «الصفر الاقتصادي» و «الصفر السياسي» و «الصفر الإنساني». قد يُفهم من هذه القسوة في انتقاد العربيّ، فرداً ومجتمعاً، أنّك تعيش استلاباً يُعانيه معظم الكتّاب الجزائريين الفرنكوفونيين المتأثرين بنظرة الغرب تجاه العالم العربي. ما ردّك؟ - أنا لست من المثقفين الذين يتلذذون بجلد الذات، بل ما أقدمه للمجتمع العربي والمغاربي هو البحث عن تطوير ثقافة النقد والذهاب بالمجتمع نحو المعاصرة وقبول الآخر. إننا أصبحنا أكثر فأكثر معزولين في العالم، يشار إلينا بأصبع الاتهام، فنحن مصدر الإرهاب ونحن مصدر الكراهيات. لذا عليّ، كروائي، أن أنتقد وأنا لا أتعاطف مع التخلّف مهما كانت لغته هويته أو دينه، وأنا لست الروائي المفصول عن الثقافة العربية، أنا أكتب بالعربية وأقرأ بها التراث الأدبي والفلسفي من المهلهل وبشار بن برد والمعري إلى ابن رشد وصولاً إلى كتّابنا المعاصرين، بالتالي النقد الذي أقيمه هو مؤسس داخل المجتمع ورموزه. وليس لدي أي عقبة في القراءة، فأنا أعيش في المجتمع الجزائري، أمارس الحياة بكل عنفها اليومي داخل مجتمع لا أنظر إليه من الضفة الأخرى، إنما أعيش فيه وأتكلم لغته وأشاركه همومه. عانت الجزائر قبل أي بلد آخر من تهديد التيارات السلفية المتشددة ودفع المثقفون فيها الثمن غالياً، وانتقل الدور اليوم إلى دول عربية أخرى. كيف تقوّم دور المثقف وسط هذا الخراب العربي، خصوصاً أنك من كتّاب الثمانينات الذين خاضوا مرحلة النضال السياسي والأيديولوجي؟ - كنت أول مثقف جزائري يتعرض لمحاولة اغتيال في الجزائر، عبر تفجير سيارتي، أثناء الحرب الأهلية. وكانت معي ابنتي لينا- كانت في السنة الابتدائية الأولى- والتي أصبحت اليومية فنانة وموسيقية معروفة (لينا دوران) تحمل في أغنياتها القيم الإنسانية التي دافع عنها المثقفون التنويريون الجزائريون في مواجهة الإرهاب الأعمى، قد يحق لنا نحن الجزائريين الحديث عما يجري في هذا العالم العربي انطلاقاً من تجربتنا، من تشردنا، من مقاومتنا، من وقوفنا ضد انهيار الدولة الجزائرية التي كانت على حافة الانهيار والتفكك المريع. وأمام ما يجري في العالم العربي، أتصور أنّ المثقف العربي لا يزال «ثورياً رومنطيقياً» يعيش حالة من الطفولة أو المراهقة السياسية، وهو بالتالي يريد أن يقضي على كل ما تأسس من مؤسسات الدولة باسم القضاء على النظام ولو جاء الشيطان ليعوضه. إنه التغيير الانتحاري. وثمة فريق ثانٍ من المثقفين يعيشون صفوية ماضوية، ويعتبر بأن الخروج مما نحن فيه هو العودة إلى غزوات الماضي وجعل التاريخ «النقيّ» بديلاً عن مستقبلنا. أما الخطورة فتكمن في الاثنين. الأول يريد الخراب ولو جاء الشيطان والثاني يريد استحضار الموتى للعيش نيابة عن الأحياء. ما ألاحظه أيضاً هو أن الإعلاميين العرب يمارسون الحروب بدلاً عن جيوش الأنظمة. لم تعد وزارة العسكرية هي من يقود الحروب المخربة في العالم العربي، إنما من يقوم بها هم إعلاميون في قنوات تلفزيونية ذات مال كثير. نحن نقتُل على المباشر، ونُقتَل على المباشر. وصار إنفاق الديني تجارة رابحة في حرب خاسرة. وللأسف يُوظّف المال العربي في المؤامرات السياسية والاستهلاك والانقلابات المتكررة أكثر مما يوظف في تأسيس الإنسان لمواجهة الغد بكل تعقيداته. بالعودة إلى رواياتك، غالباً ما تربط في أعمالك بين العام والخاص، فيتشابك تاريخ الشخصيات بتاريخ الجزائر، وهذا ما تكرّس جلياً في «شارع إبليس» مثلاً. فهل ثمة صعوبة في فهم الواقع الجزائري وشخصياته بعيداً عن تاريخه الشائك؟ - تنطلق رواياتي من التاريخ كأرضية، ولكنها تبتعد عنه كقصة أو حكاية. أنا أكتب تاريخ الجزائر من خلال تاريخ الشخوص الداخلية. أكتب التاريخ الموضوعي من خلال تاريخ القلوب والجسد. أكتب عن مجتمع لا تعدو الهيمنة الذكورية فيه أكثر من الوجه المُتخفّي للهيمنة الاقتصادية والسياسية في البلد. هيمنة تأخذ من رجال الدين شرعيتها وتبريراتها. وأحب أن أسمي نفسي كاتب المرأة العربية والمغاربية في مقاومتها الإنسانية الشاملة أي السياسية والعاطفية والجسدية من أجل حقها في المواطنة. في رواية «شارع إبليس» حاولت أن أطرح ثلاث أفكار مركزية، هي علاقة المغاربيين المعاصرين بالمشرق. ففي القرن التاسع عشر كانت صورة المغاربي في المشرق مرتبطة بأسماء مثل الأمير عبد القادر الجزائري الذي حمى المسيحيين في دمشق والطاهر الجزائري الذي ساهم في تأسيس مكتبة القدس، وقبلهما صورة ابن عربي وابن خلدون. ولكن في زمننا الراهن، غدت صورة المغاربيين في المشرق مُختزلة بنساء في نوادٍ ليلية، في منتزهات الخليج، وفنادق بلاد الشام. أما الفكرة الثانية فهي علاقة الجزائريين بالمقاومة الفلسطينية التي خرجت من صورتها الملائكية إلى صورتها الواقعية التاريخية من خلال الصراعات والأخطاء والمراجعات التي عرفتها التجربة النضالية الفلسطينية. خرجت الصورة الفلسطينية من المقدس إلى التاريخي في رأس المغاربي. أما الفكرة الثالثة فهي محاكمة الجيل الجزائري الجديد لجيل الثورة محاكمة عنيفة والاعتراف بأن الثورة الجزائرية لم تنجز ما كان الشهداء يحلمون به: الديموقراطية والعدالة والتعددية والحرية. كل هذه الأفكار تتجسد في الحكاية، في السرد، لأنني أعتبر الرواية أولاً وأخيراً هي حكاية. الرواية من دون متعة الحكاية هي خطاب سياسي جاف أو شعري معلق في سماء فارغة. مثلّت اللغة موضوعاً إشكالياً في الأدب الجزائري كما أوجدت سجالاً حادّاً بين كتّاب السبعينات والثمانينات حين اتُهم كتّاب الفرنسية بالتحالف مع المستعمر ضد لغة بلادهم وثقافتها. أما أنت، فبعد الكتابة بالعربية اتجهت صوب الفرنسية لتُكمل مسيرتك الأدبية باللغتين. ألم يُحدث لك الأمر إرباكاً معيناً؟ - أنا خريج المدرسة الجزائرية، من أبناء الاستقلال، ودرست باللغتين العربية والفرنسية. أولى تجاربي القصصية كانت بالفرنسية، علماً أنني تعلمتُ العربية في المدرسة والأمازيغية على لسان أمي. عشتُ في هذا الفضاء اللغوي من دون أي حكم مسبق على اللغة، لأن اللغات الثلاث كانت موجودة في القلب والعقل أيضاً. في الجزائر لا اللغة العربية مظلومة ولا الفرنسية. اللغة المظلومة والمقهورة هي الأمازيغية. لم أشعر يوماً بذنب لأنني أكتب بالفرنسية، فما كان يعاني منه الجيل الأول والثاني من كتاب الرواية الجزائرية بالفرنسية ناتج أصلاً عن عدم معرفتهم للغتهم «الأم». أما تجربتي فتقوم على توازن لغوي، وليست حرباً لغوية أبداً. أنا في حرب ضدّ التخلف بكل اللغات. أكتب بالفرنسية فأشعر بتوازن داخلي لأنّ لي قراءً من الجزائر بالآلاف، وتعتبر رواياتي بالفرنسية أكثر الروايات مبيعاً في الجزائر. وإن كنت أنشر في واحدة من أكبر الدور الفرنسية «فايار»، لكنني أصرّ دائماً على أن تكون رواياتي بين يديّ القارئ الجزائري وبطبعة جزائرية، وأسعد كثيراً حين أقيم لقاءات مع القراء في المدن الجزائرية الداخلية البعيدة عن العاصمة وأجدني بين قراء كثر من كل الأجيال. أن تكتب بالفرنسية في جزائر اليوم فأنت لست غريباً أبداً، بل إنك بين قرائك ولا سيما من الجيل الجديد. بماذا تردّ إذاً على من يقول إنّ الرواية الجزائرية بالفرنسية انتهت؟ - صحيح أنّ بعض الأصوات الماضوية التقليدية من أشباه المثقفين يحاولون القول إنّ الرواية الجزائرية بالفرنسية انتهت وماتت، إلاّ أنّ الحياة الأدبية في الجزائر تفاجئهم كل يوم بأسماء روائية وشعرية جديدة تبرز باللغة الفرنسية. لذا أعتقد أن علينا إعادة قراءة ظاهرة الكتابة بالفرنسية داخل الجزائر وكذا حضور هذه اللغة في الحياة اليومية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية بعيداً عن «إحساس» الماضي. بمعنى أن نقرأها قراءة إيجابية لأنّ وجود هذه اللغة ينوّع الثقافة ويثري الخيال الجزائري العام. وبعيداً عن النفاق السياسي والثقافي، ونظراً إلى الحضور المستمر والمتصاعد للغة الفرنسية في الجزائر، ونظراً إلى دورها أيضاً في المجتمع الثقافي والفكري والتعليمي والسياسي، علينا أن نعيد النظر في قيمة اللغة الفرنسية في الجزائر. مفهوم «اللغة الأجنبية» لا يمكنه أن ينطبق على اللغة الفرنسية في الجزائر، لكونها ما زالت، بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، هي اللغة التي تُكتب بها المواثيق الرسمية وتتكلم بها الطبقة السياسية، وهي لغة العامة أيضاً. فالكتابة بالفرنسية هي البحث عن مغامرة مختلفة، والمواءمة بين العربية والفرنسية في الكتابة الإبداعية يُشعرني بأنني أعزف على آلتين موسيقيتين، لا يمكن أن أقول إن هذه الآلة هي أفضل من تلك، أو إن هذه الآلة قد تغنينا عن تلك، فالنغم هو في هذا التشكيل والإمتاع هو في هذا الجمع بين الآلتين، لكنّ الفرنسية الموجودة في الجزائر هي ليست الفرنسية الموجودة في باريس أو في منطقة الكيبيك، فالجزائري يتكلم الفرنسية بطريقته الخاصة. الجزائريون «جزأروا» الفرنسية العامة فإنّها أيضاً وفي النصوص الروائية أيضاً، بما فيها النصوص التي أكتبها، ويكتبها روائيون آخرون من جيلي. نحن نمارس اختراقاً للفرنسية من خلال إسكان لغة أخرى فيها، كالعربية أو الأمازيغية أو هما معاً. فالفرنسية التي أكتب بها، حتى وإن كانت محبوبة لدى القارئ الفرنسي والفرنكفوني في العالم، تبقى هي اللغة الفرنسية الجزائرية. أنت لا توافق إذاً كاتب ياسين في مقولته الشهيرة «الفرنسية غنيمة حرب»؟ - أنا أنتمي إلى جيل غير جيل كاتب ياسين، ذاك جيل المحنة الوطنية، جيل الحلم الاستقلالي، أمّا أنا فجيل الاستقلال، جيل أعطاب الاستقلال، جيل محنة الديموقراطية والحرية والعدالة والاختلاف. بهذا المعنى أنا لا أفهم اللغة الفرنسية كما فهمها كاتب ياسين، وعلاقتي بها ليست علاقة توتر وحرب كما كان يفهمها كاتب ياسين، أنا أعتبر اللغة الفرنسية «مستعمرتي»، وأقول في هذا السياق «أنا المستعمر الجديد للغة الفرنسية». فاللغة ملكية مشاع والمبدع له الحق في وضع اليد عليها والإقامة فيها. في حوار أجريته مع الأفغاني عتيق رحيمي قال إنّه لجأ إلى الفرنسية في «حجر الصبر» لأنّه احتاج مزيداً من الحرية، معتبراً أنّ اللغة الأصلية لها حضور الأم والأب، بمعنى أنها تُقيّد الروائي وتُحرجه. فهل منحتك الفرنسية حرية أكبر في كسر التابوات و «فضح» أعطاب مجتمعك، وإلاّ فكيف تُفسّر الجرأة التي بلغت ذروتها في رسم شخصية كسيلة في روايتك الصادرة بالفرنسية «وليمة أكاذيب»؟ - كل اللغات جميلة، وكل اللغات قادرات على قول ما نريد قوله، ما نريد كتابته، إذا ما فهمنا أسرارها، لكنّ اللغة الفرنسية تنتمي طبعاً إلى مجتمع بمؤسسات أكثر ديموقراطية من ذلك المجتمع الذي تعيش فيه اللغة العربية. وصحيح أن في العربية كتاباً كباراً من أمثال محمود درويش وأدونيس ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف ومحمود المسعدي وغيرهم، إلا أن المؤسسات التي تسيّر العربية هي مؤسسات متكلسة ومتحجرة. فكلما مسست شيئاً في الكتابة وجدت رقيباً ينهض ليحاسبك أو يعاتبك أو يمنعك أو يقمعك أو يسجنك أو يقتلك أو يوقف كتابك عند حدود دولة شقيقة. الكاتب العربي ليس بخير والكِتاب العربي ليس في المستوى الحضاري المطلوب. وأنا أعطيت عهداً أن لا أخون قارئي، فما أكتبه بالفرنسية أكتبه بالعربية، الإشكاليات ذاتها والمحظورات نفسها أطرحها في اللغتين، وأعرف أن كثيراً من رواياتي ممنوعة في كثير من معارض الكتب، وروايتي الأولى «صهيل الجسد» مُنعت في كل البلدان العربية وسُجن الناشر السوري بسببها بعدما أغلقت داره وحوكم اتحاد الكتاب لأنه منح رخصة النشر. عين الرقيب العربي لا تنام، قد تقوم بقيلولة ولكنها لا تنام أبداً. كثيرون من الكتّاب والنقاد الجزائريين يتذمرون من غياب الأسماء الجزائرية عن الجوائز العربية الكبرى. كيف ترى إلى هذا الأمر؟ وما هي نظرتك إلى الجوائز العربية خصوصاً أنّك تشكو من الواقع العربي بسياساته وممارساته الثقافية والفكرية واليومية؟ - لا محمد ديب ولا بروست حصل على جوائز كبيرة، لكنّ القارئ كان هو جائزتهما الكبرى. الجوائز الأدبية المعاصرة عند العرب هي ظاهرة جديدة، إنها إيجابية من حيث أنها تكرس حالة من الانتظار الثقافي وأيضاً التقويم الأدبي الموسمي. لكنني أتساءل مرات: هل خرج العرب من فلسفة «أعطه كيساً ذهباً» إلى فلسفة الجائزة. لا نيّات سيئة أحملها تجاه هذا الموضوع ولكن بصراحة تُخيفني شللية الجوائز العربية التي يختلط فيها السياسي الفج بالإبداعي. ومن ناحية أخرى، ثمة أدب روائي لم يُخلق للجوائز، أنا أنتمي إلى الروائيين الذين يكتبون أعمالاً لا تُصنّف ضمن خانة رواية الجائزة لأنها رواية التكسير ورواية إدانة ثقافة النفاق وتعرية «الكبت» الذي يعيشه الإنسان العربي والمغاربي. إنها روايات من دون مساومة.